متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الأدلة على الولاية
الكتاب : ولاية الفقيه في مذهب أهل البيت (عليهم السلام)    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

الأدلة على الولاية

   الاستدلال على الولاية المطلقة بعموم التنزيل الوارد في بعض الروايات

   منها : مقبولة ابن حنظلة

   ومنها : صحيحة ابن بزيع

   مناقشة للسيد الأستاذ(قدس سره)

   خلاصة مختار السيد الأستاذ(قدس سره) .

   إشكال على كون ولاية الفقيه من باب الحسبة

   دفع الإشكال

   الاستدلال على الولاية المطلقة بالتوقيع الوارد من قبل الحجة (عجل الله فرجه)

   كلام للشيخ الأنصاري

   الاستدلال على الولاية المطلقة برواية (الولي سلطان من لا سلطان له)

   الاستدلال على الولاية المطلقة برواية (العلماء ورثة الأنبياء) ..

   الاستدلال على الولاية المطلقة برواية (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) وغيره

 

واسْتُدِلَّ على ولاية الفقيه بأدلة:

منها: عموم التنزيل الوارد في الروايات، حيث دلَّتْ هذه الروايات على جَعْل الفقيه الجامع للشرائط قاضيًا وحاكمًا، إذ مع الالتزام بأن المجتهد مخوَّل للقضاء فلا بد من الالتزام بثبوت الولاية المطلقة له، وأنه يجوز أن يتصدى لكل ما يرجع إلى الولاية في عصر الغيبة، لأن الولاية من شؤون القضاء عرفًا، فتشملها العمومات والإطلاقات.

ففي مقبولة عمر بن حنظلة التي أنف ذكرها قال الراوي: (سألْتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك ؟ فقال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سُحْتًا وإن كان حقًا ثابتًا له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أَمَر الله أن يكفر به، قال الله-تعالى-: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِه[([1])، قلت: فكيف يصنعان ؟ قال: ينظران مَنْ كان منكم ممن قدر روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعَرَف أحكامنا فَلْيرضوا به حَكَمًا فإني قد جعلته عليكم حاكمًا، فإذا حَكَم بِحُكْمنا فلم يقبله منه فإنما استخَفَّ بحُكْم الله، وعلينا ردَّ، والرادُّ علينا الرادُّ على الله، وهو على حدِّ الشِّرْك بالله)([2]).

وَجْه الاستدلال بهذه الرواية: أن القضاة المنصوبِين من قبل الخلفاء غير الشرعيين ومن حُكَّام زمانهم (عليه السلام) ، كانوا يتصدّون لتلك الوظائف والمناصب، كما يلاحظ من سَبْر أحوالهم وسيرتهم، فإنَّ مقتضى الإطلاق أنه يترتَّب على القضاء جميع الآثار المطلوبة من القضاة، كنصْب القيّم على الصغار مع عدم الوصية لأجل التصرف بما فيه مصلحة لهم من جميع الجهات، في أموالهم وأنفسهم والولاية على الأوقاف والمرافق العامة، والحكم بالهلال وغير ذلك.

ويكشف عن ذلك كَشْفًا قطعيًا، صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: (مات رجلٌ من أصحابنا ولم يُوصِ، فَرُفِعَ أَمْرُه إلى قاضي الكوفة، فَصَيَّر عبدَ الحميد القيِّمَ بماله، وكان الرجل خلَّف وَرَثةً صِغارًا ومَتاعًا وجواريَ، فباع عبد الحميد المتاعَ، فلمّا أراد بَيع الجواري ضَعُف قلْبُه عن بَيْعِهِنَّ إذ لم يكن الميت صيَّر إليه وصِيَّتَه، وكان قيامُه فيها بأَمْر القاضي لأَنهُنَّ فُرُوج قال: فذكرت ذلك لأبي جعفر (عليه السلام) وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا ولا يوصي إلى أحد ويخلِّف جواريَ فيُقِيم القاضي رجلاً منَّا فيبيعهُنَّ أو قال: يقوم بذلك رجل منَّا فيضعُف قلْبُه لأَنهُنَّ فروج، فما ترى في ذلك ؟ قال: فقال (عليه السلام) : إذا كان القيِّمُ به مثلَك أو مثلَ عبد الحميد فلا بأس)([3]).

