متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
شبهة سقوط المشروط بتعذّر الشرط
الكتاب : المرجعية والقيادة    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

شبهة سقوط المشروط بتعذّر الشرط

 

إنّ ما ذكرناه من أنّ شرط العصمة ليس ردّاً على مبدأ البيعة، وإنّما هو تضيّق في دائرة البيعة، فعند الإمكان يبايع المعصوم (عليه السلام)، وعند سقوط الشرط لا تبطل فكرة البيعة بل تكون لأفضل الموجودين غير المعصوم (عليه السلام).

هذا المطلب، قد يورد عليه (بفكرة أصوليّة) نشير إليها إشارة فقط. وهذه الفكرة، هي التي تقول بأنّ الشرط إذا اصبح متعذّراً وغير مقدور عليه، فالأصل في ذلك ليس هو سقوط (الشرط) بل سقوط (المشروط) فالصلاة، مشروطة بالطهور، ولو فقد المكلّف كلا الطهورين (المائي والترابي)، قال المحقّقون: الأصل في ذلك ليس سقوط الشرط وهو الطهارة، بل سقوط المشروط وهو (الصلاة). ومن هنا يتضح الإشكال في المقام، فنقول: أليست العصمة شرطاً في البيعة؟ فحين تعذّر الشرط وعجز الإنسان عن مبايعة المعصوم (عليه السلام)، فإنّ تكليف تعيين الولي وتشكيل الدولة يسقط حتّى ظهور المهدي (عج). ومفاد الرواية «كل راية ترفع قبل قيام القائم (عليه السلام) فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله عزّ وجلّ»[1] يدعم هذه الشبهة ويقوّيها.

وفي مقام رد الشبهة نقول: إنّ هذا البيان هو نوع مغالطة، لأنّنا احتملنا أحد احتمالين بخصوص العصمة الواردة في الروايات:

الأول: أنّها تنظر إلى شرائط الإمامة بمعناها المصطلح الخاصّ عند الشيعة، وهي الدرجة العالية من المقام الإلهي التي تتمثّل في من يكون السبب المتصل بين الأرض والسماء وبيُمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء.

والثاني: أنّها تنظر إلى شرائط الولاية.

وعلى الأول: فإنّ الروايات وإن كانت توضّح شروط الإمامة ولها دلالتها الالتزامية بصدد الردّ على خلفاء الجور آنذاك، ولكن لا إطلاق لهذه الدلالة الالتزامية، فلا تصلح مثل هذه الروايات للاستدلال على شجب كل وال غير معصوم حتّى في زمن تعذّر حضور المعصوم (عليه السلام)، ولا تدلّ على أنّ ولاية مثل هذا الوالي هي ولاية ظالم وغاصب. وأنّه لدى فقدان المعصوم (عليه السلام)، يؤجّل تعيين الولي وإقامة الحكومة إلى زمان ظهور الإمام (عج).

وأمّا على الثاني: فجواب هذه الشبهة يستدعي الإشارة الإجمالية إلى أسس أصولية مبحوثة في محالها.

فقد ذكر المحقّقون: أنّ إطلاق الكلام قد يعارض أحياناً بنقطة ارتكازية يسمّونها (بالمخصّص الارتكازي)، وهذا المخصّص يمنع عن تحقق الإطلاق ذاك.

فحتّى لو افترضنا، أنّ العبارة ظاهرة في (لا حكومة بلا عصمة)، فنحن نضطر إلى أن نفهم أنّ هذا الإطلاق راجع إلى زمان إمكان ذلك ــ أي إمكان وجود المعصوم (عج) ظاهراً ــ لا إلى زمان عدمه، وذلك وفق نكات مرتكزة في أذهان المتشرّعة، من أنّ الاستغناء عن العصمة في الحاكم وقت تعذّر حصولها من أجل أن تقام حكومة إسلاميّة معقول، والاستغناء عن الحكومة أصلاً لهذا السبب، أمر غير معقول. أمّا لماذا الاستغناء عن الحكومة الإسلاميّة أمر غير معقول، فهذا راجع إلى سببين هما:

السبب الأول: أنّنا نعلم أنّ المجتمع أيّاً كان صالحاً أو فاسداً، لا يمكن الاستغناء فيه عن حكومة وإمرة وولاية، مادام هو مجتمعاً لا أفراداً محدّدين قليلي العدد، وهذه الحاجة نابعة من: التنافس والتضارب والتزاحم بين مصالح الأفراد، ومحدودية الدنيا على سعتها، وعدم إمكان اجتماع مصالح جميع الأفراد فيها. ولشدة التضارب بين هذه المصالح تقع بين أيدي الناس موارد للنزاع والتخاصم والاختلاف، ولولا وجود قوة تنظّم أمور البلاد لوقع الهرج والمرج والقتال ولفسدت أمور البلاد والعباد ولما أمكن تنظيم الأمور.

