متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
مناظرته مع أبي قرة
الكتاب : حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ج1    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)
     
    مناظرة أبي قرة للامام : وتصدى الإمام الرضا ( عليه السلام ) لتزييف الشبه وإبطالها ، التي أثيرت حول العقيدة الاسلامية ، وقد قصد أبو قرة خراسان ؟؟ لامتحان الإمام ( عليه السلام ) ، وطلب من صفوان بن يحيى وهو من خواص الامام أن يستأذن منه للدخول عليه ، فأذن الامام له ، فلما تشرف بالمثول أمامه سأله عن أشياء من الحلال والحرام ، والفرائض والاحكام فأجابه عنها ، ثم سأله عن بعض قضايا التوحيد وهي :
    س 1 ـ أخبرني جعلني الله فداك عن كلام الله لموسى ؟ ....
    ج 1 ـ الله أعلم بأي كلمه بالسريانية أم بالعبرانية ....
    وأخرج أبو قرة لسانه ، وقال : إنما أسألك عن هذا اللسان ومعنى ذلك أنه هل كلمه بلسان كلسان الانسان ؟
    فرد الامام عليه ذلك بقوله : سبحان الله عما تقول : ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون ، ولكنه تبارك وتعالى ليس كمثله شئ ، ولا كمثله قائل ولا فاعل ....
    وانبرى أبو قرة قائلا : كيف ذلك ؟ .....


(131)

    فقال ( عليه السلام ) : كلام الخالق لمخلوق ، ليس ككلام المخلوق لمخلوق ، ولا يلفظ بشق فم ولسان ، ولكن يقول : ( كن ) فكان بمشيئته ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير تردد في نفس ؟ ....
    ان كلام الله تعالى ليس بواسطة الجارحة كما في كلام الانسان ، فإنه تعالى يستحيل عليه ذلك ، إذ ليس كمثله شئ ، ولا قائل.
    س 2 ـ ما تقول في الكتب ؟ ....
    ج 2 ـ التوراة والإنجيل والزبور ، والفرقان ، وكل كتاب انزل كان كلام الله ، أنزله للعالمين نورا وهدى ، وهي كلها محدثة ، وهي غير الله حيث يقول : ( ويحدث لهم ذكرا ) (1) وقال : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم إلا استمعوه وهم يلعبون ) (2) والله أحدث الكتب كلها التي أنزلها ...
    س 3 ـ هل تفنى ؟ ـ أي الكتب ـ.
    ج 3 ـ أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فان ، وما سوى الله فعل الله ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان فعل الله ، ألم تسمع الناس يقولون : رب القرآن وان القرآن يقول يوم القيامة : يا رب هذا فلان ـ وهي أعرف به منه ـ قد أظمأت نهاره وأسهرت ليله ، فشفعني فيه وكذلك التوراة والإنجيل والزبور وهي كلها محدثة ، مربوبة.
    أحدثها من ليس كمثله شئ ، هدى لقوم يعقلون ، فمن زعم أنهن لم يزلن معه ، فقد أظهر : أن الله ليس بأول قديم ، ولا واحد ، وان الكلام لم يزل معه ، وليس له بدو ، وليس بإله ....
    س 4 ـ إنا روينا : إن الكتب كلها تجئ يوم القيامة ، والناس في صعيد واحد ، قيام لرب العالمين ، ينظرون حتى ترجع فيه ، لأنها منه ، وهي جزء منه ، فإليه تصير ..
    ج 4 ـ هكذا قالت النصارى في المسيح انه روحه ، جزء منه ، ويرجع فيه ، وكذلك قالت المجوس : في النار والشمس أنهما جزء منه ترجع فيه. تعالى ربنا أن يكون متجزيا أو مختلفا ، وإنما يختلف ، ويأتلف المتجزي لان كل متجزي متوهم



1 ـ سورة طه / آية 113.
2 ـ سورة البقرة / آية 21.


