متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
نتائج عدم الرفق بالنفس
الكتاب : الرفق في المنظور الإسلامي    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

     نتائج عدم الرفق بالنفس:
     إنَّ قصة البقرة في القرآن قصة طريفة تحكي سهولة التشريع الاِلهي ، وتشديد الاِنسان على نفسه فيما يضعه من قيود وضوابط لم يكن ملزم بها من قبل ربه ، فبنو إسرائيل بعد أن ضيّقوا على أنفسهم ضيّق الله عليهم ، أولم يطلب منهم إلاّ ذبح بقرة نكرة. غير معرّفة بوصف معين كما هو منطوق الآية الشريفة ( وإذ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ إنَّ اللهَ يأمُرُكُم أن تَذبَحُوا بَقَرَةً ) (1) فهو سبحانه لم يعرّفها بالالف واللام ليسهل عليهم التكليف وليتحقق مراده بذبح أي بقرة أرادوا ذبحها ، وتحل مشكلتهم تلك بمعرفة الجاني الذي قتل أحد مشايخهم الاثرياء بضربه ببعضها ليحيا ويشخّص لهم القاتل وينتهي الخلاف المتأزم بينهم.
     إلاّ أنهم مارسوا اللجاجة وماطلوا كثيراً في أداء التكليف ، متّهمين موسى عليه السلام بالهزو فيهم ، إذ قالوا : ( أتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أعُوذُ بِاللهِ أن أكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) (2) ؛ لاَن الهزو يناسب الجُهّال وهو كليم الله ( قَالُوا ادعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَنَا مَا هِيَ ) (3) ظناً منهم أنها ذات خصوصية فريدة في أوصافها قال : ( إنّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ لا فَارضٌ وَلا بِكرٌ ) (4) أي ليست مسنة ولا صغيرة وإنّما هي ( عَوَانٌ بَينَ ذَلِكَ ) أي متوسطة ( فَافعَلُوا مَا تُؤمَرُونَ ) (5) في ذبح هكذا بقرة ولا تماطلوا ( قَالُوا ادعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَنَا مَا لَونُهَا ) متكلفين


1 ـ البقرة 2 : 67.
2 ـ البقرة 2 : 67.
3 ـ البقرة 2 : 68.
4 ـ البقرة 2 : 68.
5 ـ البقرة 2 : 68.


(60)

البحث فيما ليس مطلوباً منهم ومشددين على أنفسهم بما لم يشدد به عليهم ( قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّها بَقَرَةٌ صَفرَاءُ فَاقِعٌ لَونُهَا تَسُرُّ النَاظِرِينَ ) (1) غير أنّهم لم يقفوا عند هذا الحد من اللجاجة والمماطلة فيذبحوا بقرة صفراء متوسطة العمر ، وما أكثر البقر الذي يتمتع بهذه المواصفات ، فلم يريحوا أنفسهم ولا نبيهم من عناء البحث والتدقيق بل نراهم اندفعوا في أسئلتهم التي تعقّد عليهم الاَمر ( قَالُوا ادعُ لَنَا رَبَّك يُبَيّن لَنَا مَا هِيَ إنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَينَا ) ؟!! ( وإنَّا إن شَاءَ اللهُ لَـمُهتَدُونَ ) (2) يالهم من حمقى لا يرفقون بأنفسهم ولا يتأدبون مع نبيهم ، إذ لم يسكتوا عما سكت عنه ، ويالهم من متكبرين في نفوسهم والفاظهم إذ لم يقولوا ادعُ لنا ربنا وإنّما قالوا ادعُ لنا ربك ؟!!
     ومثل هذا الطرح يدلل على ضعف الاِيمان وغلظة الجَنان ، ولعل المقصود من قولهم ( وإنّا إن شَآءَ اللهُ لَـمُهتَدُونَ ) يعني إلى التصديق العملي بأوامرك وتنفيذها ، قال : ( إنّه يَقُولُ إنّها بَقَرَةٌ لا ذَلولٌ ) بين يدي مالكها ، طبعها النفور وعدم الانصياع ، صعباء لا تنقاد. فهي متمردة على العمل لا ( تُثِيرُ الاَرضَ ) (3) أي لا تستخدم في حراثة الاَرض كغيرها من البقر الذلول الذي ذُلّل بين يدي صاحبه ( وَلا تَسقِي الحَرثَ ) إذ هي ترفض العمل كغيرها في إدارة الناعور ( مُسَلَّمَةٌ ) من العيوب الجسدية ( لا شِيَةَ فِيهَا ) لونها أصفر بالكامل حتى قرنها وظلفها. وهكذا شدّد الله عليهم بتشديدهم على أنفسهم ( قَالُوا الآنَ جِئتَ بِالحَقِّ ) أي بالوصف


1 ـ البقرة 2 : 69.
2 ـ البقرة 2 : 70.
3 ـ البقرة 2 : 71.


