متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
شرح المعاني الحرفية
الكتاب : نهاية الافكار ج1 ـ 2    |    القسم : مكتبة علم الأصول

في شرح المعاني الحرفية

    فهنا جهات من الكلام :
    الأولى في المعاني الحرفية وفيها مقامان : الأول في شرح حقيقة المعنى الحرفي ، الثاني في بيان انه كلي أم جزئي فنقول :

    اما المقام الأول فاعلم أن المشارب في الحروف كثيرة ربما يبلغ إلى الأربعة بل الخمسة كما سنذكرها :
    أحدها ما ينسب إلى الرضى في شرح الكافية وجماعة أخرى بان الحروف مما لا معنى لها أصلا ، بل وانما هي مجرد علامات لتعرف معنى الغير كالرفع الذي هو علامة للفاعلية ، وانه كما أن الرفع في زيد في مثل جائني زيد لا معنى له في نفسه بل وانما كان مجرد علامة لتعرف حال زيد وانه فاعل في تركيب الحروف ، فلفظ في مثلا في مثل زيد في الدار لايكون له معنى أصلا وانما هي علامة لتعرف معنى الدار وانها معنى أيني من حيث كونها مكان زيد قبال كونها معنى عينيا ومن الأعيان الخارجية وحينئذ فلفظة في في قولك زيد في الدار ، مما لا معنى لها أصلا في هذا التركيب وانما المعنى كان في الدار من حيث كونها مكان زيد ومعنى أينيا وقد جئ بكلمة في لتعرف حال الدار وخصوصية معناها ، وهكذا لفظ من وعلى ونحوهما من الحروف ، وحينئذ فلايكون للحروف معنى


(39)

أصلا وانما هي مجرد علامات لمعان تحت ألفاظ غيرها.
    ولكن مثل هذا المشرب مرمى بالضعف عند المحققين لذهابهم طرا إلى أن للحروف معاني في نفسها كما يكشف عنه تعريفهم للحروف بأنها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية قبالا للاسم الذي دل على معنى مستقل بالمفهومية ، وهكذا تعريفهم الاخر لها بان الحرف هو ما دل على معنى في غيره قبال الاسم الذي دل على معنى في نفسه ، فان من المعلوم ان الغرض من هذا التعريف هو بيان ان للحرف معنى ، غير أن معناه كان قائما بالغير نظير الاعراض لا ان معناه كان تحت لفظ الغير وان الحرف علامة لذلك كما هو واضح. كيف وان مثل الدار في المثال وكذا السير والبصرة انما هي من أسامي الأجناس وهي حسب وضعها لاتدل الاعلى المهية المهملة وذات المعنى بما هي عارية عن الاطلاق والتقييد ولذا تحتاج في مقام اثبات ان مراد المتكلم هو المعنى الاطلاقي العاري عن الخصوصيات إلى مقدمات الحكمة كي يحكم بان مراد المتكلم من اللفظ هو المعنى الاطلاقي. وحينئذ نقول بأنه على فرض ان تكون تلك الخصوصية تحت لفظ الغير ومرادة منه يلزم استعمال لفظ الدار والسير والبصرة في مثل زيد في الدار وسرت من البصرة في معنى الخاص فيلزمه المصير إلى المجاز حينئذ لأنه من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلي في الفرد والخصوصية ، وهو كما ترى ! فلا محيص حينئذ الا من الالتزام بعدم استعمال لفظ الدار الا في معناها الكلى أعني الطبيعة المهملة وكونه من باب اطلاق الكلى على الفرد وإرادة الخصوصية بدال اخر كما في قوله جاء رجل من أقصى المدينة وعليه ونقول : بأنه بعد خروج القيد والخصوصية عن تحت لفظ الدار والسير والبصرة فلابد وأن يكون تحت دال اخر وهو في المقام لايكون إلا لفظ في في زيد في الدار ولفظ من في سر من البصرة هذا. على أن ما أفيد في طرف المشبه به وهو الرفع والنصب والجر من التسلم بأنها مما لا معنى لها وانها ومجرد علامات لخصوصية وقوع زيد في جائني زيد فاعلا في التركيب غير وجيه أيضا ، إذ نقول فيها أيضا بان الرفع وكذا النصب والجر انما هي من مقولات الهيئة الكلامية ، وحينئذ فبعد ان كان للهيئة وضع للدلالة على النسب الكلامية كما سنحققه إن شاء الله تعالى فلا جرم كان للأعراب أيضا معنى ، حيث كان لها الدلالة على خصوصية النسبة الكلامية من حيث الفاعلية والمفعولية والحالية ونحو ذلك من أنحاء النسب وخصوصياتها ، من غير أن تكون تلك الخصوصيات تحت لفظ


(40)

الغير ومستفادة من لفظ الاسم وهو زيد أو المجيء ، لما عرفت من أن لفظ زيد لا يدل بحسب وضعه الا على ذات زيد بما هي عارية عن خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا أو حالا في الكلام ، فيحتاج حينئذ في إفادة خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا في الكلام إلى أن يكون بدال آخر وهذا الدال لايكون الا الهيئة والرفع في قولك جاء زيد أو النصب في قولك : ضربت زيدا. وحينئذ فما أفيد من التسلم على عدم المعنى للأعراب وانها علامة محضة لتعرف حال الاسم من حيث وقوعه فاعلا ومفعولا أو حالا في التركيب الكلامي مشبها للحروف بها أيضا في ذلك واضح البطلان في كل من المشبه والمشبه به كما هو واضح.
    وحينئذ فبعد أن ظهر فساد هذا المشرب يبقى الكلام في غيره من المشارب الاخر وانه بعد أن كان للحروف معان في نفسها فهل هي من سنخ المعاني الآلية ؟ أو انها من سنخ الاعراض الخارجية في قيامها بمعروضاتها ؟ أو انها من سنخ النسب والارتباطات المتقومة بالطرفين ؟ حيث إن فيه وجوها وأقوالا منشأه ما هو المعروف المشهور من تعريفها : بأنها مفاهيم تكون في نفس حقيقتها غير مستقلة بالمفهومية المعبر عنها : تارة بأنها ما دل على معنى في غيره ، وأخرى بأنها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية ، قبالا للاسم الذي عرفوه : بأنه ما دل على معنى في نفسه ومستقل بالمفهومية. ففي الحقيقة منشأ هذا النزاع انما هو في وجه عدم استقلال المعنى الحرفي وكيفية احتياجه وقيامه بالغير ، وانه من قبيل قيام المرآة بالمرئي في كونه ملحوظا باللحاظ الآلي ومنظورا بالنظر المرآتي ، أو من قبيل قيام الاعراض الخارجية بمعروضاتها ، أو من قبيل الارتباطات القائمة بالطرفين بحيث كان عدم استقلال المعنى الحرفي باعتبار نفس ذاته لا باعتبار اللحاظ كما هو قضية الوجه الأول ، والا ففي أصل كون المعنى الحرفي معنى غير مستقل لا شبهة فيه عندهم.
    وحينئذ نقول بان المشارب في هذا المقام ثلاثة :