(132)

والكثرة والقلة مخلوقة دالة على خالق خلقها ...
    س 5 ـ إنا روينا : إن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين ، فقسم لموسى الكلام ولمحمد ( صلى الله عليه وآله ) الرؤية ؟ ....
    ج 5 ـ فمن المبلغ عن الله الثقلين : الجن والإنس ، إنه لا تدركه الابصار ، ولا يحيطون به علما ، وليس كمثله شئ ، أليس محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ....
    بلى ...
    وأوضح الإمام ( عليه السلام ) له الامر ، وكشف ما التبس عليه قائلا : كيف يجئ رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم : أنه جاء من عند الله ، وانه يدعوهم إلى الله بأمر الله ، ويقول : إنه لا تدركه الابصار ولا يحيطون به علما ، وليس كمثله شئ ، ثم يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطت به علما ، وهو على صورة البشر ، أما تستحيون ؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا ؟ أن يكون أتى عن الله بأمر ثم يأتي بخلافه من وجه آخر .....
    س 6 ـ إنه يقول : ( ولقد رآه نزلة أخرى .. ) (1).
    ج 6 ـ ان بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) يقول : ما كذب فؤاد محمد ( صلى الله عليه وآله ) ما رأت عيناه ، فقال : ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) فآيات الله غير الله وقال : ( ولا يحيطون به علما ) (2) فإذا رأته الابصار فقد أحاط به العلم ، ووقعت المعرفة ....
    س 7 ـ فنكذب بالرواية ؟ ...
    ج 7 ـ إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذبتها ، وما أجمع المسلمون عليه أنه ـ أي الله تعالى ـ لا يحاط به علما ، ولا تدركه الابصار ، وليس كمثله شئ ....
    لقد وضع الإمام ( عليه السلام ) لصفة الخبر وزيفه مقياسا وهو أن الخبر ان اتفق مع القرآن الكريم فهو صحيح ، وإلا فهو باطل.
    س 8 ـ ما معنى قوله تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ... ) (3) ؟



1 ـ سورة النجم / آية 13 وما بعدها.
2 ـ سورة طه / آية 11.
3 ـ سورة الإسراء / آية 1.


(133)

    ج 8 ـ لقد أخبر الله تعالى أنه أسرى به ، ثم أخبر ـ أي الله ـ أنه لم أسري به ـ أي أخبر الله عن العلة في هذا الاسراء ـ فقال : ( لنريه من آياتنا ) (1) فآيات الله غير الله ، فقد اعذر ، وبين لم فعل به ذلك ، وما رآه ، وقال : ( فبأي حديث بعد الله وآياته تؤمنون ) (2).
    س 8 ـ أين الله ؟ ....
    ج 8 ـ الأين مكان ، وهذه مسألة شاهد عن غائب ، فالله تعالى ليس بغائب ، ولا يقدمه قادم ، وهو بكل مكان ، موجود مدبر ، صانع ، حافظ ، ممسك السماوات والأرض ...
    س 9 ـ أليس هو فوق السماء دون ما سواها ؟ ...
    ج 9 ـ هو الله في السماوات ، وفي الأرض ، وهو الذي في السماء إله ، وفي الأرض إله ، وهو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء وهو معكم أينما كنتم ، وهو الذي استوى إلى السماء وهي دخان ، وهو الذي استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، وهو الذي استوى على العرش ، قد كان ولا خلق ، وهو كما كان إذ لا خلق ، لم ينتقل مع المنتقلين .....
    س 10 ـ فما بالكم إذا دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء ؟ ...
    ج 10 ـ ان الله استعبد خلقه بضروب من العبادة ولله مفازع يفزعون إليه ، ومستعبد فاستعبد عباده بالقول والعلم ، والعمل والتوجه ، ونحو ذلك استعبدهم بتوجيه الصلاة إلى الكعبة ، ووجه إليها الحج والعمرة واستعبد خلقه عند الدعاء ، والطلب ، والتضرع ببسط الأيدي ، ورفعها إلى السماء حال الاستكانة ، وعلامة العبودية والتذلل له ...
    س 11 ـ من أقرب إلى الله الملائكة أو أهل الأرض ؟ ....
    ج 11 ـ ان كنت تقول بالشبر والذراع ، فان الأشياء كلها باب واحد هي فعله لا يشتغل ببعضها عن بعض ، يدبر أعلى الخلق من حيث يدبر أسفله ، ويدبر أوله من حيث يدبر آخره من غير عناء ، ولا كلفة ولا مؤنة ، ولا مشاورة ، ولا نصب وان كنت تقول : من أقرب إليه في الوسيلة ، فأطوعهم له وأنتم ترون أن أقرب ما



