متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الجهة الثالثة
الكتاب : نهاية الافكار ج1 ـ 2    |    القسم : مكتبة علم الأصول
الجهة الثالثة

    قد اختلف كلماتهم في حجية العام المخصص في الزائد عن المقدار المعلوم من التخصيص وعدم حجيته ، وتوضيح المقال يستدعى بيان اقسام صور التخصيص لكي يعلم ما هو محل الكلام وانه في أي قسم من اقسام فنقول :
    اعلم أن صور التخصيص على أنحاء ، من جهة ان المخصص اما ان يكون متصلا أو منفصلا ، وعلى التقديرين تارة يكون مبينا بحسب المفهوم والمصداق كليهما ، وأخرى مجملا بحسب المفهوم ، وثالثة يكون مبينا بحسب المفهوم دون المصداق ، ورابعة بعكس ذلك. ثم انه على تقدير الاجمال تارة يكون اجماله وتردده بين الأقل والأكثر ، وأخرى بين المتبائنين ، ثم المخصص أيضا تارة يكون لفظيا وأخرى لبيا ، فهذه اقسام صور التخصيص وأنحائه. وبعد ذلك نقول :
    أما إذا كان المخصص متصلا وكان مبينا بحسب المفهوم والمصداق أيضا كقوله : أكرم جميعا العلماء أو كل عالم الا زيدا ، فلاينبغي الاشكال في حجية العام وجواز التمسك به في البقية ، وذلك اما على القول بوضع هذه الأسامي لاستيعاب افراد ما يراد من المدخول فظاهر ، فإنه عليه لا يلزم المجازية أيضا في العموم بمقتضي التخصيص ، حتى يقال بتردد الامر في المجازين بقية المراتب ولا تعين لمرتبة خاصة منها واما على القول الآخر من وضعها لاستيعاب المدخول لجميع ما يصلح للانطباق عليه من الافراد فكك أيضا ، من جهة ان قضية التخصيص بالمتصل حينئذ وان كان هو الكاسرية لظهوره في الاستيعاب في جميع المراتب ، فلايكون له ظهور معه مع الاستيعاب لجميع ما ينطبق عليه المدخول من الافراد ، ولكن نقول ببقاء ظهوره حينئذ على حاله بالنسبة إلى بقية المراتب الاخر ، من جهة ان الخاص انما يمنع عن ظهور العام حينئذ بمقدار اقتضائه ، وهو لايكون الا المرتبة العالية ، واما غيرها من بقية المراتب فتبقى على حالها من الظهور الذي يقتضيه العام. ولا نعنى بذلك ان هناك ظهورات متعددة بحسب المراتب ، حتى يشكل بأنه كيف ذلك مع أنه لايكون للفظ واحد الا ظهور واحد وإرائة واحدة ،


(513)

ومع ارتفاعه بمقتضي احتفافه بالقرينة لايبقى له ظهور آخر في بقية المراتب ، بل وانما المقصود هو ان هذه الدلالة والظهور في استيعاب الافراد له مراتب عديدة وحدود كثيرة حسب التحليل العقلي ومن دون مدخلية لجهة الانضمام فيها ، وان القدر الذي يقتضيه القرينة المتصلة من الكاسرية لظهوره انما هو كسر صولة ظهوره بالنسبة إلى تلك المرتبة العالية لا مطلقا حتى بالنسبة إلى بقية المراتب الاخر المندكة في ضمنها. ومن المعلوم حينئذ انه بعد عدم مدخلية حيثية الانضمام في إرائته عن المراتب الاخر يتعين بقية المراتب الاخر بمقتضي ظهوره الوضعي أو الاطلاقي ، فهو نظير الخط الطويل الذي قطع منه قطعة من حيث بقاء البقية بعد على حالها ، على ما كانت عليها قبل قطع تلك القطعة ، وان كان قد تبدل حده بحد آخر أقصر من الحد الأول ، ونظيره المرآة التي وضعت لإرائة جماعة فوجد حائل في البين يمنع عن ارائتها لبعض منها ، من حيث بقاء ارائتها على حالها بالنسبة إلى البقية ، ففي المقام أيضا كك ، حيث إن لفظ الكل مثلا بمقتضي وضعه كان له الظهور في الاستيعاب بالنسبة إلى كل مرتبة مرتبة ولو في ضمن المرتبة العالية ، وبعد انعدام ظهوره في المرتبة العالية بمقتضي القرينة المتصلة يتحدد ظهوره بمرتبة أخرى دون تلك المرتبة ، لا انه ينعدم ظهوره من رأس حتى بالنسبة إلى بقية المراتب أيضا ، وعليه فبعد بقاء ظهوره في بقية المراتب فلا مانع من التمسك بأصالة العموم في البقية فيما شك فيه في الخروج زائدا عن المقدار المتيقن ، من دون احتياج حينئذ إلى اثبات تعين الباقي من باب أقرب المجازات ، حتى يشكل بان المدار في الأقربية إلى المعنى الحقيقي ليس هو الأقربية بحسب الكم والمقدار وانما هو بحسب زيادة الانس ، والا إلى اثباته أيضا من جهة اقتضاء عقد الاستثناء لذلك كما ادعى من دعوى ان الاستثناء ، كما تكون قرينة صارفة عن إرادة المعنى الحقيقي ، كك تكون قرينة معينة لتعين ما دون المرتبة العالية من بين المراتب ، فان ذلك أيضا مبني على الالتزام بانعدام أصل الظهور بمجرد قيام القرينة المتصلة على العدم بالنسبة إلى المرتبة العالية ، وهو كما ترى مما لا وجه له.
    ثم انه بعد ما عرفت من ظهور العام ، بعد التخصيص بالمتصل ، في البقية فلا يهمنا البحث في أن استعمال العام حينئذ هل كان من معناه الحقيقي وهو الشمول لتمام افراد المدخول أم لا ؟ وان أمكن أيضا دعوى كونه على نحو الحقيقة ، بالفرق بين الإرادة الجدية والإرادة الاستعمالية ، بتقريب كونه مستعملا أيضا حينئذ في معناه الحقيقي ، وهو الشمول


(514)

