متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الأعلميّة والقيادة
الكتاب : المرجعية والقيادة    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

ملحق

بحوث في القيادة والحكومة

 
الأعلميّة والقيادة

 

 هل يشترط في إعمال الولاية لقيادة المجتمع الإسلامي وتسيير اُمورهم أن يكون الوليّ أعلم في الفقه أو لا ؟

 توجد عدّة روايات يمكن أن يستفاد منها شرط الأعلمية في الفقه من قبيل:

1 ـ ما عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي، عن الصادق  عليه السلام  بسند تامّ في قصّةدعوة الناس إلى محمد بن عبد اللَّه بن الحسن حيث جاء جماعة إلى الصادق‏ عليه السلام  لكي يدعوه إليه، فعرض الإمام‏ عليه السلام  على متكلمهم في ذلك المجلس وهو عمرو بن عبيد أحكاما لابدّ له من العمل بها لو ولّي الأمر أو أراد أن يولّي أحدا من قبيل: هل يعيّن الوليّ بالشورى أو بأيّ طريق آخر؟ ومن قبيل ما هو الموقف من المشركين الذين لا يسلمون ولا يؤدّون الجزية ؟ ومسائل اُخرى، فأفحمه الإمام‏ عليه السلام  في أجوبته، ولم يعرف كيف يجيب. ثم قال له الإمام‏ عليه السلام : (اتّقِ اللَّه، وأنتم أيّها الرهط فاتّقوا اللَّه، فإنّ أبي حدّثني - وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب اللَّه عزّوجلّ وسنّة نبيّه‏ صلى الله عليه واله  - : أنّ رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله  قال: من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف)

2 ـ ما عن الفضيل بن يسار بسند غير تامّ قال: سمعت أبا عبد اللَّه‏ عليه السلام  يقول:(من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أعلم منه فهو ضالّ مبتدع، ومن ادّعى الإمامة وليس بإمام فهو كافر)

 وقد روى هذا الحديث النعماني في غيبته عن علي بن محمد، عن عبد اللَّه بن موسى ولم نعرف حالهما عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عليّ بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن الفضيل بن يسار، وفيه كلمة: أفضل بدلا من كلمة: أعلم.

3 ـ صحيحة عيص بن القاسم قال: سمعت أبا عبد اللَّه‏ عليه السلام  يقول: (عليكم‏بتقوى اللَّه وحده لا شريك له، وانظروا لأنفسكم، فواللَّه إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجي‏ء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها...)

4 ـ ما في كتاب سليم بن قيس عن أمير المؤمنين‏ عليه السلام : (أفينبغي أن يكوالخليفة إلّا أعلمهم بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه وقد قال اللَّه: أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لا يهدّي إلّا أن يُهدى وقال: وزاده بسطة في العلم والجسموقال: أو أثارةٍ من علموقال رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله  ما ولّت اُمّة قطّ أمرها رجلا وفيهم أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا) يعني الولاية فهي غير الإمارة على الاُمّة.

5 ـ ما في نهج البلاغة من قوله‏ عليه السلام : (أيّها الناس إنَّ أحقّ الناس بهذا الأمرأقواهم عليه، وأعلمهم بأمر اللَّه فيه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل. ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار...)

6 ـ ما رواه البرقي في المحاسن عن رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله  قال: (من أمّ قوما وفيهم‏أعلم منه أو أفقه منه لم يزل أمرهم في سفال إلى يوم القيامة)

7 ـ ما في أمالي الشيخ الطوسي عن خطبة الحسن‏ عليه السلام  بمحضر معاوية وفيها(قال رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله  ما ولّت اُمّة أمرها رجلا قطّ وفيهم من هو أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتّى يرجعوا إلى ما تركوا)

 وفي نقلٍ آخر كلمة قطّ محذوفة

8 ـ ما في تحف العقول عن الصادق‏ عليه السلام : (من دعا الناس إلى نفسه وفيهم من‏هو أعلم منه فهو مبتدع ضالّ)

9 ـ ما رواه المفيد في الاختصاص، قال رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله : (من تعلّم علما ليماري‏به السفهاء، ويباهي به العلماء، ويصرف به الناس إلى نفسه يقول: أنا رئيسكم، فليتبوّأ مقعده من النار، ثم قال: إنّ الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة)