1 ـ سورة الإسراء / آية 1.
2 ـ سورة الجاثية / آية 5.


(134)

يكون العبد إلى الله ، وهو ساجد ، ورويتم أن أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلى الخلق وأحدهم من أسفل الخلق.
    وأحدهم من شرق الخلق ، وأحدهم من غرب الخلق فسأل بعضهم بعضا فكلهم قال : من عند الله أرسلني بكذا وكذا ، ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل ...
    س 12 ـ أتقر أن الله محمول ؟ ...
    ج 12 ـ كل محمول مفعول ، ومضاف إلى غيره محتاج فالمحمول اسم نقص في اللفظ ، والحامل فاعل ، وهو في اللفظ ممدوح ، وكذلك قول القائل : فوق ، وتحت ، وأعلى ، وأسفل ، وقد قال الله تعالى : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها.
    ولم يقل في شئ من كتبه انه محمول بل هو الحامل في البر والبحر ، والممسك للسماوات والأرض ، والمحمول ما سوى الله ، ولم نسمع أحدا آمن بالله وعظمه قط ، قال في دعائه : يا محمول ....
    س 13 ـ أفنكذب بالرواية ؟ ان الله إذا غضب يعرف غضبه الملائكة الذين يحملون العرش ، يجدون ثقله في كواهلهم فيخرون سجدا ، فإذا ذهب الغضب ، خف فرجعوا إلى مواقفهم ...
    ج 13 ـ اخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا ، والى يوم القيامة ، فهو غضبان على إبليس ، وأوليائه أو عنهم راض ؟ ...
    وأيد أبو قرة كلام الامام قائلا : نعم هو غضبان عليه ...
    وانبرى الامام قائلا : ويحك كيف تجترئ ان تصف ربك بالتغير من حال إلى حال ، وانه يجري عليه ما يجري على المخلوقين ؟ سبحانه لم يزل مع الزائلين ، ولم يتغير مع المتغيرين ...
    واستولى الذهول على أبي قرة ، وحار في الجواب وانهزم من المجلس ، وهو مندحر قد أترعت نفسه بالغيظ ، والحقد على الامام.
    مناظرته مع الجاثليق :
    ومن بين الاجراءات التي اتخذها المأمون لامتحان الامام لعله يظفر بتعجيزه أنه



1 ـ الاحتجاج 2 / 185 ـ 189.


(135)