لتمام افراد المدخول ، ولكنه في مقام الجد أريد منه ما عدا الفرد الخارج ، ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم الطريق لاثبات هذه الجهة ، كعدم الطريق أيضا لاثبات المجازية. واما أصالة الحقيقة فهي أيضا غير جارية ، لعدم ترتب اثر عملي عليها بعد العلم بعدم كون المراد الجدي هو المعنى ، كما هو واضح. هذا كله فيما لو كان المخصص متصلا وكان مبينا بحسب المفهوم والمصداق كليهما.
    واما لو كان مجملا بحسب المفهوم أو المصداق كقوله : أكرم العلماء الا الفساق منهم ، وتردد الفاسق من جهة الشبهة في المفهوم بين المرتكب للكبائر أو عمومه لمرتكب الصغائر أيضا ، أو من جهة الشبهة في المصداق بان تردد مصاديق الفاسق المبين المفهوم مثلا بين الخمسة والعشرة ، فلاينبغي الاشكال فيه أيضا في سقوط العام عن الحجية وعدم جواز التمسك به في المشتبه مفهوما أو مصداقا ، من دون فرق في ذلك بين ان يكون التردد والاجمال بين الأقل والأكثر كما في المثال المزبور ، أو بين المتبائنين كما في قوله : أكرم كل عالم الا زيدا ، مع تردد الخارج من جهة الشبهة في المفهوم بين زيد بن عمرو بين زيد بن بكر ، أو من جهة الشبهة في المصداق بين كونه هذا الشخص أو ذاك الشخص الآخر ولو مع تبين المفهوم فيه ، كما لو علم بان الخارج هو زيد بن عمرو ولكنه تردد بين كونه هذا الشخص أو ذاك الآخر ، حيث إنه في جميع هذه الصور لا مجال للتمسك بالعام في المشتبه. وعمدة الوجه في ذلك انما هو من جهة سراية اجمال المخصص حينئذ إلى عموم العام ، حيث إنه باتصاله به يوجب كسر صولة ظهوره في العموم وتحديد دائرته بمقدار اقتضائه ، وحينئذ فإذا فرض اجماله وتردده بين الأقل والأكثر أو المتبائنين فقهرا يسري اجماله إلى العام أيضا من جهة كونه من قبيل اتصاله بما يصلح للقرينية عليه ، ومعه فلا يبقى له ظهور حتى يتمسك به فيما يشك كونه من افراد المخصص. نعم لا بأس بالتمسك به بالنسبة إلى ما يعلم خروجه عن دائرة الخاص من الافراد الاخر ، فإذا شك في خروجها من جهة مخصص آخر يؤخذ بعموم العام بالنسبة إليها ، هذا كله فيما لو كان الخاص متصلا بالعام.
    واما لو كان منفصلا عن العام ففيه أيضا يتأتى الصور المزبورة : فإذا كان الخاص مبينا بحسب المفهوم والمصداق كليهما فالحكم فيه كما في الخاص المتصل المبين بحسب المفهوم والمصداق ، من حجية العام وجواز التمسك به في الباقي ، بل الحكم فيه أوضح من فرض


(515)

اتصال المخصص ، وذلك من جهة استقرار الظهور حينئذ للعام وعدم انثلامه بقيام القرينة المنفصلة على الخلاف كما في الخاص المتصل ، حيث إن غاية ما يقتضيه التخصيص بالمنفصل انما هو المانعية عن حجية ظهوره المستقر في العموم لا عن أصل ظهوره ، وذلك بملاك أقوى الحجتين ، ومن ذلك ربما يقدم ظهور العام على ظهوره فيما لو كان العام أقوى ظهورا منه. وعلى ذلك فكان اللازم هو اتباع ظهوره في العموم في غير مورد قيام الحجة على الخلاف ، وهو واضح.
    واما لو كان الخاص حينئذ مجملا بحسب المفهوم ، فان كان الاجمال والتردد بين الأقل والأكثر ، كما لو ورد انه يجب اكرام كل عالم ، وورد بدليل منفصل انه لايجب اكرام الفساق من العلماء ويحرم اكرامهم ، وتردد الفاسق من جهة اجمال المفهوم بين المرتكب للكبائر أو الصغاير أيضا ، ففي مثله يقتصر في الخروج عن العموم على المتيقن وهو المرتكب للكبائر ، واما بالنسبة إلى المرتكب للصغاير فيؤخذ بالعموم ، والسر فيه ، واضح ، حيث إنه بعد استقرار ظهور العام وعدم انثلامه بقيام القرينة المنفصلة على الخلاف لابد من الاخذ بظهور العام في المقدار الزائد عن المتيقن من التخصيص ، من جهة رجوع الشك فيه حينئذ إلى الشك في أصل التخصيص ، فان رفع اليد عن أصالة العموم حينئذ مع فرض اجمال المخصص طرح للحجة المعتبرة بلا وجه ، هذا إذا كان الشك في خروج المشكوك وهو المرتكب للصغاير عن حكم العام ممحضا من جهة الشك في اندراجه تحت عنوان المخصص وهو الفاسق واقعا بحيث على تقدير عدم اندراجه تحته وفرض وضعه لخصوص المرتكب للكبائر يقطع بمشموليته لحكم العام.
    واما لو لم يكن الشك فيه ممحضا بذلك بل كان مما يشك فيه في مشموليته لحكم العام ولو على تقدير خروجه عن تحت عنوان المخصص واقعا ، بحيث كان الشك في وجوب اكرامه من جهتين : تارة من جهة الشبهة الحكمية وانه على تقدير عدم كون المرتكب للصغاير مندرجا تحت عنوان الفاسق هل يشمله حكم العام أم لا بل كان خارجا أيضا عن حكمه ، وأخرى من جهة الشبهة المصداقية (1) وانه هل المرتكب للصغيرة فاسق أم


1 ـ مراده « قدس سره » بحسب الظاهر من الشبهة المصداقية هي الشبهة المفهومية في المخصص ـ كما يشهد به تفسيره لها بقوله وانه هل المرتكب للصغيرة فاسق أم آه وحيث كان مرجع هذه الشبهة أن يشك في مصداقية المرتكب للصغيرة لعنوان الفاسق عبر عنه بالشبهة المصداقية وكيف كان فهو على خلاف الاصطلاح الشايع [ المصحح عفى عنه ].