فإنَّ هذه الرواية صريحة في أَنَّ القُضاة كانوا يتصدُّون لنَصْب القيِّم ونحْوه من المناصب.

فإذا دلَّتْ رواية عمر بن حنظلة على أَنَّ المجتهد الجامع للشرائط قد جُعِل قاضيًا في الشريعة، دلَّتْ بإطلاقها على أَنَّ الآثار الثابتة للقضاة والحكام بأجمعها مترتبة على الفقيه، فإنَِّ هذا يقتضيه جَعْل المجتهد قاضيًا في مقابل قضاتهم، لأنَّ الغرض من نَصْبه كذلك ليس إلا عدم مراجعتهم إلى قضاة الجور، وقضاء حاجاتهم من قبل قضاتهم، فلو لم يكن الفقيه متمكنًا من إعطاء تلك المناصب، لم يكن جَعْل القضاوة موجبًا لرَفْع احتياجاتهم، إذ مع احتياجاتهم واضطرارهم في تلك الأمور إلى قضاة الجور لا معنى لنَهْيِهِمْ عن ذلك، فالولاية من شؤون القضاء.

ومع الالتزام بأنَّ المجتهد مخوَّل للقضاء، فلا بدَّ من الالتزام بثبوت الولاية المطلَقة له، وبجواز أن يتصدّى لما يرجع إلى هذه الأمور في عصر الغيبة.

مناقشة للأستاذ:

وناقش السيد الأستاذ الخوئي قده) في هذا الاستدلال: بأن القضاء معناه إنهاء الخصومة، ولذا سُمِّيَ القاضي قاضيًا لأنه بحُكْمه ينهي الخصومة ويفصلها، وأما أنه يتمكَّن من نَصْب القيِّم والوليِّ وغيرها من شؤون الولاية فهو أَمْر خارج عن مفهوم القضاء بالكلية.

وعليه: فالرواية التي دلَّتْ على نَصْب الفقيه قاضيًا، جَعَلَتْه بحيث ينفذ حُكْمه في المرافعات، ولا دلالة لها على نَصْب القيِّم والوليِّ والحكم بالهلال وغيرها.

وأما تصدِّي قضاة العامَّة لمنصب الولاية في غير المرافعات، فهو تنصيب من قِبَل حكامهم بعنوان الولاية لا بعنوان القضاء.

نعم، كان الخليفة ربما يعطي منصب القضاء لشخص، ومنصب الولاية لشخص آخر، وربما يعطي المنصبين لشخص واحد، فيكون ذا منصبين، لأَنَّ أحدهما تابع للآخر، ولم تكن الولاية من شؤون القضاء.

وأما الإشكال: بأنه لا ترتفع حاجتهم إلى قضاة الجور لو كان القاضي الشرعي في خصوص المرافعات.

فإنما يتمّ إذا كان القاضي الشرعي غير متمكن من التصرّف أصلاً، وأما إذا كان يجوز له التصرّف من باب الحسبة والقُرْبة، لا من باب الولاية فلا تبقى لأصحابهم حاجة في الترافع إلى قضاة الجور، لأنَّ هذه الأمور لا بدَّ من تحققها خارجًا، والشارع لا يرضى بتركها.

وهذا قد جُعِل وجهًا مستقلاً للاستدلال بعيدًا عن الرواية.