10 ـ ما في كتاب سليم بن قيس عن أمير المؤمنين‏ عليه السلام  في بيان أحقّيته‏ عليه السلام بالخلافة: (إنّهم قد سمعوا من رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله  يقول عودا وبدءا: ما ولّت اُمّة رجلا قطّ أمرها وفيهم من هو أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتّى يرجعوا إلى ما تركوا، فولّوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ما منهم رجل جمع القرآن ولا يدّعي أنّ له علما بكتاب اللَّه ولا سنّة نبيّه وقد علموا أنّي أعلمهم بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه، وأفقههم وأقرأهم لكتاب اللَّه، وأقضاهم بحكم اللَّه)

11 ـ ما رواه ابن أبي الحديد عن نصر بن مزاحم من كتابٍ لعليّ‏ عليه السلام  إلىمعاوية وأصحابه وفيه: (... ولا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره ويعدو طوره، ويُشقي نفسه بالتماس ما ليس بأهله فإنّ أولى الناس بأمر هذه الاُمّة قديماً وحديثا أقربها من الرسول، وأعلمها بالكتاب، وأفقهها في الدين، أوّلها إسلاما وأفضلها جهادا، وأشدّها بما تحمله الأئمّة من أمر الاُمّة اضطلاعا، فاتّقوا اللَّه الذي إليه ترجعون، ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وأنتم تعلمون...)

12 ـ ما في تفسير النعماني عن أمير المؤمنين‏ عليه السلام  في بيان صفات الإمام: (وأمّااللواتي في صفات ذاته فإنّه يجب أن يكون أزهد الناس، وأعلم الناس، وأشجع الناس، وأكرم الناس... إلى أن قال: والثاني: أن يكون أعلم الناس بحلال اللَّه وحرامه، وضروب أحكامه، وأمره ونهيه، وجميع ما يحتاج إليه الناس، فيحتاج الناس إليه ويستغني عنهم... إلى أن قال: والخامس: العصمة من جميع الذنوب... وإلى أن قال: وأمّا وجوب كونه أعلم الناس فإنه لو لم يكن عالما لم يؤمن أن يقلب الأحكام والحدود، ويختلف عليه القضايا المشكلة، فلا يجيب عنها بخلافها...)

 فيستدلّ بمثل هذه الروايات على أنّ ولاية الأمر بمعنى قيادة الاُمّة في الأحكام الولائية مشروطة بالأعلمية في الفقه من جميع الفقهاء.

 إلا أنّنا ابتداءً نقول: يمكن أن تطرح في مقابل هذه الاستفادة من الروايات أربعة احتمالات:

 الأوّل: أن لا يكون المقصود بشرط الأعلمية هي الأعلمية من جميع الناس،بل الأعلمية من الواجدين لسائر شرائط ولاية الأمر، كالشجاعة، والكفاءة السياسية والاجتماعية، والاطّلاع على متطلّبات حياة اليوم ومشاكل المجتمع وحلولها، وما إلى ذلك.

 والثاني: أن لا يكون المقصود بالأعلمية الأعلمية في الفقه، بل يكون المقصود بها الأعلمية بلحاظ مجموع ما يجب أن يكون الوليّ عالما به من الفقه، والموضوعات التي هو بحاجة إليها في مقام تطبيق أحكام اللَّه، والقضايا السياسية والاجتماعية، والمشاكل والحلول، وما إلى ذلك، فربما يكون فقيه آخر أعلم منه في خصوص الفقه ولكن يكون هذا الوليّ أعلم من ذلك في الجوانب السياسية ومعالجة الاُمور الاجتماعية مثلا، بحيث يكون الوليّ أعلم من ذاك في المجموع من حيث المجموع.

 والثالث: أن يكون المقصود بالولاية المرجعية في الأحكام الإلهية والولائية في وقت واحد، فإنّ التفكيك بينهما فكرة متأخّرة، وهي وإن راجت عملا في زمن العباسيين، فكانت الإمرة بيد الخلفاء، وكانت الفتوى بيد أمثال أبي حنيفة والشافعي وأحمد والمالكي، ولكنّ الشيعة كانوا لا يزالون يرون المنصبين لشخص واحد، وكان العلويون يثورون لتسلّم كلا المنصبين، سواءً منهم من كان يثور لإمارة نفسه أو كان يثور لتسليم الأمر بعد ذلك للرضا من آل محمد صلى الله عليه واله ، فهذه الروايات تنصرف إلى الإمامة بهذا المعنى الرائج وقتئذٍ في الأذهان.