(516)

لابل الفاسق بحسب وضعه موضوع لخصوص مرتكب الكبيرة ؟ ففي مثله بالنسبة إلى الشبهة الحكمية وهي الشبهة من الجهة الأولى لا اشكال في الاخذ بالعموم ، نعم انما الكلام في جواز الاخذ به بالنسبة إلى الشبهة المصداقية ، وهي الشبهة من الجهة الثانية ، حيث إنه قد يشكل في جواز التمسك بالعام من هذه الجهة ، بتقريب ان الشبهة من تلك الجهة لما كانت في طول الشبهة من الجهة الأولى ، فمع تطبيق أصالة العموم من الجهة الأولى ورفع الشك به من جهة الكبرى لا مجال لتطبيقها ثانيا من الجهة الثانية لرفع الشك به من جهة الصغرى ، نظرا إلى أن الظهور الواحد لا يتحمل لتطبيقين طوليين ، وحينئذ فمع فرض تطبيقه على أصل الكبرى يستحيل تطبيقه ثانيا على الصغرى. وهذا بخلافه في فرض تمحض الشك بالجهة الثانية وفرض العلم باندراجه في العام على تقدير كون الفاسق هو خصوص المرتكب للكبيرة فإنه حينئذ كان لتطبيقه على تلك الجهة كمال مجال لأنه حينئذ لايحتاج إلى تطبيقه في كبرى المسألة حتى يتوجه الاشكال المزبور ، هذا ، ولكن يمكن دفع الاشكال المزبور بما دفعناه به الاشكال المعروف في حجية الاخبار مع الواسطة ، حيث إن الاشكال في المقامين واحد ، والجواب عنه أيضا واحد ، فراجع تلك المسألة وعليه فلا مجال للاشكال فيه من هذه الجهة فكان المتبع حينئذ هو أصالة العموم في غير مورد قيام الحجة الأقوى على الخلاف. هذا كله إذا كان اجمال المفهوم من جهة تردده بين الأقل والأكثر.
    واما لو كان اجماله من جهة تردده بين المتبائنين ، ففي مثله يسقط العام عن الحجية بالنسبة إلى كل واحد من الخصوصيتين فلايكون بحجة في واحدة منهما ، وذلك فان العام حينئذ وان كان على ظهوره من دون سراية الاجمال إليه من الخاص المنفصل ، الا انه لما كان يساوى ظهوره بالنسبة إلى كل واحد من زيدين اللذين يعلم بخروج أحدهما عن تحته بمقتضي دليل المخصص ، لايكون بحجة فعلية في واحد منهما ، فيصير بحكم المجمل من حيث السقوط عن الحجية نعم لا بأس بالأخذ بالعموم بالنسبة إلى ما عدا الفرد الخارج ، وهو الفرد الآخر المعين في الواقع ، لكن بشرط ان يكون مما يحتمل دخوله في العام وخروجه عنه من جهة احتمال مخصص آخر لا نعلمه ، والا فمع العلم بدخوله تحت العام وعدم


(517)

مخصص آخر لا مجال لأصالة العموم بالنسبة إليه ، من جهة انتفاء الشك الذي به قوام جريان دليل التعبد بالظهور ، واما ثمرة ذلك فإنما هي دخول تلك الفرد الآخر باجراء أصالة العموم فيه في العلم الاجمالي ، فيحكم عليه بقواعده المقررة في محله.
    نعم قد يتوهم جواز التمسك بأصالة العموم حينئذ بالنسبة إلى كل واحد من الفردين المعلوم خروج أحدهما بمقتضي الخاص المجمل ، في مورد كان مفاد دليل الخاص هو نفى الالزام ، كما لو كان مفاد العام هو وجوب الاكرام لكل واحد من العلماء وكان مفاد الخاص هو عدم وجوب الاكرام بالنسبة إلى زيد المردد بين زيد بن عمرو وزيد بن بكر ، نظير جريان الأصلين المثبتين في الطرفين في مورد العلم الاجمالي بنفي الالزام في أحدهما ، بتقريب ان مانعية العلم الاجمالي عن جريان الأصول في الطرفين انما هو من جهة استلزامها المخالفة العلمية للتكليف الفعلي المعلوم ، والا فالعلم الاجمالي بنفسه لايكاد يمنع عن جريان الأصول في الأطراف ، من جهة ما تقرر في محله من اختلاف المتعلق فيهما ، وكون المتعلق للعلم الاجمالي هو العنوان الاجمالي المعبر عنه بأحد الفردين واحدي الخصوصيتين ، ومتعلق الشك هو كل واحد من العناوين التفصيلية ، وحينئذ فبعد ان فرض عدم استلزامه لمحذور العلمية في المقام فلا جرم يجري أصالة العموم بالنسبة إلى كل واحد من زيدين وبمقتضاها يحكم بوجوب اكرام كل واحد منهما ، كما كان هو الشأن أيضا في الأصلين المثبتين في مورد العلم الاجمالي بنفي التكليف.
    ولكنه توهم فاسد نظرا إلى الفرق الواضح بين المقامين حيث إن الامارات باعتبار حجيتها في مداليلها الالتزامية يمنع عن جريانها في أطراف العلم الاجمالي ، بملاحظة انتهاء الامر فيها بهذه الجهة إلى التعارض كما في الخبرين القائمين أحدهما على وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة والاخر على وجوب صلاة الظهر فيه ، مع العلم بعدم وجوب الصلاتين على المكلف. وهذا بخلافه في الأصول فإنها من جهة عدم حجية مثبتاتها لايكاد انتهاء الامر فيها من نفس جريانها في أطراف العلم الاجمالي إلى التعارض كما في الامارات ، فمن ذلك لا بأس بجريانها والتعبد بها في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي عند عدم استلزامه للمخالفة العملية للتكليف المعلوم. هذا مما افاده الأستاذ في ابداء الفرق بين المقامين.
    ولكن أقول : بأنه لايحتاج في المنع عن جريان أصالة العموم في الطرفين إلى التشبث


(518)

بمسألة المدلول الالتزامي في الامارات ، إذ مع الغض عن ذلك كان المجال أيضا للمنع عن جريان أصالة العموم في الطرفين ، وذلك انما هو بدعوى ان عدم جريان أصالة العموم في الطرفين انما هو من جهة منافاة العلم الاجمالي عقلا مع قضية طريقية الامارات وكاشفيتها عن الواقع ، من جهة انه مع العلم الاجمالي المزبور يقطع بمخالفة أحد الطريقين للواقع ، ومع هذا القطع يستحيل التعبد بهما في الطرفين للاستطراق إلى الواقع.
وهذا بخلافه في الأصول فان حجيتها لما لم تكن من باب الطريقية والكاشفية عن الواقع ، بل من باب التعبد المحض في ظرف الجهل واستتار الواقع ، فأمكن حينئذ التعبد بها في الطرفين في مورد العلم الاجمالي بالخلاف ما لم يلزم من جريانها المخالفة العملية للتكليف المعلوم في البين ، فتدبر. هذا كله فيما لو كان الخاص مجملا بحسب المفهوم
    واما لو كان اجماله بحسب المصداق مع تردده بين الأقل والأكثر ففي جواز التمسك بالعام فيما يحتمل كونه من افراد الخاص وعدم جوازه خلاف بين الاعلام ، والأول وهو الجواز هو المنسوب إلى المشهور من قدماء الأصحاب ، وربما فصل بين المخصص اللفظي واللبي بالجواز في الثاني دون الأول ولعله هو المشهور بين المتأخرين. ولكن التحقيق كما ستعرف هو عدم الجواز مطلقا.
    ثم إن غاية ما قيل في تقريب القول بالجواز هو دعوى وجود المقتضي وعدم المانع عنه.
    اما الأول فمن جهة شمول العام وانطباقه على المشكوك نظرا إلى استقراره ظهوره وعدم انثلامه بالتخصيص بالمنفصل.
    واما الثاني فمن جهة ان ما نعيه الخاص ومزاحمته للعام انما كانت بمقدار حجيته ، وحينئذ فإذا فرض عدم حجيته الا بالنسبة إلى ما علم كونه من افراده ومصاديقه دونه بالنسبة إلى ما شك كونه من افراده ، فقهرا فيما اشتبه كونه من افراده يرجع إلى العموم فيحكم عليه بحكمه لعدم قيام حجة فيه على خلافه.
    وقد أورد عليه بان العام وان لم يرتفع ظهوره في العموم بواسطة الخاص المنفصل ، ولا كان الخاص أيضا حجة فيما اشتبه كونه من افراده ، فلايكون خطاب لاتكرم الفساق دليلا على حرمة اكرام من شك في فسقه من العلماء من جهة الشك في أصل تطبيقه على المشكوك الا ان عدم جواز الاخذ بالعام حينئذ انما كان من جهة اقتضاء قضية التخصيص حتى في المنفصل لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في ناحية الافراد الباقية تحت


