متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الامر الثاني : في الوضع
الكتاب : نهاية الافكار ج1 ـ 2    |    القسم : مكتبة علم الأصول

الامر الثاني في الوضع

    فنقول : انه بعد ما لم تكن العلاقة والارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها ذاتية محضة بنحو يعرفها كل أحد ، يبقى الكلام في أن لها أي للألفاظ نحو مناسبة لمعانيها توجب وضعها لمعانيها بحسب الارتكاز وان لم يلتفت الواضع تفصيلا إلى تلك المناسبة ، أم لا ؟ بل تمام العلقة والارتباط بينهما كانت حاصلة بالجعل وبوضع الواضع بعد أن لم تكن بينهما علاقة وارتباط أصلا حيث إن فيه وجهين : قد يقال بالأول وان الواضع حيثما يجعل لفظا لمعنى فإنما هو من جهة الهام الباري ( عز اسمه ) إياه بل ومن ذلك أيضا أنكر استناد الجعل إلى المخلوقين فقال : بان الجاعل والواضع في الألفاظ انما هو الباري عز اسمه وانه سبحانه وتعالى يلهم كل طائفة ان يتلفظوا عند ابراز مقاصدهم بألفاظ خاصة مناسبة


(24)

لمعانيها حسب جعله سبحانه ، واستدل أيضا على مرامه من عدم كون تلك العلاقة والارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها مستندة إلى جعل المخلوق ووضعه بأمرين : أحدهما خلق التواريخ عن ذكره ، فإنه لو كان الامر كذلك لكان اللازم بحسب العادة ذكره في التواريخ بان الواضع للغة العرب كان هو شخص كذا كيعرب بن قحطان كما قيل ، وان الواضع للغة الفرس كان شخص كذا وهكذا بقية اللغات ، لان ذلك من الأمور المهمة التي لايمكن الغفلة عنها عادة ، مع أنه لم يرد في تاريخ ان واضع لغة العرب هو شخص كذا وواضع لغة الفرس كان شخص كذا ، وحينئذ فخلو التواريخ عن ذكر هذه القضية دليل عدم استناد وضع الألفاظ إلى أحد من المخلوقين.
    وثانيهما من جهة عدم تناهى المعاني والألفاظ حيث إن عدم تناهيها يقتضى بعد استناد وضعها إلى المخلوقين بل امتناعه ، كما هو ظاهر عند من أمعن النظر وانصف.
    أقول : وفيه ما لايخفى ، إذ نقول بأنه لو فرض من أول خلقة آدم ( على نبينا وآله وعليه السلام ) إلى زماننا هذا كل طائفة قد وضعوا جملة من الألفاظ لجملة من المعاني المتداولة بينهم على قدر ابتلائهم بها في اظهار ما في ضمائرهم إلى أن انتهى الامر إلى زماننا الذي قد كثر فيه اللغات وكثرت الألفاظ والمعاني ، فأي محذور عادى أو عقلي يترتب عليه ؟ فهل تقول في مثل ذلك بلزوم ضبطه في التواريخ أو تقول بأنه من الممتنع العادي وضع الألفاظ الكثيرة الغير المتناهية لمعان كذلك بمرور الدهور والأزمنة الكثيرة من طوائف كثيرة ؟ نعم انما يتم ما ذكر فيما لو كان المدعي وضع شخص واحد أو شخصين في كل لغة وضع الألفاظ المستعملة فيها في معانيها ، ولكنه لم يدعه أحد كذلك حتى يرد عليه المحذور المزبور ، بل وانما المقصود من ذلك انما هو استناد وضع الألفاظ في اللغات إلى الواضعين ولو على نحو التدرج بحسب مرور الدهور والأزمنة بوضع كل طائفة من لدن زمان آدم إلى زماننا جملة من الألفاظ لجملة من المعاني التي دار عليها ابتلائهم ، كما نشاهد ذلك بالعيان والوجدان من وجود كثير من المعاني والألفاظ المستحدثة في زماننا التي لايكون لها في سالف الزمان عين ولا اثر ، كما في كثير من الجوهريات والآلات ، ومن المعلوم انه لو ادعاه القائل باستناد الوضع إلى المخلوقين لايتوجه عليه شيء من المحذورين.
    ثم انه نقول : على قولك ( بان الباري عز اسمه هو الواضع وانه يلهم المستعملين في مقام اظهار ما في ضمائرهم ) بأنه هل تجد من نفسك عند تسميتك ولدك انه أوحى الله تعالى


(25)

إليك أو نزل إليك جبرئيل ان سمه بكذا أم لا بل أنت تضع له اسما من الأسامي وأنت الجاعل للعلقة والارتباط بجعلك اللفظة اسما له بعد أن لم يكن بينهما علاقة وارتباط ؟ لايقال : بأنه كيف ذلك مع أنه لولا قضية المناسبة الذاتية بينهما الحاصلة من تخصيص إلهي يكون تخصيص لفظ خاص من بين الألفاظ للمعنى الملحوظ ترجيحا بلا مرجح ، فإنه يقال : يكفي في الترجيح انسباق اللفظ إلى الذهن من بين الألفاظ عند إرادة الوضع ولو من جهة اقتضاء استعداده للوجود في عالم الذهن ، حيث إنه موجب لتخصيصه بالمعنى الملحوظ من بين الألفاظ ، ففي الحقيقة ما هو الموجب لتخصيص لفظ من بين الألفاظ لمعنى من بين المعاني انما هو قضية تقارنهما للوجود في عالم الذهن ، ومن المعلوم انه في ذلك لايحتاج في تخصيص أحدهما بالآخر إلى جهة مناسبة ذاتية بينهما ، كما لايخفى.

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net