    أحدها : ما سلكه الفصول وتبعه المحقق الخرساني ( قدس سره ) وبعض آخر من كون معاني الحروف معاني آلية ، وان الفرق بينها وبين الاسم انما هو باعتبار اللحاظ الآلي والاستقلالي والا فلا فرق بين المعنى الحرفي وبين المعنى الأسمى ، فإذا لو حظ المعنى في مقام الاستعمال باللحاظ الآلي يصير معنى حرفيا وإذا لو حظ باللحاظ الاستقلالي يصير معنى اسميا فيكون المعنى والملحوظ في الحالتين معنى واحدا لا تعدد فيه ولا تكثر ، وانما


(41)

الفرق بينهما من جهة كيفية اللحاظ من حيث الاستقلالية والآلية لمعنى آخر. ومن هذه الجهة أيضا التزموا بعموم الوضع والموضوع له في الحروف نظرا إلى كون ذات المعنى والملحوظ حينئذ معنى كليا وعدم كون اللحاظ الآلي كاللحاظ الاستقلالي موجبا لجزئيته.
    ولعل عمدة النكتة في مصيرهم إلى اختيار هذا المشرب انما هو ملاحظة انسباق الخصوصيات والارتباطات الخاصة في موارد استعمال الحروف في قوله : زيد في الدار وسرت من البصرة أو من الكوفة ، مع ملاحظة بعد كونها بحسب الارتكاز من قبيل المتكثر المعنى ، فان ملاحظة هذين الامرين أوجبت مصيرهم إلى أن للحروف أيضا معاني كلية هي بعينها معاني الأسماء وانها مفاهيم كلية كمفهوم الابتداء الذي هو معنى لكلمة من ولفظ الابتداء ، غايته انه جعل في الحروف بنحو يلاحظ مرآة لملاحظة المصاديق الخاصة من النسب الابتدائية الذهنية الحاصلة بين السير والبصرة ونحو ذلك.
    نعم على هذا لقول لما كان يلزمه صيرورة لفظ من ولفظ الابتداء مثلا من المترادفين كما في الانسان والبشر فيلزمه صحة استعمال كل منهما مكان الآخر مع أنه بديهي البطلان ، إذ لايصح ان يقال بدل الابتداء خير من الانتهاء ( من خير من إلى ) وبدل سرت من البصرة إلى الكوفة ( سرت ابتداء البصرة انتهاء الكوفة ) اعتذر عنه في الكفاية بان عدم صحة ذلك انما هو من جهة ما يقتضيه قانون الوضع حيث إنه وضع الاسم لان يراد معناه بما هو وفي نفسه بخلاف الحرف فإنه وضع لان يراد معناه لا كذلك بل هو آلة الملاحظة خصوصية حال المتعلق ، ففي الحقيقة منشأ عدم صحة الاستعمال المزبور انما هو حيث قصور الوضع وعدم اطلاقه لما إذا لم يستعمل كذلك لا من جهة تقيد المعنى والموضوع له فيهما باللحاظ الاستقلالي والآلي لان ذلك من المستحيل لما فيه من التوالي الفاسدة التي : منها لزوم عدمه صدقه على الخارجيات لان الامر المقيد باللحاظ الذهني كل عقلي لا موطن له الا الذهن فيلزمه امتناع امتثال مثل قوله : سر من البصرة إلى الكوفة الا مع التجريد والغاء الخصوصية. ومنها لزوم اجتماع اللحاظين في مقام الاستعمال : أحدهما ما هو المأخوذ في ناحية نفس المعنى والمستعمل فيه ، وثانيهما ما به قوام الاستعمال ، فيلزمه حينئذ تعلق اللحاظ بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ. ومنها اقتضائه لجزئية المعنى في الأسماء أيضا باعتبار ان اللحاظ الاستقلالي كاللحاظ الآلي مع أن ذلك كما ترى ، ولا من جهة وجود المانع عن الاستعمال المزبور مع اطلاق الوضع واقتضائه جواز استعمال كل من


(42)

الاسم والحرف في معناه ولولا على الكيفية المزبورة ، كما هو واضح.