إلا أن جوابه: هو ما تقدَّم من أن الفقيه يتصرف بها من باب الحسبة، لأنها من الأمور القُرْبيّة، والفقيه هو القدر المتيقن ممن له الصلاحية في هذه الأمور، لأنه لا يحتمل أن يرخّص الشارع فيها -وهي من الأمور القُرْبيّة- غيرَ الفقيه، وذلك لا يكشف بأن الفقيه له الولاية المطلقة في عصر الغَيْبة حتى يتمكَّنَ من التصرُّف في غير موارد الضَّرورة، كما كان ذلك للنبي والإمام، يعني أنه يحق للفقيه التصرف في الأمور المذكورة من نَصْب القيَِم والولي والهلال ونحو ذلك، ولكن في موارد الضرورة، وليس مطلقًا لتكون له الولاية المطلقة في عصر الغيبة.

والذي يستكشف من حتمية هذه الأمور وضرورة وجودها عند الشارع، هو نفوذ تصرفات الفقيه في كل هذه الأمور مع الضرورة الشرعية حتى لا تضيع الحقوق والأوقاف، وحتى لا يكون هناك ظُلْم على القاصرين مع عدم وجود وليٍّ لهم.

وهذا هو المُستفاد من صحيحة ابن بزيع الآنفة، حيث قال له الإمام (عليه السلام) : (إذا كان القيِّم به مثلك أو مثل عبد الحميد فلا بأس)، حيث إنه (عليه السلام) لا يمكن أن يُهْمل هذه الأمور التي جعل لها ولاية أولية ذاتية، بعد زوال هذه الولاية بالموت أو بسبب آخر، لذلك أجاز الإمام (عليه السلام) التصرُّفَ إذا كان مثل ابن بزيع الفقيه.

فلو عبَّرنا عن هذا المقدار من الإجازة (ولاية)، فهي ولاية جزئية على الأمور المذكورة، لا ولاية مطلقة حتى في غير مورد الحاجة والضرورة، ولذلك لا يحق للوليِّ أن ينصب قيِّمًا أو متولِّيا بحيث لا ينعزل بموته، لأنَّ هذا من شؤون الولاية، حيث إنه بعد موته لا تبقى ضرورة، بل لا بد من الإجازة من فقيه آخر، لأنَّ هذا النحو من التنصيب من شؤون الولاية، لا من شؤون نفس التصرف، فيحق له أن يتصرف وينصب حسبةً لا ولايةً، بمعنى أنَّ الفقيه له حق التصرف، فيحق له التوكيل، فإذا مات ينعزل الوكيل -كسائر الوكلاء- بموت موكِّلهم، وليس على نحو الولاية.

ونتيجة ما ذكرناه: أنه لا يرجع إلى الفقيه في الأمور الحسْبية إلا في موارد الحاجة الشرعية، يعني في الموارد التي لو تصرَّف غيره فيها لا يكون التصرُّف نافذًا بل تجري فيها أصالة الاشتغال، كالتصرُّف في الأموال والأنفس والأعراض عندما تدعو الحاجة إلى التصرف، إذ لو تصرف غيره ممن لا ولاية له لا ينفذ تصرفه، بل تجري أصالة عدم نفوذ التصرُّف، فلو باع غير الولي أو زوَّج أو طلَّق فلا يكون تصرفه نافذًا، لأنَّ الأصل عدم نفوذ التصرُّف، لأصالة عدم نفوذ تصرُّف أحد في حق غيره، وحيث لا وليَّ لهذا الغير فالقدر المتيقن هو الفقيه، فلا يحق لغيره التصرُّف إلا بإذْنه، وإلا تجري أصالة الاشتغال كَسَهْم الإمام (عليه السلام) .

وذكر: أنَّ بقية الأخبار المستدَل بها على الولاية، قاصرة السند أو الدلالة.

وخلاصة ما يختاره (قده):

(أنَّ الولاية لم تثبت للفقيه في عصر الغَيْبة بدليل، وإنما هي مختصَّة بالنبي والأئمة (عليهم السلام) .

بل الثابت حسب ما يستفاد من الروايات: هو حجيَّة فتواه ونفوذ قضائه، وليس له التصرُّف في باقي الأمور التي هي من شؤون الولاية إلا من باب الِحْسبة والقربة، بمعنى نّفوذ تصرفه بنفسه أو بوكيله من باب الأخذ بالقدر المتيقن، لعدم جواز التصرف في مال الغير أو نفسه إلا بإذنه، ومع عدم إمكان إذن صاحب الشأن يحتاج جواز التصرف إلى ولاية أو إذن.