ولو افترضنا أنّ البشرية أصبحت لا تزاحم بين مصالح أفرادها، وكل يقنع بحصّته وما قُسِم له، فإنّ هذا الفرض لا ينفي الحاجة إلى الحكومة، إذ إنّه لابدّ من عقل جمعي يجمع ويوزّع ويرتّب الأمور؛ لأنّ كلّ أحد لا يعلم ما يلزم للآخر. فوجود الدولة إذن لا بدّ منه على كلا الفرضين والحالتين.

وفي الأثر: لابدّ من دولة وإن كانت فاسقة، كي يمكن للمجتمع العيش تحت رايتها، ولا يمكنه ذلك دون دولة بالمرّة. فعن أمير المؤمنين (عليه السلام):

«لابُدّ للناس من أمير، بَرٍّ أو فاجر، يعمل في أمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلِّغ اللهُ فيها الأجل، ويُجمَع به الفيء، ويُقاتَلُ به العدو، وتأمن به السبل، ويُؤخذ به للضعيف من القوي، حتّى يستريح برٌّ، ويُستراحَ من فاجر»[2].

وحينئذ، ما هو موقف الإسلام من تأسيس الدولة وفي زمن العجز عن تحصيل المعصوم (عليه السلام)؟

إنّ الجواب، لا يخلو، من أحد احتمالات ثلاثة:

الأول: أن نفترض أنّ موقفه هو رفض وجود دولة وحكومة، ما دمنا لا نستطيع تحصيل المعصوم(عليه السلام). وهذا كلام لا يُتعقّل ولا يُقبل من إنسان عادي، ونحن نُسخّف الفكرة الماركسيّة، إذ قالت بمجيء زمان لا حاجة فيه إلى الحكومة، ونقول بأنّ هذا خلاف الطبيعة البشرية وخلاف العقل. فكيف ننسب ذلك الكلام إلى الإسلام؟! إنّ هذا الاحتمال واضح البطلان.

الثاني: أن يقال: لا يترك أصل إقامة الحكومة من الأساس زمن الغيبة، بل يقال: إنّ المؤمن يجب أن يترك هذا الأمر ويرفع يده عنه، ويُبقيه في يد غيره من الفسّاق والظلمة، ليحكموا البلاد والعباد.

إنّ مثل هذا القول، قول لا يصدر عن دين سماوي خاتم. وإننا نتّهم الإنسان الذي يدعو مواطني بلده إلى تسليم إدارة بلادهم إلى الأجنبي، نتهمه بالعمالة والخيانة، ذلك لو فكّرنا بعقليّة الوطنية الغربية التي نرفضها ونتّهمها بالقصور. فكيف نقبل في نظريّة إسلاميّة ما يناظر ذلك في دائرة تقابل الإسلام والكفر من تسليم بلاد الإسلام والمسلمين بيد الفاسق والظالم والذي لا يتبنّى نظريات الإسلام في حكمه؟

إنّ ديناً يدعو إلى مثل هذا الأمر، دين مزيّف ولا يمكن أن يصدر عن الله ويقول به نبي. فهذا الاحتمال باطل كسابقه.

الثالث: ــ وبه ينحصر الأمر ــ أنّه لا بّد من إقامة دولة الإسلام في كل آن. ولو تعذر حصول المعصوم (عليه السلام)، فالأمر ينحصر في أفضل الموجودين.

السبب الثاني: أنّ الإسلام يشتمل على نواح ثلاث:

1 ــ الوظائف الفردية: كالصلاة والصوم، وما شابه ذلك من العبادات الفردية.

2 ــ الوظائف الاجتماعية: كوظائف إدارة وتنظيم البلاد، والعلاقة مع سائر الأمم ونحو ذلك...

3 ــ الجانب التنفيذي: فالإسلام سنّ الوظائف وعيّنها، وقرّر العلاقات، وبيّن الحدود والعقوبات واهتمّ بتنفيذها ومتابعتها ومعاقبة من يشذّ عنها.

إنّ وجود جانب التنفيذ في الشريعة الإسلاميّة دليل على أنّه ليس بالإمكان افتراض أنّ الشريعة الإسلاميّة قد غضّت النظر عن أصل الدولة والحكومة عند عدم وجود المعصوم (عليه السلام). وإنّ مراجعة أبواب الفقه المختلفة ترينا أنّ السمات الاجتماعية والارتباط بالوضع الاجتماعي ووجود ولي للأمر سمات عامّة في كل هذه الأبواب وبلا استثناء. فالصلاة ــ مثلاً ــ قد يتراءى للبعض بأنّها العبادة الوحيدة التي يمكن القول عنها بأنّها عبادة فردية. إلاّ أنّ المصالح الاجتماعية ملحوظة فيها، بل كأنّ الأصل الأولي فيها هي الجماعة، والفرادى إنّما هي للحالات الخاصّة. كما تدلّ على ذلك الروايات الكثيرة.