    الثاني من المشارب : ما يظهر من بعض آخر من أن معاني الحروف معان قائمة بغيرها وانها من سنخ الاعراض القائمة بمعروضاتها كالسواد والبياض ، وهذا المشرب هو ظاهر كل من عبر عنها بأنها حالة لمعنى آخر.
    والفرق بين هذا المشرب وسابقه واضح ، فإنه على هذا المشرب يكون المعنى الحرفي بذاته وحقيقته مبائنا مع المعنى الأسمى ، حيث كان المعنى الحرفي حينئذ من سنخ المحمولات بالضميمة ومن قبيل الاعراض الخارجية التي وجودها في نفسها عين وجودها لغيرها ، فيغاير ذاتا وحقيقة مع الاسم الذي لايكون معناه كذلك ، بخلافه على مشرب الكفاية فإنه عليه لايكون اختلاف بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ذاتا وحقيقة وانما الاختلاف بينهما كان من جهة كيفية اللحاظ من حيث الآلية والاستقلالية مع كون الملحوظ فيهما واحدا ذاتا وحقيقة ، ومن ذلك عند هؤلاء لو انقلب النظر ولو حظ المعنى استقلالا وبما هو شيء في نفسه ينقلب المعنى عن كونه معنى حرفيا إلى المعنى الاسمي وبالعكس. وبذلك البيان ظهر الفرق بينهما من جهة الاستقلالية والتبعية أيضا حيث كان الاستقلالية والتبعية على المسلك الأول من صفات اللحاظ من حيث توجه اللحاظ إلى المعنى تارة بنحو الاستقلال وأخرى بنحو الآلية والمرآتية إلى الغير كما في نظرك إلى المرآة تارة مرآة لملاحظة وجهك وأخرى استقلالا لملاحظة نفسها للحكم عليها بان هذه المرآة أحسن من تلك ، بخلافه على المسلك الثاني فان الاستقلالية والتبعية على هذا المسلك انما كانت من صفات نفس المعنى والملحوظ من حيث تحققه تارة في الذهن محدودا بحد مستقل وغير متقوم بالغير وأخرى لا كذلك بل حالة لمعنى آخر وقائما به كقيام العرض بمعروضه مع كونه في مقام اللحاظ في الصورتين ملحوظا استقلالا لا مرآة. وحينئذ فكم فرق بين المشربين في الاستقلالية والتبعية ونحوي القيام بالغير ، فإنه في الحقيقة على الأول لايكون للمعنى الحرفي قيام بالغير أصلا ولو كان فإنما هو قيام زعمي تخيلي ، بخلافه على الثاني ، فان قيام المعنى الحرفي بالغير عليه قيام حقيقي لا زعمي ، كما هو واضح.

    الثالث من المشارب في الحروف : ما سلكه جماعة من الأساطين من كون معاني الحروف عبارة عن الروابط الخاصة والنسب والإضافات المتحققة بين المفهومين التي هي من سنخ الإضافات المتقومة بالطرفين ، فكان لفظ في في قولك : الماء في الكوز مثلا


(43)

موضوعا للربط الخاص الذي كان بين مفهوم الماء ومفهوم الكوز ، وهكذا لفظ من في قولك : سرت من البصرة والى وعلى وحتى ونحوها من الحروف بل الهيئات أيضا كما سيأتي إن شاء الله ، فيكون الجميع موضوعا للروابط الخاصة الذهنية بين المفهومين لكن لا مفهوم الربط الذي هو معنى اسمي بل ما هو واقع الربط الذهني ومصداقه بالحمل الشايع ، فإنك إذا لاحظت السير الخاص المضاف بدوه إلى البصرة وكذلك الماء والكوز تجد في نفسك أمورا ثلاثة : مفهوم السير ومفهوم البصرة والتعلق الخاص بينهما ، وهكذا في مثال الماء في الكوز ، فكان لفظ في ولفظ من في المثالين موضوعا لذاك الربط والتعلق الخاص الذي بين مفهوم السير والبصرة ومفهوم الماء والكوز لأنه كما يحتاج مفهوم السير والبصرة ومفهوم الماء والكوز إلى لفظ خاص يحكى عنه في مقام تفهيم المقصود واظهار ما في الضمير كذلك ذلك الربط والتعلق الخاص بينهما حيث لايكاد يغنى عنه الألفاظ الموضوعة للمفاهيم الاسمية التي بها تقوم تلك الروابط والإضافات الخاصة كما هو واضح.
    ثم إن الفرق بين هذا المشرب وسابقه أيضا واضح فان المعنى الحرفي على المشرب السابق كان من قبيل المحمولات بالضميمة المرتبط وجودها بالغير نظير الاعراض الخارجية كالسواد والبياض بخلافه على هذا المشرب الأخير فان المعنى الحرفي على ذلك كان من سنخ الروابط والإضافات المتقومة بالطرفين. وبعبارة أخرى : المعنى الحرفي على المشرب المتقدم عبارة عن الشيء المرتبط وجوده بالغير وعلى المشرب الأخير عبارة عن نفس الربط بين الطرفين فالفرق بينهما واضح.
    وكيف كان فهذه مشارب أربعة في الحروف والمتعين منها هو المشرب الأخير. وذلك : اما المشرب الأول منها فلما عرفت فساده وبطلانه بما لا مزيد عليه ، واما المشرب الثاني منها الذي اختاره الفصول والكفاية ( قدس سرهما ) فلانه لا سبيل إلى دعواه أيضا ، وذلك مضافا إلى ما فيه من مخالفته لما عليه الوجدان والارتكاز من انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالها ربما يساعد البرهان على خلافه أيضا ، وذلك من جهة وضوح انه انما يمكن المصير إلى ذلك فيما لو أمكن جعل المفهوم الكلي كمفهوم الابتداء مثلا مرآة إلى مصاديق النسب الابتدائية الذهنية بين المفهومين بخصوصياتها التفصيلية وهو من المستحيل جدا ، بداهة ان مصاديق الروابط الخاصة التفصيلية مما يباين مفهوم الابتداء الكلي أو النسبة الابتدائية ومعه كيف يمكن حكاية الكلي بما هو كلي عن الروابط


(44)