والولاية لم تثبت لغير المعصومين (عليهم السلام) ، ولا ولاية للفقيه لأنه لا دليل على ذلك، ولكنَّ الإذن ثابت للفقيه كقدر متيقن، لأنَّ هذه الأمور وضرورة وجودها تكشف كَشْفًا قَطْعيًا عن رضى المالك الحقيقي وهو الله-تعالى- بتصرُّف الفقيه الجامع للشرائط، فإن الثابت له هو جواز التصرُّف دون الولاية) انتهى موضحًا.

أقول: بناءً على الحسبة: لو قامَتْ الحكومة وَجَبَ على المؤمنين التصدِّي لاستمرارها وحِفْظها، حتى لا يليها الكفّار والفسقة، وكذلك لو لم تكن هناك حكومة، وأُريد قيامها بطريق مشروع من قِبَل الفقيه حِسْبةً، لأنها مما لا يرضى الله-تعالى- بتَرْكها وإهمالها، فهذه بما أنها من باب الحسبة، لا تثبُتْ بها صلاحية الفقيه في الأمور التي لم تصل إلى المستوى الضروري الذي لا يرضى الشارع بتركه، حتى لو كان فيها مصلحة وتحسين للبلاد وترفيه للعباد، كفتح الشوارع والتصرُّف في الأملاك الخاصة، وإنشاء المؤسَّسات التي فيها المصلحة ولكنّها تزاحم الأملاك الخاصة، وكذلك تقسيم الأراضي مع عدم رضى الملاّك ونحو ذلك من الأمور الكمالية أو الجمالية والعناوين الثانوية للبلاد، لأنه إذا لم يحرز عدم رضى الشارع بتركها، فهي ليسَتْ من الأمور الحسبية، فيقع التزاحم بين رأي الفقيه وصاحب الملك.

وكذا لو أصدر الفقيه أَمْرًا يراه ضروريًا، والمكلَّف لا يراه ضروريًا، فإنه لا يجب عليه الطاعة من باب الحسبة، ما دام مِلاك الحِسبة هو الضرورة، والمالك لا يراه ضروريًا ليطيع، وذلك مثل نظام المرور الذي يحفظ النظام والأرواح، وحِفْظ النظام واجب شرعا -كما أنف- بلا حاكم ولا حكومة، فلو رأى المكلَّف مَوْردًا لا يُخِلّ بالنظام وليس فيه ضرر أو ضرورة، فيخالف هذا الأمر،إلا أن يكون هذا النحو من المخالفة، من شأنه تضعيف الدولة واختلال النظام عندما يتصرَّف كل واحد بما لا يراه ضروريًا ولا ضررًا، وبذلك تعجز الدولة عن تحقيق المصالح المهمة التي يُقطع بعدم رضى الشارع بتركها.

ويُردّ هذا الكلام:

بأنه ليس الميزان هو ما يراه المكلف في الأمور الحسبية بالنسبة إلى نفسه، وإنما هي للفقيه، وهي نافذة حتى في حق الفرد، وإن لم يلزم من مخالفته اختلال النظام، فيجب عليه الإطاعة، والفرد لم ينظر إلى المجموع بل نظر إلى نفسه، فلا يحق له المخالفة.

لأنَّ السلطة في الأمور الحسبية إنما هي للفقيه وليست للأفراد، والمفروض أنه قد رأى الضرورة، فيجب على المكلَّف أن يمتثل وينفِّذ حُكْم الفقيه، لأنه لو سمح لكل فَرْد بهذا النحو لاعتقاده الخطأ، مع أن الكثير بل الأكثر يكون اعتقادهم خاطئًا، ويكفي خطؤه عندما يُضاف إلى تصرُّف الآخر وإنْ لم يكن خطأ، فقد خَرَق النظام، وضاع نظام الدولة بين الإيجاب والسلب، وبين التطبيق والرَّفْض بحسب قناعة الأفراد، وبذلك تنهار المصالح العامة.

