متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الامر الثامن : في ثبوت الحقيقة الشرعية
الكتاب : نهاية الافكار ج1 ـ 2    |    القسم : مكتبة علم الأصول
الامر الثامن
{ في ثبوت الحقيقة الشرعية }

    قد اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدم ثبوتها على أقوال : ثالثها التفصيل بين الألفاظ المتداولة الكثيرة الدوران وبين غيرها ، بالثبوت في الأول دون الثاني.
    وليعلم بان مورد النزاع في هذا البحث بين الفريقين نفيا واثباتا انما هو في المهيات المخترعة الشرعية كالصلاة والصوم والحج ونحوها ، والا ففي المفردات كالركوع والسجود والقيام والقعود ونحوها وكذا المخترعات العرفية لا مجال لجريان هذا البحث والنزاع ، إذ فيها لايكون استعمال الشارع ألفاظها الا في معانيها العرفية أو اللغوية كما في استعماله غيرها من الألفاظ المتداولة كالماء والتراب والحجر ونحوها ، ومجرد اعتبار الشارع فيها بعض القيود عند الامر بها والبعث نحوها بالايجاد بدال آخر عليه غير موجب لجريان النزاع فيها أيضا ، إذ عليه لايكون استعمال الشارع تلك الألفاظ الا في نفس معانيها العرفية أو اللغوية غايته انه في مقام المطلوبية أفاد بعض القيود والخصوصيات فيها بدال اخر. ومن ذلك البيان ظهر خروج المعاملات طرا كالبيع والصلح والإجارة ونحوها عن حريم هذا النزاع حيث كان حقايقها عرفية أمضاها الشارع ، غايته انه اعتبر فيها بعض القيود الوجودية أو العدمية بدال آخر ككونه مقترنا بأمر كذا وفي حال عدم كذا. وعليه فلاينبغي عد ذلك تفصيلا في المسألة كما يظهر عن بعض حيث فصل بين العبادات والمعاملات إذ التفصيل المزبور فرع عموم النزاع وجريانه حتى في المخترعات العرفية كما هو واضح.
    بل ومن هذا البيان ابتناء هذا النزاع وجريانه في العبادات أيضا على أن يكون حقائقها مستحدثة في شرعنا ، والا فبناء على ثبوتها في الشرايع السابقة وكون الاختلاف فيها بين الشريعتين في خصوصيات الافراد نظير اختلافها بحسب حالات المكلفين كما ينبئ عنه غير واحد من الآيات من مثله قوله عز من قائل : أوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (1) وقوله سبحانه لإبراهيم عليه السلام واذن في الناس بالحج (2) وقوله


1 ـ سورة مريم ، الآية 31.
2 ـ سورة الحج ، الآية 27.


(70)

سبحانه : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم (1) تخرج أيضا عن حريم النزاع إذ عليه يكون ألفاظها حقايق لغوية قد استعملها الشارع في معانيها المعهودة الثابتة في اللغة ، غاية ما هناك انه صلى الله عليه وآله بعض الشرائط والموانع فيها بدوال أخر.
    واما ما قيل من أن مجرد ثبوت هذه المعاني قبل شرعنا ومعهوديتها عند العرف لا يقتضى معهوديتها عندهم بتلك الألفاظ الخاصة المستعملة فيها في شرعنا فيمكن حينئذ كونها حقيقة شرعية بوضع الشارع تلك الألفاظ الخاصة لتلك المعاني والمهيات المخصوصة وضعا تعيينيا أو تعينيا فان العبرة والمدار في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدم ثبوتها انما هو على صيرورة تلك الألفاظ حقيقة في تلك المعاني والمهيات بوضعه صلى الله عليه وآله ، كانت تلك المعاني ثابتة قبل شرعنا ومعهودة عند العرف أو كانت حادثة في شرعنا ، وعليه فلايوجب مجرد ثبوت تلك المعاني في الشرايع السابقة كون ألفاظها حقائق لغوية كي تخرج عن حريم النزاع ما لم يثبت ان تلك الألفاظ المستعملة فيها في لسان الشارع بعينها هي الألفاظ المستعملة فيها في عرف اللغة في سابق الزمان واما دعوى ان تلك الألفاظ بعينها هي الألفاظ المستعملة فيها في سابق الزمان فخال عن البرهان ، حيث لا برهان يساعده ولا شاهد له غير ما يرى في الكتاب العزيز من اطلاق تلك الألفاظ فيه على تلك المعاني ، وهو كما ترى مما لا شهادة فيه على ذلك ، لان غاية ما يوجبه انما هي الدلالة على وجود سنخ تلك المهيات والمعاني في الشرايع السابقة واما انها مما يعبر عنها أيضا بتلك الألفاظ في ذلك الزمان فلا كما لايخفى. فمدفوع بأنه يكفي في الشهادة على ذلك ما في قوله سبحانه ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) فإنه لولا معهودية حقيقة الصوم بمثل هذا اللفظ عند العرف لكان اللازم حينئذ إقامة البيان على ما هو المراد من الصوم إذ حينئذ كان المجال لسؤالهم من النبي صلى الله عليه وآله بأنه أي شيء كان واجبا على الأمم السابقة فصار واجبا علينا ، وحينئذ فنفس هذا الاطلاق بضم عدم التعرض لتفسيره بالامساك المخصوص أقوى شاهد على معهودية الصوم الذي كان واجبا على الأمم السابقة بهذا اللفظ عند عرف اللغة. وعليه يتوجه الاشكال المزبور بأنه


1 ـ سورة البقرة ، الآية 183.