الجزئية الخاصة المفصلة ؟ فلا محيص حينئذ اما من الغاء الخصوصيات التفصيلية طرا والمصير إلى أن الموضوع له للفظ من مثلا عبارة عن مفهوم الابتداء الكلي أو النسبة الابتدائية التي هي جهة مشتركة بين مصاديق النسب الابتدائية الذهنية ، أو المصير إلى أن الموضوع له فيها عبارة عن نفس الروابط الذهنية الخاصة ، فعلى الثاني يلزمه الالتزام في وضع الحروف بكونها من باب عام الوضع وخاص الموضوع له وهو مناف لما اختاره فيها من كونها من باب عام الوضع والموضوع له ، وعلى الأول وان كان يلزم عليه هذا المحذور الا انه يلزمه عدم انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالاتها بعد عدم امكان جعل المفهوم الكلي بما هو كلي مرآة لملاحظة الروابط الذهنية الخاصة ، وهو كما ترى خلاف الوجدان كما هو واضح.
    نعم لو اغمض النظر عن ذلك لا يرد عليه ما ربما يتوهم وروده عليه من لزوم صحة استعمال كل من الاسم والحرف مكان الاخر فيقال بدل سرت من البصرة إلى الكوفة سرت ابتداء البصرة انتهاء الكوفة ، إذ قد عرفت فيما تقدم الاعتذار عن ذلك بان عدم صحة استعمال كل من الاسم والحرف حينئذ مكان الآخر انما هو من جهة قصور الوضع وتضيق دائرته وعدم اطلاقه الناشي ذلك الضيق من جهة تضيق الغرض الداعي على الوضع وأخصيته ، باعتبار ان الغرض من وضع الحروف انما هو لان يراد معناه لا بما هو شيء في حياله بل بما هو مرآة لملاحظة خصوصية حال المتعلق وفي وضع الأسماء لان يراد معناها لا كذلك بل بما هو وفي نفسه ، فان قضية أخصية دائرة الغرض توجب قهرا تضيقا في دائرة وضعه أيضا بنحو يخرجه عما له من سعة الاطلاق الشامل لحال عدم لحاظ الآلية في الحروف والاستقلالية في الأسماء ، كما نظيره أيضا في الواجبات العبادية الموقوف صحتها على قصد القربة واتيانها بدعوة الامر المتعلق بها ، فكما ان أخصية دائرة الغرض هناك أو جبت تضيقا في دائرة الامر والإرادة عن الشمول لغير ما هو المحصل لغرضه ، وهو العمل الماتى عن داع قربى ، فلايكون للمتعلق اطلاق يعم حال عدم الدعوة ولا كان مأخوذا فيه قيد دعوة الامر ، كذلك في المقام أيضا ، فإذا كان الغرض من وضع الحروف مثلا تفهيم معناه حال كونه ملحوظا باللحاظ الآلي بنحو القضية الحينية وفى الأسماء تفهيم معناها حال كونها ملحوظة باللحاظ الاستقلالي فلا جرم يتضيق من اجله دائرة موضوع وضعه أيضا بنحو يخرج عماله من سعة الاطلاق ويختص بذات المعنى لكن في حال كونه


(45)

ملازما مع اللحاظ الآلي في الحروف والاستقلالي في الأسماء بنحو القضية الحينية لا بنحو التقيد ، لان ذلك كما عرفت من المستحيل ، من جهة استحالة تقيد المعنى باللحاظ المتأخر عنه ، ومن المعلوم ان قضية ذلك قهرا هو عدم صحة الاستعمال المزبور على النحو المزبور من جهة عدم كونه من الاستعمال فيما وضع له بعد فرض قصور الوضع وعدم اطلاقه في الحروف والأسماء لحال عدم لحاظ المعنى مرآة أو استقلالا كما هو واضح.
    والى مثل هذا البيان أيضا نظر الكفاية ( قدس سره ) في جوابه عن الاشكال المزبور بأنه قضية قانون الوضع واشتراط الواضع لان يراد في الحروف معناها بما هي حالة لمعنى اخر وفى الأسماء بما هو هو وان كان في عبارته قصور في إفادة ذلك ، لا ان المقصود من ذلك بيان اشتراط الواضع بعد الوضع على المستعملين لان لا يستعملوا الحروف الا في حال لحاظ المعنى مرآة لحال المتعلق ولا الأسماء الا في حال لحاظ المعنى مستقلا ليكون من قبيل الشرط في ضمن العقد كما توهم ، كي يورد عليه بان لا معنى محصل ذلك ، ولا ملزم لاتباع شرط الواضع بعد اطلاق المعنى والموضوع له وعدم تقيده بصورة وجود القيد والخصوصية ، كيف وان بطلان مثل هذا الاشتراط على المستعملين لولا رجوعه إلى الارشاد إلى كيفية وضعه وعدم كونه مطلقا كما ذكرناه غنى عن البيان فلاينبغي ان ينسب ذلك إلى من له أدنى دراية فضلا عن القائل المزبور.
    وحينئذ فالعمدة في بطلان هذا المشرب هو ما أوردناه عليه من مخالفته لما هو قضية الوجدان والارتكاز بل ومساعدة البرهان أيضا على امتناعه ، نظرا إلى ما عرفت من امتناع كون الكلي مرآة للجزئيات والمصاديق بخصوصياتها التفصيلية خصوصا مع ما فيه أيضا من اقتضائه لزوم صرف جميع التقيدات عن مدلول الهيئة وارجاعها تماما إلى المادة والمتعلق نظرا إلى فرض كونها حينئذ على هذا المشرب غير ملتفت إليها كما لايخفى ، مع أن ذلك كما ترى خلاف الوجدان. وحينئذ بعد بطلان هذا المشرب أيضا يدور الامر بين المشرب الثالث والرابع وفي مثله لاينبغي التأمل في أن الأخير هو المتعين ، فان الوجدان في نحو قولك الماء في الكوز أو سرت من البصرة ونحو ذلك لايرى من لفظ في ومن الا الروابط الخاصة الذهنية بين مفهومي الماء والكوز ومفهومي السير والبصرة ، لا انه يرى من لفظ في الشيء المرتبط بالغير نظير السواد والبياض ولذلك لايصح الاكتفاء أيضا بذكر متعلق واحد بقولك


(46)