فلا بدّ أن يكون الميزان هو الفقيه، لأنه متيقن في تنفيذ المصلحة وجواز التصرُّف.

وأما صلاحيته على الكماليات، والمصالح الثانوية غير الضرورية بنظره: فإن لم يخالف المُلْكية الفردية فلا إشكال، وإلا يكون الميزان النظر إلى النظام العام، وهو من القضايا المحمودة عند العقلاء، ومن مُعطَيات العقل العملي الذي يدرك ما ينبغي أن يُعمَل، فينضمّ إليه العقل النظري لتكون النتيجة: وجوب ما أدركه العقل العملي، ويكون الميزان في التطبيق من باب الحسبة في هذه الموارد هو الفقيه، لأنه قدر مُتيقَّن.

والنتيجة واحدة، إلا في الانعزال بموته مع مجرد الإذْن، وفي كوْن أَحَقيَّة التصرُّف له في موارد الضرورة والحاجة التي يريد الشارع وجودها ولا يرضى بتركها.

وأما لو قلنا بالولاية، فهي ثابتة للفقيه مطلقًا، حتى في غير حال الضرورة، ولا ينعزل مَنْ يُوَلِّيه بموته.

ومن جملة ما يُستدلُّ به:

التوقيعُ الواردُ من قِبَل الحجة (عجل الله فرجه) إلى إسحاق بن يعقوب، وقد تقدم ذكره، مع بيان أنَّ الظاهر صحة سنده، قال (عجل الله فرجه) : (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجَّتي عليكم، وأنا حجَّة الله عليهم)([4]).

وذكر الشيخ الأنصاري في مسألة أولياء التصرف([5]) في جملة كلامه:

أن الولاية بمعنى الاستقلال في التصرف لم يثبت بعموم، عدا ما ربما يُتَخيَّل من أخبار واردة في شأن العلماء مما سنشير إليه، وذكر مقبولة بن حنظلة والتوقيع المذكور.

ثم قال: (لكنَّ الإنصاف، بعد ملاحظة سياقها أو صَدْرها أو ذيلها، يقتضي الجزم بأنها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية، لا كونهم كالنبي والأئمة في كونهم أَوْلى من الناس بأموالهم، وإثبات عموم نيابة الفقيه عنه (عليه السلام) في هذا النحو من الولاية على الناس، ليقتصر في الخروج عنه على ما خرج بالدليل، دونه خَرْق القتاد !).

يعني: أن الأمر بالعكس، فإثبات ولايته في أي مورد يحتاج إلى دليل، فالولاية بالمعنى الأول -وهو استقلاله بالتصرُّف- لم تثبت بدليل إلا في موارد قليلة.

ثم ذكر الكلام في الولاية على الوجه الثاني، وهو عدم استقلال غيره بالتصرُّف، وكَوْن تصرُّف الغير منوطًا بإذنه، ومرجع هذا إلى كون نظره شرطًا في جواز تصرف غيره وإنْ لم يكن الفقيه مستقلاً بالتصرُّف، وبَيْن موارد الوجهين عموم من وجه.

ثم قال: (وحيث إنَّ موارد التوقُّف على إذْن الإمام (عليه السلام) غير مضبوطة، فلا بد من ذكر ما يكون كالضابط لها، فنقول:

كل معروف عُلِم من الشارع إرادة وجوده في الخارج، إن عُلم كونه وظيفة شخص خاص كنظر الأب في مال ولده الصغير، أو صنف خاص كالإفتاء والقضاء، أو كل من يقدر على القيام به كالأمر بالمعروف، فلا إشكال في شيء من ذلك.

وإن لم يعلم ذلك، واحتمل كونه مشروطًا في وجوده أو وجوبه بنظر الفقيه، وَجَبَ الرجوع فيه إليه.