أوعز إلى وزيره الفضل بن سهل أن يجمع له الاعلام المتكلمين من أصحاب المقالات والأديان ، مثل الجاثليق (1). ورأس الجالوت (2) ، والهربذ الأكبر (3) وأصحاب زردهشت (4) ونسطاس الرومي (5) وسائر المتكلمين فجمعهم الفضل في بلاط المأمون ، ثم أدخلهم عليه فقابلهم بمزيد من الحفاوة والتكريم ، وعرض عليهم ما يرومه قائلا :
    إنما جمعتكم لخير ، وأحببت أن تناظروا ابن عمي المدني ، القادم علي ، فإذا كان بكرة فاغدوا علي ، ولا يتخلف منكم أحد ....
    فأجابوه بالسمع والطاعة ، والامتثال لامره.
    وأمر المأمون ياسر الخادم أن يدعو الامام لمناظرة علماء الأديان في اليوم الثامن ، فخف ياسر إلى الامام وأبلغه مقالة المأمون فأجابه إلى ذلك
    والتفت الامام إلى الحسن بن محمد النوفلي فقال له : يا نوفلي أنت عراقي ، ورقة العراقي غير غليظة ، فما عندك في جمع ابن عمي علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات ...
    وعرف النوفلي غاية المأمون ، فقال للامام :
    جعلت فداك يريد الامتحان ، ويحب أن يعرف ما عندك ، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان ، وبئس والله ما بنى ...
    وسارع الامام قائلا : وما بناؤه في هذا الباب ؟ ....
    وعرض النوفلي على الامام ما يحذره ويخافه عليه منهم قائلا :
    ان أصحاب الكلام والبدع خلاف العلماء وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر ، وأصحاب المقالات والمتكلمون ، وأهل الشرك أصحاب انكار ومباهتة ، إن احتججت عليهم بأن الله واحد ، قالوا : صحيح وحدانيته ، وإن قلت : إن محمدا ( صلى الله عليه وآله ) رسول ، قالوا : ثبت رسالته ، ثم يباهتون الرجل ـ وهو مبطل عليهم بحجته ـ ويغالطونه حتى يترك قوله ، فاحذرهم جعلت فداك ....



1 ـ الجاثليق : رئيس الأساقفة.
2 ـ الجالوت : هو أحد علماء اليهود.
3 ـ الهربذ : هو من علماء الهنود.
4 ـ في نسخة : زرادشت وهو من تلاميذ بعض الأنبياء ، وقيل : إنه مرسل من قبل بعض الأنبياء إلى بني إسرائيل.
5 ـ النسطاس : عالم بالطب.


(136)

لقد أعرب النوفلي عن مخاوفه من هؤلاء الذين يحاججهم الامام لأنهم لا يبغون الوصول إلى الواقع ، والتعرف على الحق ، وهم دوما يعتمدون على المغالطات للوصول إلى أهدافهم الرخيصة.
    وأزال الامام ما في نفس النوفلي من المخاوف قائلا أتخاف أن يقطعوا علي حجتي ؟ ... :
    انهم أمام بحر من العلم ، وطاقات هائلة من الفضل ، فكيف يقطعون على الامام حجته ، وسارع النوفلي فقال : لا والله ما خفت عليك قط ، وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم ، إن شاء الله ...
    وانبرى الامام قائلا : يا نوفلي ، أتحب أن تعلم متى يندم المأمون ؟ ...
    نعم ...
    إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزبور بزبورهم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم ، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم ، وعلى أهل الروم بروميتهم ، وعلى أهل المقالات بلغاتهم ، فإذا قطعت كل صنف ، ودحضت حجته ، وترك مقالته ، ورجع إلى قولي ، علم المأمون أن الذي هو بسبيله ليس بمستحق له ، فعند ذلك تكون الندامة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ....
    لقد كشف الامام عليه بهذه الكلمات عما يملكه من ثروات علمية لا تحد ، وانه باستطاعته أن يناظر جميع أهل الأديان والمذاهب ، ويفند أوهامهم ، ويوضح لهم الحق ، وإذا استبان ذلك للمأمون فإنه يندم على هذه الاجراءات ، ويظهر له أنه على غير صواب.
    ولما انقضى النهار ، واقبل اليوم الثاني خف الفضل بن سهل مسرعا إلى الإمام ( عليه السلام ) ، فقال له : جعلت فداك ان ابن عمك ـ يعني المأمون ـ ينتظرك ، اجتمع القوم ، فما رأيك في اتيانه ؟ ....
    فأجابه الامام أنه مستعد للحضور ، وانه قادم على المأمون ، وخرج الامام ، وهو بهيبة تعنو لها الجباه ، فكان يلهج بذكر الله ودخل على المأمون وكان المجلس



(137)