سرت من أو من البصرة بل لابد من ذكر المتعلقين فان ذلك شاهد صدق على كون مدلول الحروف من سنخ النسب والارتباطات المتقومة بالطرفين.
    ثم انه بعد ما ظهر من كون معاني الحروف عبارة عن الروابط الذهنية بين المفهومين ، يبقى الكلام في أنها ايجادية توجد باستعمال الأداة ، أو انها غير ايجادية بل كانت منبئة تنبئ عنها الأداة والهيئات كما في الأسماء ، حيث إن فيها وجهين :
    وقد ذهب بعض الأساطين إلى الأول والتزم بكونها ايجادية حيث أفاد في وجه ايجادية معاني الحروف بان الأسماء انما كانت موضوعة للطبايع المجردة عن خصوصية الارتباط بالغير فكان المفهوم الماء ومفهوم الكوز مفهومين متغايرين في الذهن غير مربوط أحدهما بالآخر عند لحاظهما ، ولكنك بقولك : ( الماء في الكوز ) توجد بلفظ ( في ) ربطا بين مفهومي الماء والكوز فكان هذا الربط جائيا من لفظ ( في ) والا فبدونه كان المفهومان أجنبيين لا ربط لأحدهما بالآخر ، وهكذا في نحو السير والبصرة ، فتكون الحروف كلها حينئذ آلات لايجاد معانيها ، بل وهكذا الهيئات أيضا إذ كان مفهوم كلمة الماء معنى متعقلا في ذاته ، استعمل فيه كلمة الماء أم لا ، كان الاستعمال في ضمن الهيئة الكلامية أو على نحو الافراد فلا فرق بين ان يقال الماء بارد مثلا أو الماء بلا تركيب كلامي ، حيث كان لهذا اللفظ في الصورتين معنى مستعمل فيه ، الا ان الهيئة الكلامية توجد ربطا بينه وبين البارد بعد أن لم يكن بينهما هذا الربط. وهذا بخلافه في المعاني الاسمية فإنها متحققة في حد ذاتها في عالم المفهوم ويكون استعمالها لاخطارها في الذهن. وحينئذ فكم فرق بين الأسماء وبين الحروف والهيئات ، فان الأسماء كلها تكون حاكية ومنبئة عن معانيها التي هي المفاهيم المستقلة في حد ذواتها بخلاف الحروف والهيئات فان هذه طرا تكون آلة لاحداث معانيها. ثم انه استشهد لذلك أيضا بالخبر المروي في المعالم عن أبي السلام عن أبي الأسود الدؤلي عن أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : ( الاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى والحرف ما أوجد معنى في غيره ) ، بتقريب ان في العدول في الحروف عن الانباء كما في الأسماء والافعال إلى الايجاد دلالة على أنه لا معنى للحروف تكشف عنها الأداة كما في الأسماء والافعال وان معانيها معان ايجادية تحدث باستعمال ألفاظها. نعم في نسخة أخرى هكذا بدل ( والحرف ما أوجد معنى في غيره ) ( والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل ) ولكنه رجح الأول من جهة علو


(47)

مضمونه الموجب لاستبعاد ان يناله يد المجعولية ، بخلاف ما في النسخة الأخرى فان فيها شواهد الجعل ، باعتبار انه لايكون مثل هذا التفسير مختصا بالحرف فيجرى في الاسم والفعل أيضا فان الاسم أيضا لايكون بفعل ولا حرف ، فكان من نفس هذا التعبير في الحروف بأنها ما توجد معنى في غيره يحصل الاطمينان بصدوره من قائله ولكنه باعتبار دقته وغموضه خفى على الرواة فصحفوا الخبر الشريف وعبروا مكان هذا التعبير بأنها ما لا تكون اسما ولا فعلا. هذا محصل ما أفيد في وجه كون معاني الحروف معاني إيجادية لا أنبائية.
    وقد يظهر من بعض آخر (*) التفصيل في الحروف بين مثل أداة النداء ولام الامر والحروف المشبهة بالفعل وبين غيرها من الحروف فالتزم بالايجادية في نحو أداة النداء والاستفهام والحروف المشبهة بالفعل وقال بالأنباء في غيرها هذا.
    ولكن التحقيق خلافه وانه لايكون مداليل الحروف إلا كمداليل الأسماء في كونها أنبائية محضة لا ايجادية. وما أفيد في وجه كون مداليل الحروف والهيئات ايجادية من التقريب المزبور لو تم فإنما هو على مبنى المشهور من القدماء في أسامي الأجناس من كون مداليلها عبارة عن نفس الطبايع المجردة التي تقتضيها مقدمات الحكمة عند السلطان إذ حينئذ بعد عراء المعنى الأسمى دائما في الذهن عن خصوصية الارتباط بالغير أمكن المجال لدعوى ايجادية خصوصية جهة ارتباط أحد المفهومين بالآخر ، والا فعلى ما هو التحقيق من مسلك السلطان ـ من وضع أسامي الأجناس للمهية المبهمة والجامع بين الفاقد للخصوصية وواجدها الذي لايكاد تحققه في الذهن الا مقرونا مع إحدى الخصوصيتين : اما التجرد والاطلاق ، واما الواجد للقيد والخصوصية فلايكاد يتم هذه المقالة ، حيث إنه بعد عدم امكان تحقق ذلك الجامع في الذهن الا مقرونا مع خصوصية التجرد والاطلاق الذي يقتضيه مقدمات الحكمة أو مع خصوصية التقيد ، نقول : بأنه إذا لو حظ المعنى الأسمى مقرونا مع خصوصية ارتباطه بالغير في مثل سر من البصرة ، والماء في الكوز ، والزيد على السطح ونحو ذلك ، وأريد القاء ما تصوره من الصورة المرتبطة إلى ذهن المخاطب فلا جرم يحتاج إلى وجود دال وكاشف في البين يحكى به عما تصوره من الصورة الخاصة ،


* هذا البعض صاحب الحاشية ، الشيخ محمد تقي « قدس سره » ( المؤلف « قده » ).


(48)

ومن المعلوم حينئذ انه كما أن ذات المعنى الأسمى وهو الطبيعة المهملة تحتاج إلى كاشف في مقام الكشف عنها ، كذلك أيضا جهة خصوصية ارتباطه بالغير ، فيحتاج تلك أيضا إلى كاشف يكشف عنها ، ولايكون الكاشف عنها الا الإرادة والهيئات كما هو الشأن أيضا عند لحاظ المعنى مجردا عن القيد والخصوصية ، حيث إن الاحتياج إلى مقدمات الحكمة حينئذ انما هو من جهة كشفها عن خصوصية التجرد والاطلاق والا فاللفظ حسب وضعه لا يدل الا على ذات المعنى والطبيعة المهملة بما هي متحققة تارة في ضمن الفاقد للقيد والخصوصية وأخرى في ضمن الواجد لها. وحينئذ فكما ان حيث خصوصية العراء وتجرد المعنى تحتاج إلى كاشف يكشف عنها وكان الكاشف عنها هو مقدمات الحكمة ، كذلك بعين هذا المناط حيث خصوصية ارتباط المعنى بالغير ، فهي أيضا مما تحتاج إلى كاشف يكشف عنها وكان الكاشف عنها هو الأداة والهيئات. وحينئذ فلايكون مداليل الحروف والهيئات إلا كمداليل الأسماء في كونها منبئة تنبئ عنها الأداة لا انها كانت موجدة بالأداة ، كما لايخفى.