ثم إن عَلِم الفقيه من الأدلة جواز توليه بعدم إناطته بنظر خصوص الإمام أو نائبه الخاص، تولاه مباشرةً أو استنابةً إن كان ممن يرى الاستنابة فيه، وإلا عطَّله، فإنّ كونَه معروفًا لا ينافي إناطته بنظر الإمام والحرمان عنه عند فَقْده (عليه السلام) كسائر البركات التي حُرِمْناها بفَقْده (عجل الله فرجه) ، ومرجع هذا إلى الشك في كون المطلوب: مطلق وجوده، أو وجوده من موجد خاص، فتجري البراءة عن وجوبه.

أما وجوب الرجوع إلى الفقيه في الأمور المذكورة:

 فيدلُّ عليه -مضافًا إلى ما يُستفاد من جعله (حاكمًا) كما في مقبولة ابن حنظلة، الظاهر في كونه كسائر الحكام المنصوبة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) والصحابة، في إلزام الناس بإرجاع الأمور المذكورة إليه، والانتهاء فيها إلى نظره، بل المتبادر عرفًا من نصب السلطان حاكمًا، ووجوب الرجوع إليه في الأمور العامة المطلوبة للسلطان، ومضافًا إلى قوله (عليه السلام) : (مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه)([6])-: التوقيعُ المَرْوِيُّ في إكمال الدين وكتاب الغيبة و احتجاج الطبرسي ).

ثم ذَكَر التوقيع والاستدلال به على توقف تصرف الغير على الفقيه وإذنه، إما بنحو الاستنابة كالوكيل، وإما على وجه التفويض والتولية كمتولي الأوقاف، وإما على وجه الرضى من قِبَل الحاكم كالصلاة على ميت لا وليَّ له.

قال في مقام الاستدلال بالتوقيع:

(فإن المراد بالحوادث ظاهرًا، مطلق الأمور التي لا بد من الرجوع فيها عرفًا أو عقلاً إلى الرئيس، مثل النظر في أموال القاصرين لغَيْبةٍ أو موت أو صغر أو سَفَه، وأما تخصيصها بخصوص المسائل الشرعية فبعيد من وجوه:

منها: أن الظاهر وكول نفس الحادثة إليه ليباشر أَمْرها مباشرةً أو استنابةً، لا الرجوع في حُكْمها إليه.

ومنها: التعليل بكونهم (حُجَّتي عليكم وأنا حُجَّة الله)، فإنه إنما يناسب الأمور التي يكون المرجع فيها هو الرأي والنظر، فكان هذا منصب ولاة الإمام من قِبل نفسه، لا أنه واجب من قبل الله-سبحانه- على الفقيه بعد غيبة الإمام، وإلا كان المناسب أن يقول: (إنهم حجج الله عليكم)، كما وصفهم في مقام آخر بأنهم أمناء الله على الحلال والحرام -يعني في الفتوى -.

والحاصل: أن الظاهر أن لفظ (الحوادث) ليس مختصًا بما اشتبه حكمه، ولا بالمنازعات، ولا بالأمور المعهودة الخاصة، لأنَّ هذه تحتاج إلى وليٍّ خاص.

ثم إن النسبة بين مثل هذا التوقيع وبين العمومات الظاهرة في إذْن الشارع في كل معروف لكل أحد مثل قوله (عليه السلام) : (كل معروف صدقة)([7])، وقوله (عليه السلام) : (عَوْنك الضعيف مِنْ أفضل الصَّدقة)([8])وأمثال ذلك، وإن كانت عمومًا من وجه، إلا أن الظاهر حكومة هذا التوقيع عليها، وكونها بمنزلة المفسر الدال على وجوب الرجوع إلى الإمام أو نائبه في الأمور العامة، التي يفهم عرفًا دخولها تحت الحوادث الواقعة، وتحت عنوان الأمر في قوله-تعالى-: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}([9]).