 والرابع: أن يكون المقصود شرط الأعلمية في الإمامة بمعناها الخاصّ لدى‏الشيعة المشتمل - زائدا على منصب الولاية والمرجعية في فهم أحكام اللَّه - على ركن ثالث وهو ما قد يعبّر عنه بالسبب المتّصل بين الأرض والسماء، كما في دعاء الندبة، أو بتعبير: (لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها) أو بتعبير: (وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء) كما في التوقيع الشريف أو بتعبير: (بكم فتح اللَّه وبكم بختم، وبكم ينزّل الغيث وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه، وبكم ينفّس الهمّ...) كما في زيارة الجامعة الكبيرة. وهذه الإمامة هي الإمامة المشترط فيها العصمة، ويشترط فيها أن يكون الإمام أعلم من جميع الناس.

 ويمكن المزج بين أكثر من واحد من هذه الاحتمالات كأن نقول: إنّ المقصود بالولاية ما يشمل المرجعية في الأحكام الولائية والأحكام الإلهية معا، وإنّ المقصود بالأعلمية بلحاظ مجموع الاُمور التي لابدّ للوليّ من العلم بها، لا في خصوص الفقه، أو الأعلمية من ضمن مجموع المؤهّلين للقيادة.

 والتامّ سندا من هذه الروايات هي الرواية الاُولى والثالثة.

 وتحقيق الكلام في مفاد هذه الروايات ينبغي أن يتم حول محاور ثلاثة كما يظهر من الالتفات إلى الاحتمالات التي شرحناها، فإنّ هذه الروايات لا شكّ في أنّها اشترطت الأفضلية في العلم، فيقع الكلام أوّلا: في تشخيص المفضّل، هل هو الإمام بالمعنى المصطلح الشيعي الخاصّ، أو هو وليّ الأمر بمعنى المرجع في الأحكام الولائية والإلهية معا، أو هو ولي الأمر بمعنى المرجع في الأحكام الولائية فحسب، وأمّا الأحكام الإلهية فيأخذها كلٌ ممّن يقلّدْ ؟

 وثانيا: في المفضّل عليه، فهل المفروض كون الوليّ أعلم من جميع الناس‏أو كونه أعلم من خصوص المؤهّلين للقيادة، أي الواجدين لباقي شرائط القيادة ؟

 وثالثا : في المفضّل فيه، فهل المقصود الأعلمية بلحاظ الفقه، أو بلحاظمجموع ما يحتاج الوليّ إلى العلم به ؟

 أمّا المحور الأوّل : وهو المفضّل في هذه الروايات، فالظاهر أنّ نظر أكثر الروايات إلى القيادة بمعنى المرجعية في الأحكام الولائية والإلهية في وقت واحد، لا الولائية فحسب، لما أشرنا إليه من أنّ المرتكز في وقت صدور النصوص لدى الشيعة والثائرين - وحتّى بعد الفصل الذي وقع عملا بين المنصبين في زمن بني العباس - هو القيادة بهذا المعنى، لا بمعنى المرجعية في الأحكام الولائية فحسب، بل بعض تلك الروايات ناظرة إلى تطبيق الكبرى التي تشير إليها على خصوص الإمام المصطلح عليه لدى الشيعة، والذي يجب عندنا أن يكون معصوما ومنصوصا عليه كما هو الحال في صحيحة عيص الماضية على ما يظهر من ذيلها، فإنّه ورد في ذيلها الذي حذفناه في ما مضى ما يلي:

 (... واللَّه لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها، ثم كانت الاُخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد واللَّه ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أيّ شي‏ء تخرجون، ولا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيدا كان عالما، وكان صدوقا ولم يدعكم إلى نفسه، بل دعاكم إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه واله ، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه، فالخارج منّا اليوم إلى أيّ شي‏ء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه واله ؟ فنحن نشهدكم إنّا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منّا إلّا من اجتمعت بنو فاطمة معه، فواللَّه ما صاحبكم إلّا من اجتمعوا عليه إذا كان رجب فأقبلوا على أسم اللَّه، وإن أحببتم أن تتأخّروا إلى شعبان فلا ضير، وإن أحببتم أن تصوموا في أهاليكم فلعلّ ذلك يكون أقوى وكفاكم بالسفياني علامة)

 وهذا - كما ترى بوضوح - ينظر إلى الإمام بمصطلحه الشيعي الخاصّ.