    وبالجملة نقول : بان من راجع وجدانه يرى أنه كما أن في مرحلة الخارج هيئات ونسبا خارجية متحققة من مثل وضع الحجر على حجر آخر وخشب فوق خشب وكون شيء في وعاء كالماء في الكوز ، كذلك أيضا في عالم الذهن فان لنا ان نلاحظ ونتصور هيئات ونسبا على النحو الذي كانت في الخارج بان نلاحظ ونتصور في الذهن أحجارا موضوعة بعضها فوق بعض بهذه الهيئة والنسبة والخاصة ونلاحظ ماء في كوز كما أن لنا ان نلاحظ أحجارا بنحو لايكون بينها ارتباط وذلك بملاحظة حجر ثم ملاحظة حجر آخر غير مرتبط بالحجر الأول وملاحظة ماء وكوز غير مرتبط أحدهما بالآخر. وبعد ذلك نسئل عن هذا القائل ونقول : بأنه إذا تصور شخص ولا حظ الحجر الموضوع على حجر آخر بهذا الارتباط الخاص فأراد القاء ما تصوره من الصورة المرتبطة في ذهن لتفهيمه بان ما في ذهنه هو تلك الصورة الخاصة فهل له محيص الا وان يكشف عنها بقوله الحجر على حجر بجعل ( الحجر ) حاكيا حسب وضعه عن الذات المعروضة للهيئة و ( على ) عن حيث الارتباط الخاص الذي بين المفهومين ، أو انه لابد أيضا وان يوجد النسبة والارتباط بين مفهومي الحجرين بالأداة ؟ لا شبهة في أنه لا سبيل إلى الثاني لأن المفروض حينئذ هو تحقق تلك الإضافة والارتباط الخاص بين المفهومين قبل هذا الاستعمال فيكون


(49)

ايجادها من قبيل تحصيل الحاصل الذي هو من المستحيل. وحينئذ فتعين الأول باعتبار ان ما هو المحتاج إليه حينئذ انما هو الكشف عما في ذهنه من الصورة الخاصة ، ومعه لا محيص الا من المصير إلى كون الأداة والهيئات كاشفة عن مداليلها كما في الأسماء ، وان في قولك الماء في الكوز أو سرت من البصرة أو صعدت على السطح ونحو ذلك كما كان لفظ الماء والكوز ولفظ السير والبصرة ولفظ الصعود والسطح ونحو كاشفا عن مداليلها ، كذلك لفظ في ومن وعلى أيضا كان كاشفا عن الارتباط الخاص بين مفهومي الماء والكوز ، والارتباط بين مفهومي السير والبصرة ، ومفهومي الصعود والسطح.
    كيف وانه لم نتعقل مفهوما محصلا لايجادية مداليل الحروف والهيئات ، فإنه ان أريد بايجاديتها حضورها في الذهن باعتبار ما يكون النفس من الخلاقية للصور في وعاء الذهن فهو مسلم لا يعتريه ريب ، ولكنه نقول : بان هذا المعنى لايكون مختصا بمداليل الحروف والهيئات فيجرى في الأسماء أيضا ، ففي مثل الماء في الكوز كان كل واحد من مفهوم الماء والكوز والنسبة الظرفية بينهما من موجدات النفس حسب ما لها من الخلاقية للصور بلا خصيصة لذلك بالحروف ، ولكن لايكون الموضوع له حينئذ هو هذه المفاهيم بقيد وجودها في الذهن بل الموضوع له حينئذ هو نفس المتصور الذي تعلق به اللحاظ والتصور ، وذلك أيضا لا بما هو ، بل بما هو يرى خارجيا وفي هذه المرحلة كما لايكون مداليل الأسماء ايجادية كذلك الحروف أيضا. وان أريد بايجاد معاني الحروف كون الحروف موجدة لها في مقام الاستعمال فهو أيضا امر لا نتعقله بعد فرض تحقق تلك النسب والارتباطات الخاصة بين المفهومين قبل استعمال أداتها إذ هو حينئذ من تحصيل الحاصل وغير محتاج إليه ، على أنه نقول حينئذ بان لازم كاشفية الأسماء عن مداليلها انما هو تحقق مضامينها في رتبة سابقة عن كشف الألفاظ عنها كما هو شأن كل محكى بالنسبة إلى حاكيه ، وحينئذ فلو كان شأن الأداة والهيئات هو الموجدية لمداليلها التي هي الارتباطات الخاصة بين مفاهيم الأسماء يلزمه تأخر صقع الارتباط بين المفهومين عن صقع الألفاظ والأداة المتأخر عن صقع مفهومي الاسمين بمرتبتين ، نظرا إلى علية الأداة لوجود الارتباط بين المفهومين ولازمه حينئذ هو تقوم مثل هذا الربط الواقع في الصقع المتأخر بما يكون صقعه متقدما عليه بمرتبتين وهو كما ترى ، بل لازمه أيضا هو اخراج جميع مثل هذه التقييدات عن حيز الطلب والإرادة في الطلب المنشأ بالهيئة كما في نحو سر من البصرة إلى


(50)