(519)

العام الموجب لانقلاب العنوان المأخوذ في العام وهو العالم مثلا في قوله : أكرم كل عالم ، عن كونه تمام الموضوع لوجوب الاكرام إلى كونه جزء الموضوع ، من جهة صيرورة الموضوع حينئذ بعد ورود الدليل على حرمة اكرام الفساق من العلماء عبارة عن العالم المقيد بكونه عادلا أو غير فاسق ، ومن الواضح على ذلك عدم جواز التمسك بالعموم في المشتبه كونه من افراد الخاص ، لأن الشك في كونه من افراد الفساق يلازم الشك في ذلك العنوان الايجابي أو السلبي المأخوذ في موضوع حكم العام ، ومع هذا الشك فلايكاد يصح التمسك فيه بالعام ، من جهة كونه من التمسك بالعام مع الشك في أصل تطبيق عنوان العام على المورد هذا.
    ولكن فيه منع اقتضاء التخصيص كالتقييد لاحداث عنوان سلبي أو ايجابي في ناحية الافراد الباقية تحت العام ، وقياسه بباب التقييد والاشتراط الموجب لتعنون الموضوع بوصف وجودي أم عدمي مع الفارق جدا ، فان شأن التخصيص سواء في المتصل أو المنفصل في قوله : أكرم العلماء الا زيدا أو عمرا ، مثلا انما هو مجرد اخراج بعض الافراد أو الأصناف عن تحت حكم العام وتخصيصه بالافراد الباقية ، من دون اقتضائه لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في ناحية الافراد الباقية في مقام موضوعيتها للحكم ، بل هذه الافراد الباقية بعد التخصيص كانت على ما كانت عليها قبل التخصيص في الموضوعية للحكم العام بخصوصياتها الذاتية ، فهو أي التخصيص في الحقيقة بمنزلة انعدام بعض الافراد أو الأصناف بموت ونحوه ، فكما ان خروج من مات منها لايوجب تعنون الافراد الباقية بعنوان وجودي أو سلبي بل كانت الافراد الباقية على ما هي عليها قبل خروج من خرج بالموت من كونها تمام الموضوع للحكم ، كك أيضا في التخصيص فلايوجب ذلك أيضا احداث عنوان سلبي أو ايجابي في الافراد الباقية ولا تغيرا فيها في موضوعيتها للحكم بالانقلاب عن كونها تمام الموضوع إلى جزئه ، ومجرد اختصاص حكم العام حينئذ في قوله : أكرم العلماء ، بعد التخصيص ، بغير دائرة الخاص من بقية الافراد أو الأصناف لايكون من جهة تعنوان الافراد الباقية بعنوان خاص في مقام موضوعيتها للحكم ، بل وانما ذلك من جهة ما في نفس الحكم من القصور الناشي من جهة تضيق دائرة الغرض والمصلحة عن الشمول ثبوتا لغير الافراد الباقية ، وهذا بخلافه في باب التقييد والاشتراط ، حيث إن قضية التقييد بشيء تعنون موضوع الحكم بوصف وجودي أم عدمي غير حاصل قبل توصيفه به ، كما في قوله : أكرم العالم وقوله أعتق الرقبة ، حيث إنه بورود دليل


(520)

التقييد بكونها مؤمنة ينقلب الذات عن كونها تمام الموضوع إلى جزء الموضوع ، فيصير الموضوع عبارة عن الرقبة المقيدة بالايمان ، بنحو خروج القيد ودخول التقيد.
    وبالجملة فرق واضح بين باب التخصيص والتقييد حيث إنه في الأول لايكاد يكون قضية التخصيص الا مجرد اخراج بعض الافراد أو الأصناف عن دائرة موضوع العام الموجب لحصر حكم العام ببقية الافراد أو الأصناف من دون اقتضائه لتغيير في ناحية الافراد الباقية في مقام موضوعيتها للحكم ، بخلاف الثاني حيث إن شأن دليل التقييد والاشتراط انما هو توصيف الموضوع بوصف خاص وجودي أم عدمي ، وبذلك يوجب اخراجه عما عليه قبل التقييد من التمامية في الموضوع إلى جزئه ، وعليه فنقول بأنه لا مجال بعد هذا الفرق لمقايسة أحد البابين بالآخر بوجه أصلا.
    ثم انه مما يشهد لما ذكرنا من الفرق بين البابين اطباقهم على عدم التمسك بدليل المطلق في موارد الشك في مصداق القيد ، كالشك في طهارة الماء واطلاقه ، حيث لم يتوهم أحد جواز التمسك حينئذ باطلاق ما دل على جواز التوضي بالماء لاثبات جواز الوضوء بما شك في طهارته أو اطلاقه ، بخلاف موارد الشك في مصداق المخصص في العام ، حيث إن فيها خلافا بين الاعلام بل المشهور من القدماء كما قيل على جواز التمسك بالعام. ومن المعلوم انه لايكون الوجه في ذلك الا ما أشرنا إليه من الفرق بين البابين ، والا فلو كان مرجع التخصيص أيضا كالتقييد إلى احداث عنوان سلبي أو ايجابي في ناحية الافراد الباقية تحت العام لما كان وجه لاختلافهم في جواز الرجوع إلى العام في المقام مع اطباقهم على عدم جواز الرجوع إلى دليل المطلق عند الشك في مصداق القيد ، كما لايخفى.
    ثم إن هذا كله في بيان الفرق بين كبرى البابين بحسب مقام الثبوت. واما بحسب مقام الاثبات واستظهار انه أي مورد من باب التخصيص وأي مورد من باب التقييد والاشتراط فلابد في استفادة أحد الامرين من المراجعة إلى كيفية السنة الأدلة. وفي مثله نقول : بان ما كان منها بلسان الاستثناء كقوله : أكرم العلماء الا زيدا ، فلا اشكال في أنه من باب التخصيص حيث إنه لا يستفاد من نحو هذا اللسان أزيد من تكفله لاخراج زيد عن العموم المزبور وحصر حكم العام بما عدا زيد من الافراد الاخر ، كما أن ما كان منها بلسان الاشتراط كقوله : يشترط ان يكون كذا وان لايكون كذا ، أو بلسان نفى الحقيقة عند فقدان امر كذائي كقوله : لا صلاة الا بطهور ولا رهن الا مبغوضا ، فلا اشكال أيضا