 إلا أنّ الكبرى العامّة المنظور إليها في الحديث إنّما هي الولاية بمعناها الشامل للمرجعية في الأحكام الإلهية والولائية، والتي هي أعمّ من الإمامة بمعناها الخاصّ الشيعي المشروط بالعصمة والنصّ، بدليل أنّ الذين كان الإمام‏ عليه السلام  بصدد ردعهم عن الخروج مع من افترضوه إماما لم يكونوا يقصدون الإمامة بالمعنى الخاصّ، ولم يكونوا يدّعون بشأنه النصّ ولا العصمة، ولا كونه سببا متّصلا بين الأرض والسماء، أو نحو ذلك. فهذه الرواية كباقي الروايات واضحة في الإطلاق في اشتراط القيادة بمعنى المرجعية لكلا منصبي الفتوى والولاية بالأعلمية ولو لم يكن القائد بمرتبة العصمة أو السببية المتّصلة بين الأرض والسماء.

 ونستثني ممّا قلناه الرواية الثانية عشر، فإنّها واضحة في شروط لا تجتمع إلّا في الإمام المعصوم، بل هي تصرّح بشرط العصمة أيضا، فهذه الرواية بالذات أجنبيّة عمّا نحن فيه، إذ لا يمكن تعميمها لغير المعصوم.

 وأمّا المحور الثاني : وهو المفضّل عليه في هذه الروايات، فهو واضح كل الوضوح في أنّه المسلمون لا خصوص المؤهّلين للقيادة، وها هي صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي تقول: إنّ رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله  قال: (من ضرب الناس بسيفه، ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه، فهو ضالّ متكلّف) ورواية الفضيل بن يسار: (من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أعلم منه فهو ضالّ مبتدع) ورواية المجالس: (ما ولّت اُمّة رجلا قط وفيهم من هو أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالا...) وغيرها.

 وأمّا المحور الثالث : وهو المفضّل فيه، فالظاهر من هذه الروايات كونه عبارة عن الأحكام الفقهية، فإنّ المنصرف اليه من كلمة العلم في لغة الروايات أو المتيقن منه فيها عموما هي علوم الشريعة ما لم تقم قرينة على الخلاف، بل عدد من الروايات الماضية صريحة في ذلك، كما في صحيحة عبد الكريم بن عتبةالهاشمي، كما يظهر من صدرها الذي حذفناه في ما سبق، واكتفينا بالإشارة إليه، وإليك نصّه:

 (قال: كنت قاعدا عند أبي عبد اللَّه‏ عليه السلام  بمكّة، إذ دخل عليه اُناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وحفص بن سالم مولى ابن هبيرة وناس من رؤسائهم، وذلك حِدْثان قتل الوليد واختلاف أهل الشام بينهم، فتكلّموا وأكثروا، وخطبوا فأطالوا، فقال لهم أبو عبد اللَّه‏ عليه السلام : إنّكم قد أكثرتم عليّ فاسندوا أمركم إلى رجل منكم، وليتكلّم بحججكم ويوجز، فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد، فتكلّم فأبلغ وأطال، فكان في ما قال أن قال: قد قتل أهل الشام خليفتهم وضرب اللَّه عزّوجلّ بعضهم ببعض، وشتّت اللَّه أمرهم، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروّة، وموضع ومعدن للخلافة، وهو محمد بن عبد اللَّه بن الحسن، فأردنا أن نجتمع عليه، فنبايعه، ثم نظهر معه، فمن كان بايعنا فهو منّا وكنّا منه، ومن اعتزلنا كففنا عنه، ومن نصب لنا جاهدناه، ونصبنا له على بغيه وردّه إلى الحقّ وأهله، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك، فتدخل معنا، فإنّه لا غنىً بنا عن مثلك، لموضعك وكثرة شيعتك، فلمّا فرغ قال أبو عبد اللَّه‏ عليه السلام : أكلّكم على مثل ما قال عمرو؟ قالوا: نعم، فحمد اللَّه وأثنى عليه، و صلى على النبيّ‏ صلى الله عليه واله ، ثم قال: إنّما نسخط إذا عُصي اللَّه، فأمّا إذا اُطيع رضينا، أخبرني يا عمرو لو أنّ الاُمّة قلّدتك أمرها وولّتك بغير قتال ولا مؤونة، وقيل لك: ولّها من شئت، من كنت تولّيها؟ قال: كنت أجعلها شورى بين المسلمين قال: بين المسلمين كلّهم؟ قال: نعم، قال: بين فقهآئهم وخيارهم؟ قال: نعم، قال: قريش وغيرهم؟ قال: نعم، قال: والعرب والعجم؟ قال: نعم، قال: أخبرني يا عمرو أتتولّى أبا بكر وعمر أو تتبرّأ منهما؟ قال: أتولّاهما، فقال: فقد خالفتهما، ما تقولون أنتم، تتولّونهما أو تتبرّؤون منهما؟ قالوا: نتولّاهما.