وعلى فرض تسليم التنزُّل عن ذلك: فالمرجع بعد تعارض العمومين إلى أصالة عدم مشروعية ذلك المعروف مع عدم وقوعه عن رأي وليِّ الأمر..)([10]).

إلى أن قال: (فقد ظهر مما ذكرنا: أنَّ ما دلَّ عليه هذه الأدلة، هو ثبوت الولاية للفقيه في الأمور التي يكون مشروعية إيجادها في الخارج مفروغًا عنها، بحيث لو فُرض عدم وجود الفقيه كان على الناس القيام بها كفاية.

وأما ما يُشكُّ في مشروعيته، كالحدود لغير الإمام، وتزويج الصغيرة لغير الأب والجد، وولاية المعاملة على مال الغائب بالعقد عليه، وفسخ العقد الخياري عنه، وغير ذلك، فلا يثبت من تلك الأدلة مشروعيتها للفقيه بل لابد للفقيه من إثبات مشروعيتها من دليل آخر..).

ثم ختم كلامه: بأَنَّ هناك مقامَيْن:

أحدهما : وجوب إيكال المعروف وما يريد الشارع وقوعه إلى الفقيه، وهذا ثابت بالتوقيع وغيره.

وثانيهما: مشروعية تصرُّف خاص من قبل الفقيه في نفسٍ أو مال أو عِرْض، وهذا لا يثبت بالتوقيع وغيره، ولا تدل الأدلة السابقة عليه، إلا إذا تمَّتْ أدلة النيابة العامة.

ثم إنه قد يُستدَلّ على عموم الولاية بالمعنى الأول، وهو التصرُّف الابتدائي من قِبَل الفقيه، ببعض الروايات الأخرى:

منها: ما ذكره الشيخ الأنصاري قده) ، من أنه قد اشتهر في الألسن، وتداول في بعض الكتب: رواية أن (السلطان وليُّ من لا وليَّ له).

وهذا أيضًا بعد الانجبار سندًا أو مضمونًا يحتاج إلى أدلة عموم النيابة، وقد عرفْتَ ما يصلح أن يكون دليلاً عليه، وأنه لا يخلو عن وَهْن في دلالته مع قَطْع النظر عن السند.

وذكر: أن قوله (لا وليَّ له)، ليس مطلق من لا وليَّ له، بل المراد عدم الملكة، يعني أنه وليُّ مَنْ مِنْ شأنه أَنْ يكون له وليٌّ، بحسب شخصه أو صنفه أو نوعه أو جنسه، فيشمل الصغير الذي مات أبوه، والمجنون بعد البلوغ، والغائب، والممتنع، والمريض، والمغمى عليه، والميت الذي لا وليَّ له، وقاطبة المسلمين إذا كان لهم مُلْك، كالمفتوح عنوة، والموقوف عليهم في الأوقاف العامة، ونحو ذلك.

لكن يستفاد منه ما لم يكن يستفاد من التوقيع المذكور، وهو الإذْن في فِعْل كلِّ مصلحة لهم، فثبت به مشروعيته ما لم يثبت مشروعيته بالتوقيع الآنف، فيجوز له القيام بجميع مصالح الطوائف المذكورين.

نعم، ليس له فعل شيء لا تعود مصلحته إليهم، وإن كان ظاهر الولي يوهم ذلك، إذ بعد ما ذكرنا من أن المراد بـ(من لا وليَّ له) مَنْ مِنْ شأنه أن يكون له وليٌّ، يراد به كونه ممن ينبغي أن يكون له من يقوم بمصالحه، لا بمعنى أنه ينبغي أن يكون عليه ولي له عليه ولاية الإجبار بحيث يكون تصرفه ماضيًا عليه، فالولي المنفي في (من لا وليَّ له) هو الوليُّ للشخص لا عليه، فيكون المراد بالوليِّ المُثْبَتْ هو ذلك أيضًا، فمعناه أنَّ الله-تعالى- جعَل السلطان هو الوليّ الذي يحتاج إليه الشخص، يعني: لا بمعنى أنَّ عليه وليا.