(521)

في كونها من باب التقييد ، واما ما كان منها بلسان لاتكرم الفساق من العلماء أو لايجب اكرام الفساق منهم كما هو الغالب في التخصيصات بالمنفصل فهو قابل لكلا الامرين حيث يصلح لان يكون من باب التقييد ، فيقيد به العنوان المأخوذ في العام في قوله : أكرم العلماء ، بكونهم عادلين أو غير فاسقين ، كصلاحيته أيضا لان يكون من باب التخصيص الغير الواجب الا لحصر الحكم في قوله : أكرم العلماء بما عدا الفساق من الافراد الاخر ، من دون اقتضائه لتعنون الافراد الباقية بكونهم عادلين أو غير فاسقين ، وان كانوا في الواقع ملازمين مع العدالة قهرا ، وحينئذ فقد يقال في مثله بدوران الامر بين رفع اليد عن أحد الظهورين اما ظهور عنوان الموضوع في الاطلاق واما ظهور العام في العموم ، وان المتعين في مثله هو رفع اليد عن ظهوره في الاطلاق مع الاخذ بظهوره في العموم بالنسبة إلى كل فرد من افراد العالم ، ولا أقل من تصادم الظهورين ، فتكون النتيجة حينئذ كالتقييد في عدم جواز التمسك بالعام عند الشك في مصداق المخصص. ولكنه مدفوع بمنع الدوران بينهما ، فإنه بعد القطع بخروج افراد الفساق عن دائرة حكم العام ، وهو وجوب الاكرام ، اما رأسا على التخصيص واما من جهة انتفاء القيد على التقييد ، فلا جرم لايترتب اثر عملي على أصالة العموم بالنسبة إليهم ، حتى يجري العموم بلحاظه ، ومعه فلا مجرى لأصالة العموم بالنسبة إلى كل فرد من العلماء حتى الفساق منهم ، وحينئذ فمع عدم جريان أصالة العموم وسقوطها عن الحجية فقهرا تبقى أصالة الاطلاق فيه بلا معارض ، ونتيجة ذلك قهرا هو التخصيص لا غير ، كما هو واضح.
    وعلى كل حال فبعد ما اتضح وجه الفرق بين باب التخصيص وبين باب التقييد والاشتراط بحسب الكبرى ، وكون التخصيص من قبيل انعدام بعض الافراد أو الأصناف بموت ونحوه في عدم اقتضائه لاحداث عنوان سلبي أو ايجابي في ناحية الافراد الباقية لكي ينقلب عن كونها تمام الموضوع للحكم إلى جزئه ، ظهر لك عدم صحة ما أفيد من التقريب المزبور في وجه عدم جواز التمسك بالعام في المشتبه كونه من افراد المخصص ومصاديقه ، من دعوى عدم الجزم بانطباق عنوان الموضوع بعد تقييده على المورد ، نظرا إلى الشك الوجداني حينئذ في جزئه الآخر وعدم صلاحية أصالة العموم لاحراز ذلك الجزء المشكوك ، إذ نقول بان هذا التقريب يتم في فرض ان يكون التخصيص أيضا كالتقييد موجبا لتعنون عنوان العام بأمر وجودي أو عدمي ، والا فعلى ما عرفت من الفرق


(522)

بين البابين لايكاد مجال لهذا الاشكال أصلا ، حيث إنه بعد عدم انقلاب عنوان العام عن كونه تمام الموضوع للحكم إلى جزء الموضوع فلا جرم أصل تطبيق العنوان على المورد عند الشك جزميا ، وفي مثله يتجه الاستدلال المزبور للقول بالجواز ، بتقريب انه بعد الجزم بانطباق عنوان العام على المورد واحتمال مطابقة ظهوره للواقع في الزائد عن الافراد المعلومة الفسق ، ولو من جهة احتمال كونهم عدولا ، يشمله دليل التعبد بالظهور الآمر بالغاء احتمال الخلاف ، فان المدار في التعبد بالظهور انما هو على مجرد احتمال مطابقة الظهور للواقع ، وحينئذ فكما انه عند احتمال مطابقة الظهور للواقع في زيد العالم المشكوك فسقه وعدالته من جهة الشبهة الحكمية واحتمال خروج الفساق الداخل فيهم زيد على تقدير فسقه عن تحت حكم العام لأجل مخصص خارجي لايعلمه المكلف تجري أصالة الظهور ، وبمقتضاها يحكم بوجوب اكرام زيد المشكوك فسقه وعدالته ، كك الامر فيما لو كان احتمال مطابقة الظهور للواقع من جهة الشبهة المصداقية واحتمال كون المشتبه عادلا في الواقع ، فإنه في مثله أيضا يشمله دليل التعبد بالظهور الآمر بالغاء احتمال الخلاف. نعم في المقام بالنسبة إلى الشبهة الحكمية لما قام حجة أقوى على الخلاف يرفع اليد عن حجية ظهوره ، واما بالنسبة إلى الشبهة المصداقية فحيث انه لم يعلم بمخالفة ظهوره للواقع من جهة احتمال كون المشتبه عدلا ولم تقم حجة أيضا على الخلاف من جهة فرض الشك في انطباق دليل الخاص على المورد فيؤخذ بظهوره ويحكم عليه بحكمه.
    واما توهم اختصاص حجية الظهور بما لو كان الشك في مخالفة الظهور للواقع من جهة الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعية ، بدعوى ان الرجوع إلى أصالة الظهور انما هو في الشبهات التي كان رفعها وازالتها من شأن المتكلم دون غيرها مما ليس من شأن المتكلم ازالتها ، وبذلك ينحصر حجية الظهور في موارد الشبهات الحكمية ، لأنها هي التي كان إزالة الشبهة فيها من وظائف المتكلم ، ولا تعم الشبهات المصداقية ، نظرا إلى عدم كون مثل هذه الشكوك مما ازالتها من شأن المتكلم حتى يصح الرجوع إلى الظهور في رفع الشبهة فيها ، فمدفوع بأنه وان كان الامر كك بالنسبة إلى كل شبهة شخصية على التفصيل ، ولكنه لا مانع من جعل امارة كلية لتميز الموارد وتشخيص حكم الصغريات ، فان ذلك أيضا من شأن الشارع ووظائفه ، كما في موارد اليد والبينة والسوق وغيرها.
    وبالجملة نقول بان ما أفيد من عدم كون إزالة الشبهة في الصغريات