وقد شرّعت في صلاة الجمعة خطبتان يلقيهما الإمام ويذكر فيهما بالإضافة إلى الإرشاد المسائل الاجتماعية والسياسية.

وبالنسبة للزكاة يستفاد من الكتاب والسنّة: أنّ المتصدّي لها هو الحاكم بأجهزته.

والخمس ــ أيضاً ــ ضريبة مقرّرة لمنصب إمامة المسلمين، ولا تصرف فقط لمصارف شخص الإمام، بل لمنصبه ليصرفه في الوجوه التي يراها من مصالح المسلمين. وكذلك الأنفال التي هي مجموعة الأموال العامّة التي لا مالك شخصي لها، كأرض الموات والأودية والمعادن.

أمّا الحج فواضح من آيات الحج أنّ تشريع هذه الفريضة لم يكن لإتيان صورة الأعمال فقط. وكيف، ومقتضى الآية المباركة {جَعَلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرامَ قياماً للّناسِ}[3]. أنّ الناس يتقوّمون في معاشهم بالكعبة؟!

إنّ في الآية المباركة دلالة على أنّ تشريع الحج كان لأداء الفريضة، ولاجتماع المسلمين من مختلف أنحاء الدنيا ليتباحثوا ويتشاوروا ويتعاونوا فيما بينهم في أمور الدين والدنيا. فأهمية هذه الفريضة من الناحية الدينيّة والسياسيّة واضحة وبصورة جلية، وهناك من الروايات ما تدلّ دلالة واضحة على ارتباط أداء هذه الفريضة بوجود حكومة قائمة وولي للأمر حاكم:

1 ــ عن الصادق (عليه السلام): «لو عطّل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج...»[4].

2 ــ عن الصادق (عليه السلام): «لو أنّ الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين»[5].

إنّ إجبار الناس والإنفاق عليهم من بيت مال المسلمين يستدعي وجود إمام مبسوط اليد وله ولاية فعلية.

وأمّا الجهاد فهو عمل اجتماعي لا يمكن أن يتحقّق إلاّ أن يكون ولي الأمر على رأسه. ولا شكّ في وجوب الجهاد في زمن حضور المعصوم وفي قال الله تعالى:

1 ــ {يا أيُّها النبىّ جاهدِ الكُفّارَ وَالمُنافقينَ...}[6].

2 ــ {يا أيُّها النبىّ حرّضِ المُؤمنينَ على القتالِ...}[7].

3 ــ {يا أيُّها الذينَ آمنُوا قاتلوا الذينَ يلُونَكُم مِن الكُفّارِ وليجِدُوا فيكُم غِلظةً...}[8].

4 ــ عن علي (عليه السلام): «إنّ الله فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصرةً وناصرةً، والله ما صلحت دنيا ولا دين إلاّ به»[9].

5 ــ عن الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الخير كلّه في السيف، وتحت ظلّ السيف، ولا يقيم الناس إلاّ السيف، والسيوف مقاليد الجنّة والنار»[10].

وبالجملة، فإنّ الآيات والروايات تشير إشارة واضحة على أنّ الجهاد من ضرورات الدين، وأنّ على الأمة النهوض به جملةً، ولابدّ من وجود ولي للأمر يجاهد تحت رايته، على تفصيلات في الجهاد الابتدائي والجهاد الدفاعي تطلب في مظانها.

ونشير وبشكل أكثر اختصاراً إلى بعض أبواب الفقه الأخرى لنبيّن ارتباطها بالوضع الاجتماعي العام وبوجود ولي للأمر للأمة.

ففي الوصية: قال الفقهاء: إذا تعدّد الوصي فإنّ تعيين أحدهم أو كلّهم أو بعضهم عائد إلى ولي الأمر.

وفي القضاء قالوا: إنّ أمره عائد إلى الفقيه الجامع للشرائط.

وفي إجراء الحدود قالوا: إجراؤها بيد ولي الأمر.

وفي الحجر على المفلّس والصغير والمجنون قالوا: لا يحكم بذلك إلاّ بأمر ولي الأمر.

 


[1]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 52.

[2]  نهج البلاغة، مصدر سبق ذكره، منشورات الهجرة، الخطبة 40، ص 82.

[3]  سورة المائدة، الآية:97.

[4]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 11، باب وجوب الحج، ص 24.

[5]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 11،، باب وجوب الحج، ص24.

[6]  سورة التوبة، الآية:73.

[7]  سورة الأنفال، الآية:65.

[8]  سورة التوبة، الآية:123.

[9]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 15.

[10]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره،ج 15، باب جهاد العدو، ص 9.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net