مكتظا بالطالبيين والهاشميين ، وقادة الجيش والعلماء ، من مسلمين وغيرهم ، وقام المأمون وجميع من في المجلس تكريما وتعظيما للامام ، وجلس الامام ، والناس وقوف احتراما له ، فأمرهم المأمون بالجلوس ، وبعدما استقر المجلس بالامام التفت المأمون إلى الجاثليق.
    فقال له : يا جاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر ، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا ( صلى الله عليه وآله ) ، وابن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فأحب أن تكلمه وتحاجه ، وتنصفه ....
    وانبرى الجاثليق قائلا : يا أمير المؤمنين ، كيف أحاج رجلا يحاج علي بكتاب أنا منكره ونبي لا أو من به ....
    لقد حسب الجاثليق أن الإمام ( عليه السلام ) يستدل على ما يذهب إليه بآيات من القرآن الكريم ، أو بكلمات من الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو لا يؤمن بذلك ، وانما يبغي دليلا وبرهانا من كتبهم.
    ورد الامام عليه مقالته : يا نصراني فان احتججت عليك بإنجيلك أتقر به ؟ ....
    وسارع الجاثليق قائلا : هل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل ، نعم والله أقربه ....
    سل عما بدا لك ، واسمع الجواب ...
    س 1 ـ ما تقول في نبوة عيسى ، وكتابه هل تنكر منهما شيئا ؟ ...
    ج 1 ـ أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه ، وما بشر به أمته ، وأقرت به الحواريون ، وكافر بنبوة عيسى لم يقر بنبوة محمد وكتابه ، ولم يبشر به أمته ....
    وسارع الجاثليق قائلا : أليس انما تقطع الاحكام بشاهدي عدل ؟ ....
    بلى ....
    فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد ممن لا تنكره النصرانية ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا ....
    وصدق الامام مقالته ، فقد جاء بالنصف قائلا : الآن جئت بالنصفة ، الا تقبل مني العدل ، والمقدم عند المسيح بن مريم ؟ ....



(138)

    من هذا العدل سمه لي ؟ ....
    ما تقول : في يوحنا الديلمي ؟ ....
    وسارع الجاثليق قائلا : بخ بخ ، ذكرت أحب الناس إلى المسيح ...
    وانبرى سليل النبوة قائلا : أقسمت عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال ، إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي : وبشرني به ، أنه يكون من بعدي ، فبشرت به الحواريين ، فآمنوا به ...
    ولم يسع الجاثليق انكار ذلك إلا أنه قال : إن يوحنا لم يسمه لنا ، حتى نعرفه.
    ورد عليه الامام : فان جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد ، وأهل بيته ، وأمته أتؤمن به ؟ ....
    وقال بصوت خافت : أمر سديد ....
    والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى نسطاس الرومي ، فقال له : كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل ؟ ....
    ما أحفظني له ...
    وخاطب الإمام ( عليه السلام ) الجاثليق فقال له : ألست تقرأ الإنجيل ؟ ...
    بلى ...
    خذ على السفر الثالث ، فان كان فيه ذكر محمد ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته وأمته فاشهدوا لي ، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي .... وتلا الامام عليه السفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) التفت إلى الجاثليق فقال له : إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل ؟ .....
    نعم ....
    ثم قرأ ما في السفر الثالث من ذكر النبي وأهل بيته وأمته ، وأضاف قائلا : ما تقول : هذا قول عيسى بن مريم ، فان كذبت ما نطق به الإنجيل فقد كذبت موسى وعيسى ، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك ، القتل لأنك تكون قد



(139)