(523)

من شأن الشارع ووظائفه ، ان أريد ذلك بالنسبة إلى كل شبهة شخصية بنحو التفصيل فهو مسلم ، ولكنه لا ينتج المطلوب من سقوط أصالة الظهور عن الحجية في الشبهات المصداقية ، من جهة عدم كون أصالة الظهور من هذا القبيل ، وانما هي من قبيل جعل امارة كلية لتشخيص الصغريات وان أريد به خروج الشبهات الموضوعية كلية على الاطلاق عن موارد التمسك بالظهور ، بدعوى عدم كون إزالة الاشتباه فيها من شأن الشارع ووظائفه على الاطلاق ، ولو بنصب امارة كلية عليها للمكلف لكي يرجع إليها عند جهله وتحيره فهو ممنوع جدا بشهادة جعل البينة واليد والسوق ونحوها حجة عند اشتباه الموارد في الموضوعات ، وعليه نقول : بان من الامارات الكلية أيضا لتميز الوارد وتشخيص حكم الصغريات عند الجهل والاشتباه أصالة العموم ، فمتى تحتمل مطابقتها للواقع ولو من جهة الشبهة في المصداق ، ولم تقم حجة أقوى على خلافها يجب التعبد بظهوره والغاء احتمال الخلاف ، هذا.
    ولكن مع ذلك فالتحقيق في المقام هو عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، إذ نقول : بان ما ذكر من التقريب المزبور للجواز مبنى على أن يكون مدار الحجية في الظهورات على الدلالة التصورية المحضة التي هي عبارة عن مجرد تبادر المعنى وانسباقه إلى الذهن من اللفظ عند سماعه الناشي من جهة العلم بالوضع المجامعة مع القطع بعدم كون المتكلم في مقام الإفادة والجد بالمراد أيضا ، كما في الألفاظ الصادرة عن الساهي والنائم ، حيث إنه مع القطع بعدم كون الألفاظ في مقام الإفادة والجد بالمراد يتبادر المعنى وينسبق إلى الذهن بمجرد سماع اللفظ ، فعلى هذا المسلك يتجه التقريب المزبور للجواز من جهة تحقق موضوع الحجية وهو الظهور التصوري مع احتمال المطابقة للواقع ، والا فعلى ما هو التحقيق من كون مدارا الحجية في أصالة الظهور على الدلالة التصديقية والكشف النوعي عن المراد فلايكون مجال لدعوى حجية أصالة العموم والظهور الا في موارد الشبهات الحكمية الناشئة من جهة احتمال مخالفة الظهور للواقع من جهة الشك في أصل التخصيص واصل القرينية ، والوجه فيه واضح بعد معلومية تبعية حصول التصديق بالمراد من اللفظ قطعا أو ظنا لاحراز كون المتكلم بكلامه في مقام الإفادة ومقام الجد بالمرام المتوقف ذلك على التفاته بجهات مرامه وخصوصياته ، إذ حينئذ يختص حصول التصديق النوعي بالمراد من اللفظ بما إذا كان هناك غلبة نوعية على التفات المتكلم


(524)

بجهات مرامه وخصوصياته ، فيختص ذلك حينئذ بخصوص ما كان الشك في مخالفة الظهور للواقع من جهة الشبهة في الحكم الراجعة إلى الشك في التوسعة وتضييق دائرة مراد المتكلم. واما فيما عدا ذلك من موارد كون الشك في المخالفة من جهة الشك في مصداق المخصص فحيثما لايكون هناك غلبة نوعية فيها على التفات المتكلم ، بل ربما كان الامر بالعكس من حيث كون الغالب هو غفلة المتكلم وجهله بالحال ، بشهادة ما نرى من وقوع التردد والاشتباه كثيرا للمتكلم في تطبيق مرامه على الصغريات ، فلايكاد حصول التصديق النوعي بالمراد حتى يكون مشمولا لدليل التعبد ، فتكون نتيجته جواز الرجوع إلى العام في الشبهات المصداقية للمخصص ، بل ولو قلنا بان مدار الحجية في الظهورات على الظهور الفعلي والدلالة التصديقية الفعلية كان الامر في عدم جواز التمسك بأصالة العموم عند الشك في مصداق المخصص أظهر ، من جهة وضوح انتفاء الدلالة والتصديق الفعلي بالمراد مع تلك الغلبة النوعية على غفلة المتكلم وعدم التفاته في مقام التطبيق على الصغريات ، وان كان أصل المبني مما يبعد الالتزام به ، من جهة ما يلزمه من عدم حجية الظهورات في موارد قيام الظن الفعلي الغير المعتبر على الخلاف ، وهو مما لايمكن الالتزام به.
    وحينئذ فلابد من تنقيح هذه الجهة بان حجية أصالة العموم ونحوها هل هي من باب الظهور التصوري المساوق لتبادر المعنى من اللفظ وانسباقه إلى الذهن المجامع ولو مع الجزم بعدم كون المتكلم في مقام الإفادة ومقام الجد بالمراد الواقعي ، أو انه من باب الظهور التصديقي المفيد للظن بالمراد ولو نوعا وان لم يفده فعلا لمانع خارجي ؟ وذلك بعد القطع بعدم كونه من جهة التعبد المحض ، بشهادة بنائهم على عدم حجية الظهورات مع الاتصال بما يصلح للقرينية ، بل ولا من باب الظن الفعلي بالمراد كما عليه بعضهم ، بشهادة ما عرفت من بنائهم على عدم اضرار قيام الظن الغير المعتبر على الخلاف.
    فعلى الأول من كون مدار الحجية على الظهور التصوري المساوق لانسباق المعنى إلى الذهن ، فلا محيص كما عرفت من القول بجواز التمسك بالعام فيما شك كونه من افراد المخصص ومصاديقه ، نظرا إلى وجود المقتضي حينئذ للحجية وعدم المانع عنها ، حيث إنه بعد انطباق عنوان العام على المورد وعدم قيام حجة على الخلاف ، نظرا إلى فرض عدم حجية الخاص بالنسبة إليه بلحاظ الشك في انطباق عنوانه عليه ، فلا جرم