(61)

الشامل الكامل ( فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفعَلُونَ ) (1) للجاجتهم وقد أتعبتهم هذه المواصفات وأبهضهم ثمنها ، إذ لم تكن هناك إلاّ بقرة واحدة تتمتع بهذه الاَوصاف النادرة ، ولم يعثروا عليها إلاّ بشق الاَنفس ، فلو رفقوا بأنفسهم لرفق الله بهم ، ولكنّهم ضيقوا على أنفسهم فضيق الله عليهم.
     روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّه قال : « لولا أنّ بني إسرائيل قالوا : ( وإنّا إن شَاءَ اللهُ لَـمُهتَدُونَ ) ما اُعطوا أبداً ، ولو أنّهم اعترضوا بقرةً من البقر فذبحوها لاَجزأت عنهم ، ولكنّهم شدّدوا فشدّد الله عليهم » (2).
     وعن الاِمام علي عليه السلام : « لكلِّ دين خلق وخلق الاِيمان الرفق » (3).
     فالرفق إذن خلق الاِيمان وهذا يعني إنّك لا تجد مؤمناً حقاً إلاّ وتجده رفيقاً وسهلاً ليّناً عطوفاً رؤوفاً ، ولا تجد متمتعاً بهذه الخصال إلاّ ووجدته سهل الانقياد إلى الاِيمان.
     اللّهم أعنا على أن نرفق بأنفسنا وبمن حولنا ولا تحرمنا رفقك ولطفك يا أرحم الراحمين.


1 ـ البقرة 2 : 71.
2 ـ الميزان في تفسير القرآن 1 : 104. والكشاف ، للزمخشري 1 : 151. وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير 1 : 115.
3 ـ غرر الحكم : 542 | 32 ، ط دار الكتاب الاسلامي.


(62)
 

 
(63)
 
الخاتمة

     إنَّ نظرية الاِسلام في الاَخلاق الاجتماعية تقوم على الرفق واللطف والتسامح والتجاوز ، من غير ضعف ولا مداهنة بل من أجل الهداية للرشد والتكامل.
     إنّ القرآن المجيد يعتبر التخلّق باللين ومجانبة الفظاظة والغلظة من أهم عوامل استقطاب الناس في درب الحق ، ويدعو إلى العفو عن المسيء والاستغفار للمذنب ومشاورتهم في الامور العامة ، والعزيمةُ بعد ذلك من حصة القيادة الشرعية.
     إنّ القرآن يأمر بخفض الجناح للمؤمنين رفقاً بهم وتواضعاً لهم وإعزازاً لشخصيتهم.
     إنّ القرآن يصف عباد الله المتواضعين بقوله : ( وعبادُ الرحمن الذينَ يَمْشُونَ على الاَرضِ هَوْناً ) أي من غير استعلاء ( وإذَا خَاطَبهُمُ الجاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) (1) أي لا يمارون بل يرفقون بالآخرين ولا يحمّلوهم فوق مايطيقون.
     ويعتبر المتواضعين في سيرهم الرسالي هم الرحمانيون ما داموا متخلقين بالرحمة.


1 ـ الفرقان 25 : 63.


(64)

     إنّ القرآن يرى الهجر الجميل هو النموذج الرسالي الواعي في عملية التبليغ ، ويرفض ترك الآثار السلبية في نفوس المعاندين مادام هناك أمل للعودة للتبليغ في وسطهم.
     إنّ القرآن يلزم أتباعه بأن يدفعوا السيئة بالحسنة وبالطريقة الحسنى ويريد منهم أن يتعاملوا مع الآخرين تعامل الولي الحميم رفقاً بهم من أجل خيرهم وصلاحهم.
     إنّ القرآن يعتبر المتخلقين بذلك هم من اُولي الحظ العظيم في السجايا الفاضلة. ومن أهل الكرامة والنعيم الاَبدي.
     إنّ أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأكد على الرفق وتنعته بأفضل النعوت ، فهو اليمن والبركة والجمال في الجوهر والمظهر ، وهو الخير والكرم ونصف المعيشة ووزير الحلم.
     إنّ الاحاديث الشريفة تؤكد أنّ الله رفيق ويحب الرفق في الاَمر كله ، وأنّ الله سبحانه يعين على الرفق.
     إنّ الاِسلام يأمر بالرفق بالحيوان ويحاسب على ذلك دنيا وآخرة.
     إنّ أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعترة الطاهرة المطهرة عليهم السلام تقول : إرفق بالآخرين يُرفق بك.
     إنّ الرفق رأس الحكمة.
     إنَّ من لا يستحق الرفق يكون الرفق معه خرقاً.
     إنَّ من لم يصلحه الرفق تصلحه الشدة.


(65)

     إنَّ من الرفق الرفق بالنفس ، وعدم تحميلها ما لا تطيق تحت شعار العبادة.
     إنَّ من يضيّق على نفسه يضيّق الله عليه.
     على العقل أن يمكر ويخطط لمواجهة مكر النفس وخداعها.
     نهي الجهّال عن التعمّق في الدين من غير وعي.
     إنَّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق.
     إنَّ الرفيق من أعانك على صلاح دينك.
     إنَّ الاِيمان يفضي إلى الرفق وإنَّ الرفق يفضي إلى الاِيمان.

 
والحمدُ لله ربِّ العالمين

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net