 قال: يا عمرو، إن كنت رجلا تتبرّأ منهما فإنّه يجوز لك الخلاف عليهما، وإن كنت تتولّاهما فقد خالفتهما، فقد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور فيه أحدا، ثم ردّها أبو بكر عليه ولم يشاور فيه أحدا، ثم جعلها عمر شورى بين ستّة وأخرج منها جميع المهاجرين والأنصار غير اُولئك الستّة من قريش، وأوصى فيهم شيئا لا أراك ترضى به أنت ولا أصحابك، إذ جعلتها شورى بين المسلمين، قال: وما صنع؟ قال: أمر صهيبا أن يصلّي بالناس ثلاثة أيّام، وأن يشاور اُولئك الستّة ليس معهم أحد إلّا ابن عمر يشاورونه وليس له من الأمر شي‏ء، وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار إن مضت ثلاثة أيّام قبل أن يفرغوا أو يبايعوا رجلا أن يضربوا أعناق اُولئك الستّة جميعا، فإن اجتمع أربعة قبل أن تمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضربوا أعناق الاثنين، أفترضون بهذا أنتم في ما تجعلون من الشورى في جماعة من المسلمين؟ قالوا: لا. ثم قال: يا عمرو دع ذا، أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعوني إلى بيعته ثم اجتمعت لكم الاُمّة فلم يختلف عليكم رجلان فيها فأفضتم إلى المشركين الذين لا يسلمون ولا يؤدّون الجزية أكان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون بسيرة رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله  في المشركين في حروبه؟ قال: نعم، قال: فتصنع ماذا؟ قال: ندعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية، قال: وإن كانوا مجوسا ليسوا بأهل الكتاب؟ قال: سوآء، قال : وإن كانوا مشركي العرب وعبد الأوثان؟ قال: سواء، قال: أخبرني عن القرآن تقرؤه؟ قال: نعم، قال: اقرأقاتلوا الذين لا يؤمنون باللَّه ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرم اللَّه ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الذين اُوتُوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرونفاستثناء اللَّه عزّوجلّ واشتراطه من الذين اُوتوا الكتاب فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟ قال: نعم، قال: عمّن أخذت ذا؟ قال: سمعت الناس يقولون. قال: فدع هذا فإنْ هم أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة؟ قال: اُخرج الخمس واُقسّم أربعة أخماس بين من قاتل عليه، قال: أخبرني عن الخمس من تعطيه؟ قال: حيثما سمّى اللَّه، قال: فاقرأ: واعلموا أنّما غنمتم من شي‏ء فأنّ للّه خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيلقال: الذي للرسول من تعطيه؟ ومن ذو القربى؟ قال: قد اختلف فيه الفقهاء، فقال بعضهم: قرابة النبي‏ صلى الله عليه واله  وأهل بيته، وقال بعضهم: الخليفة، وقال بعضهم: قرابة الذين قاتلوا عليه من المسلمين، قال: فأيّ ذلك تقول أنت؟ قال: لا أدري، قال: فأراك لا تدري فدع ذا. ثم قال: أرأيت الأربعة أخماس تقسّمها بين جميع من قاتل عليها؟ قال: نعم، قال: قد خالفت رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله  في سيرته، بيني وبينك فقهاء أهل المدينة ومشيختهم فاسألهم، فإنّهم لا يختلفون ولا يتنازعون في أنّ رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله  إنّما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم ولا يهاجروا على إن دهمه من عدوّه دهم أن يستنفرهم فيقاتل بهم، وليس لهم في الغنيمة نصيب، وأنت تقول: بين جميعهم، فقد خالفت رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله  في كلّ ما قلت في سيرته في المشركين، ومع هذا ما تقول في الصدقة؟ فقرأ عليه الآية: إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها... إلى آخر الآيةقال: نعم، فكيف تقسّمها؟ قال: اُقسّمها على ثمانية أجزاء، فاُعطي كل جزء من الثمانية جزءا، قال: وإن كان صنف منهم عشرة آلاف وصنف منهم رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف؟ قال: نعم، قال: وتجمع صدقات أهل الحضر وأهل البوادي فتجعلهم فيها سواء؟ قال: نعم، قال: فقد خالفت رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله  في كل ما قلت في سيرته، كان رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله  يقسّم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي، وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر، ولا يقسّمه بينهم بالسويّة، وإنّما يقسّمه على قدر ما يحضره منهم وما يرى، وليس عليه في ذلك شي‏ء موقّت موظّف وإنما يصنع ذلك بما يرى على قدر من يحضره منهم، فإن كان في نفسك ممّا قلت شي‏ء فالقَ فقهاء أهل المدينة فإنّهم لا يختلفون في أنّ رسول اللَّه‏ صلى الله عليه واله  كذا كان يصنع، ثم أقبل على عمرو بن عبيد فقال له: اتّقِ اللَّه...) إلى آخر ما مضى من مستهلّ البحث وفيه: من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف.