الكوفة ونحو اضرب زيدا في الدار ، من جهة ان لازم موجدية الأداة والهيئات حينئذ للتقييدات والارتباطات هو وقوع جهة تقيد السير بالبصرة وتقيد زيد بالدار في المثال في الموطن المتأخر عن موطن مفهومي الاسمين ، أعني ذات السير والبصرة ، الملازم ذلك لكونه في عرض الطلب المنشأ بالهيئة ، من جهة انه كما أن لفظ من في المثال علة لتحقق التقيد والارتباط الخاص بين مفهومي السير والبصرة كذلك الهيئة أيضا علة لايجاد الطلب. ومن المعلوم حينئذ ان لازم وحدة الرتبة بين العلتين أي الهيئة ولفظ من انما هو عرضية معلوليهما وهما الطلب والتقيد أيضا ، ولازمه هو خروج جهة التقييد عن حيز الطلب وتجريد متعلقه عنه ، من جهة استحالة اخذ ما هو في عرض الطلب في متعلقه وفي رتبة سابقة عليه ، مع أن ذلك كما ترى ، فان بنائهم طرا في نحو هذه القضايا على اخذ جهة التقيد أيضا في الذات في مقام معروضيتها للطلب بجعل المتعلق عبارة عن الذات مع خصوصية التقيد بأمر كذا وكذا ، ومن هنا يحكمون بوجوب تحصيل القيد مقدمة لحيث التقيد ، لا على تجريد المتعلق والذات عن جهة التقيد ، ولذا يقولون بان الواجب في مثل قوله سر من البصرة انما هو السير الخاص بما هو متخصص بخصوصية كونه مضافا بدؤه إلى البصرة ، فهذا أيضا من المحاذير التي تترتب على القول بكون معاني الحروف والهيئات ايجادية احداثية. ولكن ذلك بخلافه على القول بالكاشفية فيها ، فإنه لايكاد يترتب عليه هذا المحذور من جهة امكان حفظ التقيد بالخصوصية على هذا القول في ناحية متعلق الطلب ، نظرا إلى معلومية عدم اقتضاء مجرد العرضية بين الكاشفين العرضية بين المنكشفين أيضا كما هو واضح.
    فتلخص مما ذكرنا انه على ما هو التحقيق من مسلك السلطان في وضع أسامي الأجناس : من كونها موضوعة للمهية المهملة والجامع بين الطبيعة المجردة والمقيدة لا محيض من الالتزام بكون الحروف أيضا كالأسماء منبئة عن مداليلها لا موجدة لها فعند ملاحظة مفهومي الاسمين مرتبطا أحدهما بالآخر كالماء في الكوز والسير من البصرة لابد في مقام الحكاية القاء ما في الذهن إلى المخاطب من جعل الاسم حاكيا عن مدلوله والأداة عن الارتباط الخاص بين المفهومين ولا سبيل حينئذ إلى دعوى موجدية الأداة للربط الخاص بين المفهومين بعد فرض تحقق الربط بينهما قبل ذكر الأداة كما هو واضح.
    ثم انه مما ذكرنا أيضا ظهر انه لا فرق في مداليل الحروف والهيئات بين كونها من


(51)

قبيل النسب الثابتة كما في المركبات التقيدية التوصيفية أو من قبيل النسب الايقاعية المتحققة في المركبات التامة فكما انه في النسب الثابتة لايكون الحروف والهيئات الا كاشفة عنها ككشف الأسماء عن مداليلها كذلك في النسب الايقاعية ففيها أيضا لايكون شأن الحروف والهيئات الا الكشف والانباء عنها.
    ومن هذا البيان ظهر أيضا ضعف ما أفيد من التفصيل المزبور في الحروف بين مثل أداة النداء وما شابهها كأداة التنبيه والندبة والاستفهام والتمني والترجي ونحوها مما يكون مداليلها عبارة عن ايقاع النسبة ، وبين مثل الأداة الجارة ونحوها مما يكون مداليلها عبارة عن النسبة الثابتة بجعل الطائفة الثانية حاكية ومنبئة عن مداليلها كالأسماء والطائفة الأولى موجدة لها ، بخيال ان قولك : يا زيد وأنت وهذا ونحوها انما هو موجد لمصاديق النداء والإشارة والاستفهام وانه كان بمنزلة تحريك اليد والعين في مقام النداء والإشارة والخطاب ، فكما انك بتحريك اليد والعين توجد مصداق النداء حقيقة ومصداق الإشارة والخطاب والبعث نحو الشيء كذلك أيضا بتلك الأداة فإنك بقولك يا زيد توجد مصداق النداء ، وبقولك أنت توجد فردا للخطاب ، وبقولك هذا توجد مصداق الإشارة ، وبقولك ليضرب مصداق البعث إلى الضرب من دون ان يكون تحقق لتلك المصاديق قبل هذا الاستعمال. ولكن ذلك بخلافه في مثل الأداة الجارة من نحو قولك : الماء في الكوز ، وسرت من البصرة إلى الكوفة فإنه فيها قبل الاستعمال كان لتلك النسبة واقع تطابقه تارة ولا تطابقه أخرى.

    إذ نقول : بان منشأ هذا التوهم انما هو توهم وضع هذا الأداة للنداء الخارجي والإشارة والخطاب والاستفهام الخارجية كما يظهر من التطهير بتحرك اليد والرأس والعين للإشارة والنداء والخطاب ، فإنه على هذا الاس لا محيص من القول بكونها آلات لايجاد معانيها وان معانيها معان احداثية. ولكنه توهم فاسد ، كيف وان المعنى الحرفي ليس الا عبارة عن الربط الخاص بين المفهومين لا الربط بين الخارجين فلو انه كان مثل هذه الأداة موضوعا لايقاع مصداق النداء الخارجي والاستفهام والبعث والتمني الخارجي يلزم كون معانيها من سنخ الارتباطات المتقومة بالخارجيات ، وهو كما ترى ، حيث لا يلائم مع حرفية المعنى فيها من جهة ان المعنى الحرفي كما عرفت وعليه أيضا اطباقهم انما هو عبارة عن الروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم ، كما يشهد لذلك أيضا


(52)