(525)

يشمله دليل التعبد بالظهور الآمر بالغاء احتمال الخلاف ، من غير فرق في ذلك بين كون المخصص لفظيا أو لبيا.
    واما على الثاني : فلازمه كما عرفت هو المصير إلى عدم الجواز من جهة ما عرفت من اختصاص هذا المعنى أي إفادة الظهور للتصديق النوعي بالمراد بما إذا كان هناك غلبة نوعية على التفات المتكلم وعدم غفلته عن جهات مرامه الملازم ذلك للاختصاص بما إذا كان الشك في مخالفة الظهور للواقع من جهة الشبهة الحكمية الراجع إلى الشك في التوسعة والتضييق في دائرة المراد الواقعي في كبرى الحكم ، دون ما لو كان الشك في المخالفة والمطابقة من جهة الشبهة الموضوعية الراجعة إلى الشك في تطبيق الكبرى وما هو المراد الواقعي على المصاديق والصغريات ، وذلك من جهة انتفاء تلك الغلبة النوعية في هذا المقام ، لوضوح انه لا غلبة نوعية على التفات المتكلم بتطبيق مرامه على المصاديق والصغريات لولا دعوى كون الغلبة بالعكس ، على ما نرى ونشاهد بالوجدان من غفلة المتكلم وجهله وتردده كثيرا في تطبيق ما هو المرام على المصاديق والصغريات ، إذ حينئذ لايكون مجال لدعوى جواز الاخذ بأصالة العموم فيما شك كونه من افراد المخصص ومصاديقه ، حيث إنه لايكون اللفظ ظهور تصديقي ودلالة تصديقية ولو نوعية بالنسبة إلى الصغريات ومقام التطبيق على المصاديق ، حتى يشمله دليل التعبد من هذه الجهة ، ففي الحقيقة عدم حجية أصالة العموم فيما شك كونه من افراد المخصص كان من جهة عدم المقتضي للتعبد ، وهو الظهور التصديقي ، لا من جهة وجود المانع ، حتى يدفع بان دليل المخصص لما كان تطبيقه على المورد مشكوكا لايكون له صلاحية للمانعية عن التمسك بالعموم ، ولئن شئت قلت بان عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية انما هو من جهة الشك في انطباق عنوان العام بما هو حجة على المورد ، حيث إنه بعد اقتضاء الدليل المخرج لقصر حكم العام في قوله : أكرم العلماء على ما عدا الفساق مثلا ، فقهرا عند الشك في كون المورد من مصاديق الفساق الخارج عن دائرة موضوع حكم العام يشك في انطباق ما هو المراد الواقعي على المورد ، وفي مثله لايبقى مجال لتوهم جواز الرجوع إلى العام في المشتبه كما هو واضح.
    وحيث إن التحقيق في المسألة كما حقق في محله هو الثاني من كون مدار الحجية في الظهورات على الدلالة التصديقية لا الدلالة التصورية المساوقة لانسباق المعنى إلى


(526)

الذهن ، فلا جرم كان الأقوى هو عدم جواز التمسك بالعام فيما شك في كونه من افراد المخصص ومصاديقه ، بل وكك الامر فيما لو شك في ذلك ولم يحرز من طريقة العقلاء ان مدار الحجية على الظهور التصوري أو الظهور التصديقي ، حيث إنه بعد ما لم يكن في البين اطلاق لفظي ، نظرا إلى كون الدليل عليه هو السيرة وبناء العقلاء ، فلابد من الاخذ بما هو الأخص وهو الدلالة التصديقية المعبر عنها بالظهور النوعي ، من جهة كونه هو القدر المتيقن من بناء العقلاء على الاخذ بالظهورات.
    ومقتضاه كما عرفت هو لزوم المصير إلى عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، من غير فرق في ذلك بين كون المخصص لفظيا أم لبيا ، لان مناط عدم الجواز انما هو انتفاء الدلالة التصديقية ، وعليه لا يفرق بين كون الخاص لفظيا أم لبيا ، كما أنه على المسلك الأول في حجية أصالة الظهور أيضا لا يفرق بين لفظية المخصص ولبيته ، من جهة ما عرفت من جواز التمسك بالعام على هذا المسلك ولو مع كون المخصص لفظيا. وحينئذ فالتفصيل بين فرض كون المخصص لفظيا وبين كونه لبيا كما عن بعض ساقط على كل حال. بل اللازم على المسلك الأول في حجية أصالة الظهور هو المصير إلى الجواز مطلقا حتى في المخصص اللفظي ، كما أن اللازم على المسلك الثاني هو المصير إلى عدم الجواز كك حتى في المخصص اللبي.
    ثم انه مما ذكرنا ظهر أيضا عدم صحة التشبث بقاعدة المقتضي والمانع لاثبات حكم العام في المشكوك ، بتقريب ان العام المنفصل عنه المخصص من جهة ظهوره واستقرار دلالته النوعية على المراد كان فيه اقتضاء الحجية وان الخاص المنفصل انما كان يزاحم حجيته في مقدار دلالته لا أصل ظهوره وحينئذ فعند الشك في فرد في كونه من مصاديق الخاص وعدمه يؤل إلى الشك في جود المزاحم وعدمه مع القطع بوجود المقتضي للحجية ، وهو الظهور ، وفي مثله لابد بحكم العقل من الجري على طبق المقتضي إلى أن يظهر الخلاف ، كما كان هو الشأن أيضا في كل واجب احتمل مزاحمته مع أهم منه كالصلاة والإزالة مثلا ، فكما انه هناك لا يعتنى باحتمال وجود المزاحم بل يجري على طبق المهم ويحكم بوجوب الاتيان به كك في المقام أيضا ، ففي المقام أيضا كان المقتضي للحجية وهو الظهور والدلالة النوعية متحققا وانما الشك في وجود المزاحم بالنسبة إلى المشكوك ، فلابد من الجري على طبق المقتضي والحكم على المشكوك بحكم


(527)

العام إلى أن ينكشف الخلاف ، حيث لا فرق بين المقامين ، غير أن المزاحمة هناك كانت في الحكم الفرعي وفى المقام في الحكم الأصولي وفي مرحلة الحجية.
    وجه الفساد يظهر مما عرفت من المسلكين في وجه حجية أصالة الظهور ، إذ نقول : بأنه على المسلك الأول من كفاية مجرد الظهور التصوري في التعبد والحجية فان المقتضي للحجية وهو الظهور وان كان متحققا ، ولكنه بعد عدم حجية الخاص في المشكوك من جهة الشك في انطباق عنوانه عليه يقطع بعدم المزاحم له ، ومع القطع بعدم المزاحم لايكاد ينتهى النوبة إلى القاعدة المزبورة بوجه أصلا ، كما لايخفى. واما على المسلك الثاني من عدم كفاية مجرد الظهور التصوري في التعبد والحجية واحتياجها إلى الظهور التصديقي ولو نوعا فلاتحقق للمقتضي حينئذ حتى ينتهى الامر إلى القاعدة ، من جهة ما عرفت من أنه لايكون حينئذ للعام ظهور ودلالة تصديقية بالنسبة إلى مقام التطبيق على المصاديق والصغريات حتى يشملها دليل التعبد والحجية ، فعلى كل من المسلكين لا مجال للقاعدة المزبورة بوجه أصلا ، كما لايخفى.