 وأنت ترى أنّ المتيقّن من عنوان الأعلم في هذا الذيل بعد ذاك الصدر المفصّل الناظر إلى الأحكام الفقهيّة هو الأعلم بلحاظ الأحكام الفقهية وكذلك الحال في الرواية الرابعة، وفيها: إلّا أعلمهم بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه والخامسة، وفيها: أعلمهم بأمر اللَّه والحادية عشرة، وفيها: وأعلمها بالكتاب وأفقهها في الدين.

 ويمكن أن نستنتج إلى هنا من البحث: أنّ الأعلمية في الفقه شرط في القائد بمعنى من يقود المجتمع في الأحكام الإلهية والولائية معا، لأنّنا اخترنا في المحور الأول من البحث أنّ نظر الروايات إلى القيادة بمعنى المرجعية في الأحكام الولائية والإلهية في وقت واحد، واخترنا في المحور الثالث أنّ المقصود هو الأعلمية في الفقه.

 أمّا إذا كان القائد يقود المجتمع في الأحكام الولائية فحسب فهذه الروايات لا تدلّ على شرط الأعلمية في الفقه فيها، نعم من يعتقد بأعلميته في الفقه يقلّده في الأحكام الإلهية أيضا، ومن يعتقد بأعلميّة غيره يقلّد غيره في ذلك.

 وهنا ينبغي إبراز نكتة اُخرى، وهي: أنّ الأعلمية في الفقه وإن كانت في الفهم المتشرّعي اليوم تعني الأعلمية في الكبريات الفقهية، وأمّا تطبيق الصغريات فعلى المقلِّد نفسِه، ولكن لا ينبغي أن تحمل الروايات على هذا المعنى، وإنّما ينبغي أن تحمل بمناسبات الحكم والموضوع على الأعلمية في الأحكام التطبيقية واالتنفيذية والتي هي نتيجة الصغرى والكبرى معا.

 وتوضيح ذلك: أنّ القائد يقود المجتمع في الأحكام الاجتماعية بتنفيذ أحكام اللَّه عليه وتطبيقها في الخارج وفرضها على المجتمع، فالمناسب هو فرض الأعلمية في النتائج التي يكون العلم فيها نتيجة العلم بالصغرى والكبرى، وهذا يساوق كونه أعلم في مجموع العلوم التي يحتاجها القائد من حيث المجموع، وأحدها: العلم بالكبريات، والثاني: العلم بموضوعات دخيلة في تشخيص الوظيفة الفعلية العملية. وكلها ترجع إلى العلم بالصغريات، فالنتيجة هي اشتراط الأعلمية في مجموع العلوم التي يحتاجها القائد في قيادته لا في خصوص ما يصطلح عليه اليوم بالفقه، وهو كبريات الأحكام.

 وأمّا الأعلمية في الجميع فهي عادة تناسب المعصوم، ولا يعقل في العادة اشتراطها في غير المعصوم.

 وممّا يشهد لما ذكرناه من أنّ المقصود بالأعلمية في الروايات المتقدّمة هو الأعلمية بلحاظ مجموع ما تتطلبه القيادة من العلوم المؤثّرة في إدارة المجتمع لا بلحاظ خصوص الكبريات الفقهية أنّ المثال الذي استشهد به الإمام‏ عليه السلام  في صحيحة عيص بن القاسم وهو أنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي... مثال إداري بحت لا علاقة له بالكبريات الفقهية.

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net