استعمال تلك الأداة أحيانا في معانيها لا بداعي النداء والاستفهام والبعث الحقيقي الخارجي بل بغيره من الدواعي الاخر من هزل أو سخرية كما هو كذلك أيضا في أداة التمني والترجي ونحوها كقولك : يا ليتني كنت جمادا أو حمارا ، مع كون الاستعمال المزبور أيضا على نحو الحقيقة دون المجاز فان ذلك أيضا شاهد عدم كونها الا موضوعة لايقاع الربط والنسبة ذهنا بين المفهومين في موطن الاستعمال المطابق تارة للربط الخارجي وأخرى لا ، غايته انه لا بما هو ربط ذهني بحيث يلتفت إلى ذهنيته ، بل بما انه يرى خارجيا تصورا وان كان تصديقا يقطع بخلافه. وعليه لا محيص من الالتزام بما ذكرنا من الكاشفية فيها أيضا كما في الأسماء حيث كانت الأداة المزبورة حينئذ كاشفة عن صورة ايقاع الربط بين المفهومين الموجودة في ذهنه في مرحلة تصوره قبالا للربط الثابت بين المفهومين التي هي مفاد الأداة الجارة. نعم لما لايكون مثل هذا الربط الايقاعي ملحوظا الا خارجيا ربما أوجب ذلك تخيل كون المعنى والموضوع له فيها عبارة عن ايقاع الربط الخارجي ولكنك بعد ما تأملت ترى كونها من قبيل سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
    واما الاستشهاد المزبور بالخبر المروى عن علي عليه السلام ففيه ما لايخفى إذ مضافا إلى اجمال الخبر من جهة اختلاف النسخ فيه كما عرفت والى كونه مرويا من طرق غيرنا كما ترى لا مجال للاستدلال بمثله في المسألة حيث إنه ليس مسئلتنا تلك من المسائل التي يستدل لها بالاخبار الآحاد كما لايخفى. مع أنه يمكن توجيه الرواية أيضا بما لاينافي ما ذكرناه من الكشف والانباء في الحروف ، بان يقال : بان النكتة في العدول فيها في الحروف إلى الايجاد انما هي ملاحظة كون النسب التي هي المعنى الحرفي علة لتحقق الهيئة في الذهن كما هو كذلك أيضا في النسب الخارجية ، كالنسب بين ذوات الأخشاب بالنسبة إلى تحقق الهيئة السريرية في الخارج ، وذلك أيضا بضميمة ما كان بين الألفاظ ومعانيها من العلاقة والارتباط الخاص الموجب لفنائها فيها ، فإنه باعتبار ان الأداة مرآة لمعانيها التي هي النسب الخاصة بين المفهومين وموجدية تلك النسب للهيئة في الذهن أضيف صفة الموجدية في الرواية إلى الأداة فعبر عنها بهذه العناية بأنها أو جدت معنى في غيره فتأمل.
    وعلى كل حال فهذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول في شرح حقيقة المعنى الحرفي ، ولقد


(53)

عرفت ما هو الحق فيها من كونها عبارة عن الإضافات الخاصة والارتباطات الذهنية المتقومة بالمفهومين مع كونها أيضا كالأسماء انبائية لا احداثية من دون فرق في ذلك بين كون النسب ايقاعية أو وقوعية كما هو واضح.

    واما المقام الثاني : فالكلام فيه كما عرفت انما هو في عموم الموضوع له فيها وخصوصه ، فان المشهور فيها على كونها من قبيل عام الوضع وخاص الموضوع له حتى أنه يظهر من بعضهم كصاحب تشريح الأصول جعل ذلك من عيوب المعنى الحرفي فإنه على ما حكى عنه الأستاذ قال : بان من عيوب المعنى الحرفي عدم تصور عموم الموضوع له فيها ، ولعله من جهة ما يرى من كون المنسبق منها في موارد استعمالاتها هي المصاديق الخاصة من الروابط التي لاختلافها لا يجمعها جامع واحد ، حيث كان شخص الربط الحاصل من إضافة السير بالبصرة في قولك سرت من البصرة غير شخص الربط الحاصل من اضافته إلى الكوفة في قولك : سرت من الكوفة ، وهو أيضا غير شخص الربط الحاصل من اضافته إلى مكان آخر ، وهكذا ، حيث إنه حينئذ يقال : بأنه بعد عدم جامع في البين بين تلك الروابط الخاصة الا مفهوم الربط الذي هو معنى اسمى لا حرفي لا مناص الا من القول بخصوص الموضوع له فيها هذا.

     ولكن نقول : بأنه انما يكون الامر كذلك بناء على ما هو المعروف المشهور من عموم الوضع والموضوع له إذ بعد ما يرى من عدم انسباق معنى عام في الذهن في موارد استعمالات الحروف بل كون المنسبق في الذهن منها هي اشخاص الروابط الخاصة المبائنة بعضها مع البعض الاخر لا مناص من القول بخصوص الموضوع له فيها ، والا فبناء على القسم الآخر من عموم الوضع والموضوع له الذي نحن تصورناه فلا قصور في دعوى عموم الوضع والموضوع له ، إذا مكن حينئذ دعوى ان الموضوع له فيها في كل صنف منها من الروابط الابتدائية والروابط الانتهائية والظرفية وهكذا عبارة عن جامع بين اشخاص تلك الروابط الذي به تمتاز الروابط الخاصة من كل صنف عن اشخاص الروابط الخاصة من صنف آخر ، كما نشاهد ذلك بالوجدان أيضا في الروابط الخاصة من كل صنف وطائفة كالروابط الابتدائية بان فيها وحدة سنخية وجامعا محفوظا توجب امتياز هذه الطائفة من الروابط عن الطوائف الأخرى من الروابط الانتهائية والظرفية والاستعلائية ونحوها ، فان مثل هذا الجامع المحفوظ وان لم يكن له وجود مستقل في الذهن


(54)

بنحو أمكن لحاظه وتصوره مستقلا حيث كان وجوده دائما في ضمن الفرد والخصوصية ولكنه في مقام الوضع أمكن وضع اللفظ بإزائه ليكون الخصوصيات طرا خارجة عن دائرة الموضوع له ، إذ يكفي في الوضع لحاظ المعنى الموضوع له ولو بوجه اجمالي بالإشارة الا جمالية إليه بما هو المحفوظ في ضمن الروابط الخاصة ، وعليه فيكون الموضوع له في الحروف كالوضع عاما لا خاصا ويكون استفادة الخصوصيات حينئذ من قبيل تعدد الدال والمدلول. هذا كله بناء على ما سلكناه في معنى الحروف من كونها عبارة عن الارتباطات الذهنية المتقومة بالمفاهيم من دون فرق في ذلك بين القول بالايجاد فيها أو القول بالكشف والانباء ، واما على بقية المسالك الاخر فعموم الوضع والموضوع له فيها أوضح كما لايخفى. 
    هذا كله في الجهة الأولى.

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net