كفرت بربك ونبيك ، وكتابك ....
    وراح الجاثليق يقول : لا أنكر ما قد بان لي من الإنجيل ، واني لمقر به ....
    والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى الحاضرين ، فطلب منهم الشهادة على اقراره ثم قال له : يا جاثليق سل عما بدا لك .... وسارع الجاثليق سائلا :
    س 2 ـ اخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدتهم ، وعن علماء الإنجيل كم كانوا ؟ ....
    ج 2 ـ على الخبير سقطت ، أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلا وكان أفضلهم وأعلمهم ( لوقا ) واما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال :
    يوحنا الأكبر ـ يا حي ـ و يوحنا بقرقيسيا ، ويوحنا الديلمي بزخار ، وعنده كان ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وذكر أهل بيته ، وهو الذي بشر أمة عيسى وبني إسرائيل به وأضاف الامام قائلا :
    والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) وما ننقم على عيسى شيئا إلا ضعفه ، وقلة صيامه وصلاته ...
    وحينما سمع الجاثليق الكلمات الأخيرة من هذا فصاح : أفسدت ، والله علمك ، وضعف أمرك ، وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل الاسلام ....
    وقابله الامام بهدوء فقال له : وكيف ذلك ؟ ....
    وفقد الجاثليق صوابه ، وراح يقول : من قولك : إن عيسى كان ضعيفا ، قليل الصوم والصلاة ، وما أفطر عيسى يوما قط ، وما نام بليل قط ، وما زال صائم الدهر ، قائم الليل ...
    وانبرى الامام ينسف العقيدة المسيحية الزاعمة بأن المسيح إله يعبد من دون الله ، فقال ( عليه السلام ) : لمن كان يصوم ـ أي المسيح ـ ويصلي ؟ ....
    فانقطع الجاثليق عن الجواب ، ولم يدر ما يقول :
    والتفت الامام إليه قائلا :



(140)

إني أسألك عن مسألة ؟ ....
    سل فان كان عندي علمها أجبتك ....
    ووجه الامام إليه السؤال التالي : ما أنكرت أن عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله ؟ ... وأجاب الجاثليق : أنكرت ذلك من قبل ، ان من أحيى الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص فهو رب مستحق لان يعبد ...
    ورد الامام عليه مقالته : فان اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى ( عليه السلام ) ، مشى على الماء ، وأحيى الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، فلم لا تتخذه أمته ربا ، ولم يعبده أحد من دون الله عزوجل ، فأحيى خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة.
    يا رأس الجالوت ، أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة اختارهم ( بخت نصر ) من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس ، ثم انصرف بهم إلى بابل ، فأرسله الله عزوجل إليهم ، فأحياهم ، هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكر ....
    وبهر الجاثليق بمعلومات الامام عنهم ، وقال : قد سمعنا به ، وعرفناه ....
    والتفت الامام إلى يهودي كان في المجلس ، فأمره أن يقرأ إحدى فصول التوراة ، فأخذ في قراءتها ، وكان فيه ذكر لبعض الأنبياء.
    واقبل الامام على رأس الجالوت فقال له : أهؤلاء ـ يعني الأنبياء ـ كانوا قبل عيسى ، أم عيسى كان قبلهم ؟ ....
    بل كانوا قبله ....
    وأخذ الامام يتلو عليهم بعض معجزات جده الرسول الأعظم خاتم الأنبياء قائلا : لقد اجتمعت قريش على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسألوه أن يحيى لهم موتاهم ، فوجه معهم علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فقال له : اذهب إلى الجبانة ، فناد بأسماء هؤلاء الرهط ، الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك ، يا فلان ، يا فلان يقول لكم محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قوموا بإذن الله عزوجل ، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم ، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم ، ثم أخبروهم أن محمدا قد بعث نبيا ، فقالوا : وددنا أنا أدركناه ، فنؤمن به ، ولقد أبرأ الأكمه والأبرص



(141)