ومنها: ما دلَّ من الروايات على أنَّ (.. العلماء ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا دِرْهمًا، ولكنْ وَرَّثوا العِلْم، فمَنْ أَخَذ منه أَخَذ بحظٍّ وافِر)(9)، بدعوى: أن الولاية على أموال الناس وأنفسهم من جملة تركة الأنبياء للعلماء، فللعلماء من هذه الناحية ما كان للأنبياء (عليهم السلام) .

ويرد على هذا الاستدلال: أن الولاية من الصفات التي لا تقبل الانتقال بالتوريث، خصوصًا وأنها لا تنتقل إليهم، وإنما تُجْعَل لهم من قِبل الأئمة (عليهم السلام) .

على أن المستفاد من مثل هذه الروايات، أنه ليس شأن الأنبياء جَمْع الدرهم والدينار، بل حرصهم على تَرْك الأحاديث و توريثها ونَشْرها، كما قال (عليه السلام) : (ولكن وَرَّثوا العلم فمن أَخَذ منه أَخَذ بحظٍّ وافِر)، وهذا على خلاف المقصود أدلّ.

هذا على أنه يمكن أن يراد بالعلماء: هم الأئمة الأوصياء (عليهم السلام) ، وقد ورد عنهم (عليهم السلام) (نحن العلماء وشيعتُنا المتعلِّمون)([11])، فيكون هذا حاكمًا ومفسِّرًا لكل حديث ورد فيه لفظ (العلماء)، ويكون المراد به الأئمة (عليهم السلام)  إلا إذا قامت قرينة على أن المراد الفقهاء، كالرواية التي ذكر فيها الفرق بين علماء هذه الأمة وعلماء اليهود.

وأوضح من الكلِّ في إرادة الأئمة (عليهم السلام) ، ما ورد من قولهم (عليهم السلام) : (مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سُلِبتم ذلك إلا بتفرُّقكم عن الحق، واختلافكم في السنة بعد النية الواضحة)([12])، فإنَّ العلماء بالله-تعالى- ليسوا إلا الأئمة (عليهم السلام) ، والفقهاء علماء بالحلال والحرام من الطُرُق الظاهرية.

وأمّا ما ورد من أنَّ (علماء أُمَّتي كأنبياء بني إسرائيل)([13])، فهذا -على فَرْض صحَّته- ناظر إلى وجوب تبعية الفقهاء في التبليغ من هذه الجهة، لا من جميع الجهات.

وهكذا (الفقهاء حصون الإسلام)([14])، و(الفقهاء أمناء الرسل)([15])، فإنَّ ذلك في حِفْظ الشريعة وتبليغها كاملة، ولا علاقة لهذه المضامين بالتطبيق والحكومة والولاية التي هي محل الكلام.


([1]) النساء: من الآية60.

([2]) باب 11 من أبواب صفات القاضي ح1.

([3]) الوسائل ج17 باب 16 من أبواب عقد البيع وشروطه ح2.

([4]) الوسائل: ج17 باب11 من أبواب صفات القاضي ح9.

([5]) مكاسب الشيخ الأنصاري ج3 ص545.

([6]) مستدرك الوسائل ج17 باب 11 من أبواب صفات القاضي ح16.

([7]) الوسائل: ج9 باب41 من أبواب الصدقة ح 1و2.

([8]) الوسائل: ج15 باب59 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه ح2.

([9]) النساء: من الآية59.

([10]) مكاسب الشيخ الأنصاري 3/557.

([11]) الوسائل ج27 باب3 من أبواب صفات القاضي ح5، وباب7 من أبواب صفات القاضي ح18.

([12]) مستدرك الوسائل ج17 باب11 من أبواب صفات القاضي ح16.

([13]) مستدرك الوسائل ج17 باب 11 من أبواب صفات القاضي ح29.

([14]) أصول الكافي ج1 باب فَقْد العلماء من كتاب فَضْل العلم ح3.

([15]) مستدرك الوسائل ج17 باب 11من أبواب صفات القاضي ح30.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net