متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ثالثاً : العمل الإنساني وأقسام الحُكم التلكيفيّ
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

ثالثاً : العمل الإنسانيّ وأقسام الحُكم التكليفي

العمل : هو الجُهد البشريّ المنظّم بمجموعة من الوسائل ، بمستوى معيّن من التقنيّة والتكنولوجيا ، المُستهدف تحويل الموارد المُتاحة ( السلع الحرّة ) إلى سلع اقتصاديّة ، بأن يضيف إليها قيمة أي كمّية عمل معيّنة .

ونسْب العمل إلى الإنسان ؛ باعتباره ينتج من عمليّات عقليّة مستعيناً بالتقنيّة ، ولكونه جهداً هادفاً إلى غاية اقتصادية .

ما حكم العمل في الشريعة الإسلاميّة ؟ وهل يمكن الاستدلال بالقرآن الكريم ، وبخاصّةٍ الآيات الدالّة على العمل ، إشارةً إلى العمل الدنيويّ ، أو نتوقّف فيه على ما توقّف عليه أغلب المفسّرين مِن أنّ المُراد القرآني ، وفقاً للظهور ، وهو حجّة عند الأصوليّين على العمل العبادي بالمعنى الأخص بمصاديق ظاهرة ، كإقامة الصلاة والصوم والحجّ ... إلخ ؟ أو نقطع بالقول : إنّه كلّ جهد اقترن بالباعث الذي يتّجه نحو تحصيل مرضاة الله تعالى ؟ أي لا يعدّ العمل جهداً شرعيّاً يدخل ضمن موضوع الحُكم التكليفي ، إلاّ إذا اقترن بالنيّة .

قبل الإجابة عن هذه التساؤلات ، لا بدّ من التفريق بين مقولة العمل في الفكر الوضعيّ وبين مقولته في الفكر الإسلامـيّ .

فهو في الوضعيّ : ( الجُهد البدني أو العقليّ الذي ينزل في مجالات النشاط الاقتصاديّ لغرض الكسب ) (40) .

أمّا في الفكر الإسلامي : فهناك ـ إضافة لما تقدّم ـ قيد يلحق هذا المفهوم ، وهو الجهد المبرّر شرعاً ، أي المُنسجم مع أحكام الشريعة .

يرى ابن كثير أنّ الحلال مِن الكسب هو عون على العمل الصالح (41) ، بما يشير إلى أنّ الشريعة ترى العمل مقدّمة للكسب الحلال (42) .


الصفحة 33

إنّ العمل الذي يعترف به القرآن هو العمل الصالح ، وهو الجُهد الاقتصاديّ الذي يبذل في إنتاج السِلع والخدمات المسموح بها شرعاً ، ولإشباع الحاجات المعتبرة والمُعترف بها مِن قِبَل الشرع كذلك (43) .

وقد أشارت السنّة إلى ذلك بعدد من الأحاديث نذكر منها :

قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( إنّ مِن الذنوب ما لا تكفّرها الصلاة ولا الصيام ولا الحجّ ولا العمرة ) ، قالوا : فما يكفّرها يا رسول الله ؟ قال : ( الهموم في طلب المعيشة ) .

وقوله : ( مَن أمسى كالاًّ مِن عمل يده أمسى مغفوراً له ) ( 44 ) .

إنّ هذا الحثّ ـ كما يراه الأُصوليّون ـ لا يخرج عن الإباحة أو الاستحباب ، وكذلك لا يخرج الحثّ عليه في آيات سورة الجمعة ( 45 ) عن الإباحة والرُخصة والإذن ، وهذا هو الأمر المستعمل فيه ( 46 ) .

والأمر منوط هنا بأنّ بعض المسلمين توهّم ، في بدء الرسالة ، بأنّ العمل أيّام الحجّ محظور ، فأزال الله هذا الوهْم بالإباحة التي لا تتنافى مع الإخلاص في أعمال الحجّ ، فإذا انتقلنا إلى تعريف الحُكم التكليفي : ( الاعتبار الشرعيّ المتعلّق بأفعال العباد تعلّقاً مُباشر ) ( 47 ) ، سيظهر أنّ لموضوع العمل نظريّتين هما : الكلّية والفرديّة . وقد أجمع جمهور الأُصوليّين من المسلمين ـ ما عدا أُصوليي الحنفيّة ـ على تقسيم الحُكم التكليفي إلى : الوجوب ، الندب ، الإباحة ، الكراهية ، الحُرمة .

فيُراد بالوجوب : الإلزام بالفعل ، مع عدم الترخيص بالترك إلاّ لضرورة مُعتبرة شرعاً ، وينطبق على هذا ما كانت الأُمّة بحاجة إليه حاجّة ماسّة .

 ويراد بالندب : ما دعا الشارع إلى فعله ، ولم يُلزم به ، فهو المستحب مِن الأعمال ، كالأعمال التي تتوقّف عليها حاجات الأُمّة التحسينيّة .