والمجانين ، وكلمته البهائم والطير والجن والشياطين ، ولم نتخذه ربا من دون الله ، ولم ننكر لاحد من هؤلاء فضلهم فان اتخذتم عيسى ربا جاز لكم ان تتخذوا اليسع وحزقيل ربين ، لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم ، من احياء الموتى وغيره.
    ثم إن قوما من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت ، فأماتهم الله في ساعة واحدة ، فعمد أهل القرية فحظروا عليهم حظيرة ، فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم ، وصاروا رميما ، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ، ومن كثرة العظام البالية ، فأوحى الله أتحب ان أحييهم لك فتنذرهم ؟
    قال : نعم. فأوحى الله أن نادهم ، فقال أيتها العظام البالية قومي بإذن الله ، فقاموا احياء أجمعين ينفضون التراب عن رؤوسهم ، ثم إبراهيم خليل الله حين اتخذ الطير فقطعهن قطعا ، ثم وضع على كل جبل منهم جزءا ثم ناداهن فأقبلن سعيا إليه ، ثم موسى بن عمران وأصحابه السبعون الذين اختارهم ، صاروا معه إلى الجبل ، فقالوا له : إنك قد رأيت الله فأرناه. فقال لهم : إني لم أره.
    فقالوا : لن نؤمن حتى نرى الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم ، فبقي موسى وحيدا.
    فقال : يا رب ! اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم ، فارجع أنا وحدي ، فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به فلو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ، أفتهلكنا بما فعل السفهاء منها ؟ فأحياهم الله عزوجل من بعد موتهم ، وكل شئ ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه ، لان التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به ، فان كان كل من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتخذ ربا من دون الله ، فاتخذ هؤلاء كلهم أربابا ، ما تقول يا نصراني ؟.
    لقد نعى الإمام ( عليه السلام ) على النصارى اتخاذهم السيد المسيح ربا من دون الله لأنه أحيى الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص فقد جرت أمثال هذه المعاجز إلى سيد الأنبياء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وبعض الأنبياء العظام ، ولم يتخذوا أربابا يعبدون من دون الله تعالى. وانبرى الجاثليق فخاطب الامام بعد ما سمع منه هذه الكلمات المشرقة فقال :



(142)

    القول : قولك ، ولا إله إلا الله ....
    والتفت الامام إلى رأس الجالوت ، فقال له : اقبل علي ، أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران ، هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمد ( صلى الله عليه وآله ) وأمته إذا جاءت الأمة الأخيرة اتباع راكب البعير ، يسبحون الرب جدا ، جدا ، تسبيحا جديدا في الكنايس الجدد ـ أراد بها المساجد ـ فليفزع بنو إسرائيل إليهم ، والى ملكهم ، لتطمئن قلوبهم ، فان ما بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض ، هكذا هو مكتوب في التوراة ....
    وبهر الجالوت ، وراح يقول : نعم انا لنجد ذلك كذلك ...
    والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى الجاثليق فقال له : كيف علمك بكتاب شعيا ؟ ....
    اعرفه حرفا ، حرفا ...
    وخاطب الامام الجاثليق ورأس الجالوت فقال لهما : أتعرفان هذا من كلامه : يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار ، لابسا جلابيب النور ، ورأيت راكب البعير ضوءه ضوء القمر ...
    وطفقا قائلين : قد قال ذلك شعيا ...
    والتفت الامام إلى الجاثليق فقال له : أتعرف قول عيسى : اني ذاهب إلى ربكم وربي ، و البار قليطا جاء هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له ، وهو الذي يفسر لكم كل شئ ، وهو الذي بيده فضائح الأمم ، وهو الذي يكسر عمود الكفر ....
    وبهر الجاثليق ، وقال : ما ذكرت شيئا من الإنجيل الا ونحن مقرون به ...
    وراح الامام يقرره ان ما ذكره ثابت في الإنجيل قائلا : أتجد هذا في الإنجيل ثابتا ؟ ...
    نعم ...
    يا جاثليق : الا تخبرني عن الإنجيل الأول حين افتقدتموه عند من وجدتموه ؟



(143)