(71)

بعد ثبوت تلك المعاني في الشرايع السابقة يكون ألفاظها أيضا حقايق لغوية فيخرج عن حريم النزاع.
    نعم لو اغمض عن هذه الجهة وقلنا بكون هذه المهيات مستحدثة في شرعنا أو كونها ثابتة في الشرايع السابقة ولكنها بغير تلك الألفاظ المستعملة فيها في لسان الشارع ، لما كان مجال حينئذ لانكار الحقيقة الشرعية ، تارة بدعوى ان استعمال الشارع تلك الألفاظ فيها كان من باب المجاز ومعونة القرائن ، وأخرى كما عن الباقلاني ـ بدعوى ان استعمال الشارع تلك الألفاظ دائما كان في معناها اللغوي لا غير ولكنه أفاد بعض الخصوصيات من الشرائط والموانع بدوال خارجية ، فكان لفظ الصلاة مثلا في جميع الموارد في كلامه صلى الله عليه وآله مستعملة في الدعاء وأفاد الخصوصيات من الترتيب والموالاة ونحوها من الشرائط والاجزاء والموانع بدوال أخر خارجية ، وثالثة بغير ذلك. إذ ذلك كله ينافيه ما عليه ديدن العقلاء في اخترائهم الماهيات ، فان كل مخترع لماهية من الصدر الأول إلى الآن بنائه وديدنه على وضع لفظ مخصوص أيضا بإزاء ما اخترعه من الماهية لا انه يستعمل فيه اللفظ مجازا بلا وضع اسم خاص لما اخترعه ، ومن المعلوم أيضا ان الشارع في مقام شارعيته واختراعه لتلك الماهيات أو امضائه لها بين رعيته ما جاوز هذه الطريقة المألوفة ، حيث إنه من المستبعد جدا ان يكون له في ذلك طريقة خاصة غير ما جرى عليه ديدن العقلاء ، وإلا يلزم عليه البيان بكونه غير سالك لما هو طريقة العقلاء لكي لا يحملوا اللفظ الصادر منه عند خلوه عن القرينة على المعنى الشرعي مع أنه صلى الله عليه وآله لم يقم بيانا على ذلك فكان نفس عدم بيانه لذلك كاشف كون جريه على طبق ديدن العقلاء فيثبت بذلك الوضع والحقيقة الشرعية.
    واما الاشكال عليه بان صيرورة اللفظ حقيقة في معنى لسانه صلى الله عليه وآله لابد وأن يكون بأحد الامرين ، اما وضعه صلى الله عليه وآله ابتداء أو كثرة استعماله ، وهما ممنوعان ، اما الأول فلبعده غايته لأنه لو كان لو صل إلينا مع أنه لم ينقل أحد من المؤرخين انه صلى الله عليه وآله قام يوم كذا في مجلس كذا وقال اني وضعت لفظ الصلاة للأركان المخصوصة ، خصوصا مع وفور الدواعي على نقل ما يصدر منه صلى الله عليه وآله واما الثاني فمن جهة احتياجه إلى مضى زمان طويل بنحو يصير اللفظ إلى حد الحقيقة ، فمندفع بأنه كذلك مع انحصار الوضع بما ذكر وليس كذلك ، بل له طريق ثالث ،


(72)

وهو ان يتحقق بنفس الاستعمال الذي هو من قبيل الانشاء الفعلي نظير المعاطاة في المعاملات كما في قولك في مقام تسميتك ولدك جئني بولدي محمد ، قاصدا تحقق العلقة الوضعية بنفس هذا الاستعمال ، بل ومن ذلك أيضا ما للمصنفين في كتبهم من الاصطلاحات الخاصة ، كالحاكم والمحكوم والوارد والمورود ونحو ذلك. نعم لابد في ذلك من إقامة قرينة على وضعه كي لايحتاج بعد ذلك إلى إقامة قرينة على المراد كما في المجاز. وعدم كون مثل هذا الاستعمال حقيقة ولا مجازا غير ضمائر بالمقصود بعد عدم كونه أيضا من المستنكرات. وحينئذ لو ادعى القائل بالثبوت مثل هذا المعنى كان دعواه في محله حيث لا يرد عليه محذور ، كما هو واضح.
    ثم إن الثمرة بين القولين انما هي في الألفاظ المستعملة في لسانه صلى الله عليه وآله من دون تعويل على القرينة ، فإنه بناء على الثبوت يحمل على المعنى الشرعي وبناء على عدم الثبوت يحمل على المعنى اللغوي ، فتدبر.

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net