تنبيه

    لايخفى عليك ان المرجع بعد سقوط العام عن الحجية فيما شك كونه من مصاديق الخاص لفظيا أو لبيا انما هو الأصول العملية وحينئذ لو كان هناك أصل حكمي من استصحاب وجوب أو حرمة ونحوه فلا اشكال ، واما الأصل الموضوعي فيبتنى جريانه على ما تقدم من المسلكين في التخصيصات من أن قضية التخصيص هل هي كالتقييد في اقتضائه لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في الافراد الباقية بعد التخصيص الموجب لتقيد موضوع الحكم في نحو قوله : أكرم كل عالم ، بالعالم العادل أو العالم الغير الفاسق ، أم لا ؟ بل وان قضيته مجرد اخراج بعض الافراد أو الأصناف عن تحت حكم العام الموجب لقصر حكم العام ببقية الافراد أو الأصناف من دون اقتضائه لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في موضوع حكم العام في الافراد أو الأصناف الباقية ، وان فرض ملازمة تلك الافراد الباقية بعد خروج الفساق مثلا من باب الاتفاق مع العدالة أو عدم الفسق.
    فعلى المسلك الأول لا بأس بجريان الأصل الموضوعي في المشتبه حيث يجرز به كونه من افراد العام ، فيحكم عليه بحكمه بعد احراز جزئه الآخر وهو العالمية بالوجدان ، نظير


(528)

سائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعضها بالأصل وبعضها بالوجدان ، ففي المقام أيضا إذا جرى استصحاب العدالة أو عدم الفسق في الفرد المشكوك فبانضمام الاحراز الوجداني للجزء الآخر وهو العالمية يحرز ما هو موضوع حكم العام وهو العالم العادل أو العالم الذي لم يكن فاسقا فيحكم عليه بحكمه.
    واما على المسلك الثاني الذي هو المختار فلا مجال لجريان الأصل الموضوعي المزبور من جهة عدم ترتب اثر شرعي عليه حينئذ فإنه على هذا المسلك لايكون لمثل هذه العناوين دخل في موضوع الحكم والأثر ولو على نحو القيدية حتى يجري فيها استصحابها ، بل وانما موضوع الأثر حينئذ عبارة عن ذوات تلك الافراد الباقية بخصوصياتها الذاتية من دون طرو لون عليها من قبل دليل المخصص ، غاية الامر هو اقتضاء خروج افراد الفساق مثلا لملازمة الافراد الباقية بعد التخصيص عقلا مع العدالة أو عدم الفسق ، ومن المعلوم في مثله حينئذ عدم اجداء قضية استصحاب العدالة أو عدم الفسق للمشكوك لاثبات كونه من الافراد الباقية الملازمة مع عدم الفسق ، الا على القول بالمثبت ، وحينئذ فعلى هذا المسلك لابد من الرجوع في المشكوك إلى الأصول الحكمية الجارية فيه من استصحاب وجوب أو حرمة أو غيرهما ، والا فلا مجال للتشبث بالأصول الموضوعية لاندراج المشكوك فيه من موضوع العام والحكم عليه بحكمه نعم لو كان مفاد الدليل الخاص نقيضا لحكم العام كما لو كان مفاد العام وجوب اكرام العلماء وكان مفاد الخاص عدم وجوب اكرام الفساق من العلماء ففي مثله أمكن اثبات وجوب الاكرام الذي هو حكم العام بمقتضي استصحاب عدم الفسق ، من جهة انه باستصحابه يترتب عليه نقيض اللا وجوب الذي هو عبارة عن وجوب الاكرام. وهذا بخلافه في فرض كون مفاد الخاص عبارة عن حرمة الاكرام التي هي ضد لحكم العام ، حيث إنه في مثله لايكاد يمكن اثبات وجوب الاكرام باستصحاب العدالة أو عدم الفسق لان غاية ما يقتضيه الأصل المزبور حينئذ انما هو عدم حرمة اكرام الفرد المشكوك لا وجوب اكرامه الا على النحو المثبت كما هو واضح.
    بقى الكلام في جواز التمسك بعموم العام لاخراج ما شك في كونه من مصاديق العام عن تحت العام مع القطع بخروجه عن حكمه وعدم جوازه واختصاصه بما لو كان الشك في خروج فرد عن حكم العام بعد القطع بفرديته له ، حيث إن فيه خلافا بين الاعلام ،


(529)

ولكن التحقيق هو عدم الجواز ، نظرا إلى أنه لايكون لنا دليل لفظي على الحجية حتى يصح الاخذ باطلاقه في مثل المقام ، حيث إن العمدة في الباب انما هي السيرة وبناء العقلاء ، وبعد عدم العلم باستقرار بنائهم على حجية أصالة العموم في مثل المقام لابد من الاقتصار على ما هو المتيقن منها ، وهو لايكون الا في موارد الشك في خروج ما هو من افراد العام ومصاديقه قطعا عن حكم العام ، ومن العجب ان صاحب الكفاية ( قدس سره ) مع اشكاله في المقام (1) ومنعه عن جواز التمسك بالعام فيما شك في كونه من افراد العام بمنع قيام السيرة على التمسك بأصالة العموم مطلقا تمسك به في مسألة الصحيح والأعم (2) حيث استدل لاثبات الوضع لخصوص الصحيح بعموم الدلالة المثبتة للآثار من نحو قوله عليه السلام : الصلاة معراج المؤمن ، وانها قربان كل تقي ، وانها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، بتقريب دلالتها بعكس النقيض على أن كل ما لايكون معراج المؤمن وناهيا عن الفحشاء والمنكر فليس بصلاة ، فراجع. وعلى كل حال فالتحقيق في المسألة كما عرفت هو ما افاده ( قدس سره ) في المقام من عدم الحجية الا في موارد الشك في الخروج عن العام حكما مع اليقين بدخوله فيه موضوعا.

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net