    ومن وضع لكم هذا الإنجيل ؟ ...
    وأخذ الجاثليق يتخبط خبط عشواء قائلا : ما افتقدنا الإنجيل الا يوما واحدا ، حتى وجدناه غضا طريا ، فأخرجه إلينا يوحنا ومتى ...
    فرد عليه الامام قائلا : ما أقل معرفتك بسنن الإنجيل وعلمائه ، فان كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل ؟ وانما الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم ، فان كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه ، ولكني مفيدك علم ذلك ، اعلم أنه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم ، فقالوا لهم : قتل عيسى بن مريم ، وافتقدنا الإنجيل ، وأنتم العلماء فما عندكم ؟ فقال لهم الوقا ومرقانوس ويوحنا ومتى ان الإنجيل في صدورنا نخرجه إليكم سفرا في كل أحد ، فلا تحزنوا عليه ، ولا تخلوا الكنائس فإنا سنتلوه عليكم في كل أحد سفرا سفرا حتى نجمعه كله.
    وأضاف الامام قائلا : ان الوقا ، ومرقانوس ، ويوحنا ومتى وضعوا لكم هذا الإنجيل ، بعدما افتقدتم الإنجيل الأول وإنما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ الأولين أعلمت ذلك ؟ ...
    وراح الجاثليق يبدي اكباره للامام ، ويعترف له انه لا علم له بذلك قائلا : أما قبل هذا فلم اعلمه ، وقد علمته الآن ، وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل ، وقد سمعت أشياء كما علمته ، شهد قلبي أنها حق ، واستزدت كثيرا من الفهم ...
    والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى المأمون ، والى من حضر من أهل بيته وغيرهم ، فطلب منهم أن يشهدوا عليه.
    فقالوا : شهدنا.
    ووجه كلامه صوب الجاثليق فقال له : بحق الابن وأمه ، هل تعلم أن متى قال في نسبة عيسى أنه المسيح بن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهود ، بن خضرون ؟ وقال : مرقانوس في نسبة عيسى انه كلمة الله أحلها في الجسد الآدمي فصارت انسانا !! وقال ـ ( الوقا ) : ان عيسى بن مريم وأمه كانا انسانين من لحم ودم فدخل فيهما



(144)

روح القدس ؟ ثم انك تقول : في شهادة عيسى على نفسه ، حقا أقول لكم : انه لا يصعد إلى السماء إلا من نزل منها ، إلا راكب البعير خاتم الأنبياء ، فإنه يصعد إلى السماء وينزل فما تقول في هذا القول ؟
    واعترف الجاثليق بما قالوه في المسيح ، وما قاله السيد المسيح في نفسه ، فقال : هذا قول عيسى لا ننكره ...
    فقال له الامام : فما تقول في شهادة الوقا ومرقانوس ومتى على عيسى وما نسبوا إليه ؟ ...
    وراح الجاثليق يزكي السيد المسيح ، ويكذب ما نسبوه له قائلا : كذبوا على عيسى ....
    والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى من حضر في مجلسه من القادة والعلماء قائلا : يا قوم أليس قد زكاهم ، وشهد انهم علماء الإنجيل وقولهم حق ؟ ...
    وبان الانكسار على الجاثليق وراح يلتمس من الامام أن لا يسأله فقال : يا عالم المسلمين أحب ان تعفيني من أمر هؤلاء.
    فأعفاه الامام ، ثم قال له : سلني عما بدا لك ...
    وبهر الجاثليق من علوم الامام التي هي امتداد ذاتي لعلوم جده سيد الكائنات محمد ( صلى الله عليه وآله ).
    وقال بخضوع واكبار للامام : ليسألك غيري ، فوالله ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك ...
    وأطرق الجاثليق برأسه إلى الأرض ، وعج المجلس بالتهليل والتكبير ، واستبان للمأمون وغيره ان الإمام ( عليه السلام ) نفحة قدسية من نفحات الملة ، فقد وهبه لهذه الأمة كما وهب آباءه ، ومنحهم من العلوم التي لا حد لها.

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net