 أمّا الإباحة : فإنّها تشمل الأعمال التي تكمل وتزيد نمط الحياة جمالاً وسعةً ، والحاجات الكماليّة المبرّرة الخالية من الإسراف والتبذير .

 ويدخل في الكراهة ما كان طريقاً إلى محرّم ، أو كانت مفاسده أكثر من


الصفحة 34

محاسنه مِن الجانب العملي .

 إنّ الذي عليه المسلمون يتمثّل في أنّ الأوامر والنواهي وليدتا المصالح والمفاسد ، وحيث أنّ النهي عن الشيء لا يستلزم الأمر بحرمة تركه على الفرد من حيث هو فرد ، ولمّا كانت الذمّة الفرديّة مشغولة بتحقّق النتائج ، فإنّ الأسباب لا تعدّ من الأحكام التكليفيّة لإمكان اندراجها ضمن الحكم الوضعيّ ، كالشرط والسبب . ولقد أنكر صاحب ( الكفاية ) كون الشرط أو السبب قابلاً للجعل الشرعيّ ؛ لأنّه مجعولٌ بالتكوين ، وهذا ما تُشير إليه فلسفة الاستخلاف .

إذ ربّما يكون العمل اختياريّاً بالنسبة للإنسان ؛ ولذلك تبقى الترغيبات مُتوفّرة على تحسين الفاعليّة بخفض التكاليف ، والإتقان ، ويربط العمل بالنيّة ؛ لقول الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمُجاهد في سبيل الله ) ( 48 ) . فإنّ مفاصل السياسة الاقتصاديّة التي تتوفّر غالباً على مجال الإباحة قد ترفع العمل إلى مصاف الوجوب أو إلى الكراهة ، ونادراً إلى الحرمة ، إضافةً إلى العناوين الأوّليّة في حرمة العمل المُنتج لسلعة مُحرّمة ( 49 ) .

وهذه هي النقلة الثانية لمُناقشة مقولة العمل على مستوى الاقتصاد الكلّي ( Macro ) ، ذلك أنّ العمل البشريّ هو التكليف الشرعيّ للإنسان بوصفه المقدّمة العقليّة لتحصيل  أسباب ديمومة العيش ، فلا يدخل من حيث كونه مفردة منحلة إلى الفرد ضمن الحكم التكليفي ، كإقامة الصلاة باعتبارها ليست مقدّمة ؛ إذ هي نتيجة العمل وترتّب نتائجه .

إنّ الذي حدّدته الشريعة هو : أنّ العمل الذي يرضى عنه الباري : هو الجُهد الذي يسهم في تحصيل المَنفعة الشاملة للمُستخلف ، باتّجاه عمارة الحياة والكون ، بوصف هذا التكليف عمليّة شرعيّة كلّية أمَر بها القرآن في غير موضع .


الصفحة 30

 

ــــــــــــــ

( 40 ) السعيد ( صادق مهدي ) ، اقتصاد وتشريع العمل ، بغداد ، مطبعة المعارف ، ط4 ، 1969م ، ص : 10 .

( 41 ) ابن كثير ( عماد الدين أبو الفداء إسماعيل ) ، تفسير القرآن ، دار الأندلس ـ بيروت ، ط1 ، 1385م : 5/22 .

( 42 ) على أنّنا هنا لا نحكم على المقدّمة حُكماً أُصوليّاً ؛ لأنّ في مقدّمات الوجوب والواجب ، خلافاً أُصوليّاً مُتشعّباً . لا يُريد الباحث استعراضه هُنا أو الحُكم باتّخاذ القاعدة طريقاً للاستنباط ؛ لأنّ ما تطرّق إليه الخلاف لا يصحّ به الاحتجاج القطعيّ . اُنظر : عليان ( رشدي ) ، العقل عند الشيعة ، مطبعة دار السلام ـ بغداد ، ط1 ، 1973 م ، ص : 440 .

( 43 ) اُنظر : سيله ( عبد الرحمان ) ، الأسعار في الفكر الاقتصاديّ ، رسالة ماجستير ، رونيو ، ص : 58 و59 .

( 44 ) اُنظر : الهيثمي ( نور الدين علي ) ، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : 4/64 .

( 45 ) اُنظر الآية 10 من السورة .

( 46 ) اُنظر : الطوسي ( أبو جعفر محمّد بن الحسن ) ، في تفسير التبيان ، تحقيق أحمد حبيب القصير ، الأعلمي ـ بيروت ، مجلّد 10 ، ص : 9 .

( 47 ) اُنظر : مباحث الحُكم عند الأُصوليين : 1/55 ، الإحكام في أُصول الأحكام ، للآمدي : 1/49 .

( 48 ) اُنظر الترمذي ، صحيح الترمذي ، ط1 ، 1934م، ص : 146 .

( 49 ) مكاسب الشيخ الأنصاري ، 1/15 .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net