متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
5 ـ مفهوم الحاجة
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

 

5 ـ مفهوم الحاجة

يمكن تعريف الحاجة بأنّها : الرغبة في مطلب أو مجموعة مطالب إنسانيّة مقابل الموارد الاقتصاديّة المتاحة ، بحيث يؤدّي تحقيقها والاستجابة إليها إلى إنماء تطوير الطاقات البشريّة المستخلفة في عمارة الأرض ، في ضوء نمط الاستهلاك الإسلاميّ ومحدّداته .

 وعرّفها بعضهم بأنّها : تعبير عن مطلب أو مجموعة مطالب للإنسان تّجاه الموارد الطبيعيّة له ، يؤدّي تحقيقها وتلبيتها إلى إنماء طاقاته اللازمة لعمارة الأرض ( 6 ) .

ونودّ الإشارة إلى أنّ تعريف الحاجة الأخير لا يعبّر عن أهمّ قضيّة يلزم الباحثين بسط القول فيها ، وهي محدوديّة الحاجة أو عدمها ، فقد مرّ أنّ الفكر الاقتصاديّ المعاصر منقسم في نمط التحديدات التي تضيّق ظهور الحاجة واعتبارها ، وهذا يعني أنّ كلا المدرستين يرى ذات الحاجة ( متحدّدة ) في الأقلّ ، ولكن الاختلاف فيما بينهما يظهر في صحّة التحديد القسري الإداري أو عدم صحّته .

لقد مرّ أنّ محدّدات الحاجة هي محدّدات فنّية ، ( فمتى ما تحرّك أحد المتغيّرات ، فإنّ امتداداً قد يكون لا نهائيّاً لتطوّر الحاجة الاقتصاديّة من حيث هي حاجة مجرّدة ، وهذا يعني أنّ متغيّرات تحديد الحاجة لا تحمل من خلال ذاتيّتها ، بل من خلال ما يعرض لها من عوارض حجم الدخل ، ومستوى النموّ ، ونمط التوزيع ) ( 7 ) .

أمّا في الفكر الإسلامي ، فإنّ الحاجة محدّدة تحديداً فنيّاً ، كما هي في الفكر المعاصر ، وتحديداً شرعيّاً تجسّده المذهبيّة الاقتصاديّة الإسلاميّة ، فبزوال المحدّدات الفنيّة ؛ أي مع تطوّر المستوى الاقتصاديّ وارتفاع وتائر الدخل الفرديّ ، وتكافؤ نمط التوزيع ، أي في حالة اكتمال عمليّات التنمية ، نكون في تنظيم وضعيّ أمام حاجات متّسعة ومتنوّعة ، ثمّ حاجات متجدّدة . أمّا في تنظيم اقتصادي إسلامي ، فإنّ المحدّدات الشرعيّة تبقى الثوابت المُنظّمة للحاجة الاقتصاديّة ، فعمارة الأرض سبب في زوال المحدّدات الفنّية ، فتتّسع الحاجات التي يقرّها الشارع .


الصفحة 52

أمّا ما يحرّمها ، فإنّها تبقى في نطاق الحظر ، حتى مع توفّر إمكانيّات إشباعها ، وقد تبقى حاجات لا يمنعها الشارع ولا يقف في قبالتها ( الكراهة ) ، وتأخذ بالزوال مع ازدياد مستوى التُقى والوَرع الإسلامي ، لكنّ هذا لا يُسوّغ لنا القول بمحدوديّة الحاجة في المفهوم الاقتصادي الإسلامي ؛ لسببٍ رئيس هو أنّنا طالما قرّرنا وفرة الموارد ، فإنّ القول بالحاجة المحدودة ينفي إطلاقاً ضرورة البحث عن حلّ للمشكلة الاقتصاديّة .

لكن القول الراجح إزاء مسألة كهذه هو : إنّ النظرية الاقتصاديّة الإسلاميّة لا تلغي تماماً التطوّر النوعي والكمّي للحاجة ، ولا تفتح الباب على مصراعيه لتمدّدها اللانهائي ، بل إنّ التحديدات الفنّية حرّة في أثرها على تحديد الحاجات ، بينما تعمل المحدّدات الشرعيّة ( الحرمة ، الكراهة ، الإباحة ) على تنظيم الحاجة ، وتأطير نوعيّتها ؛ لأنّ القيم العقائديّة حين تلغي كلاًّ من الخمر والميسر بوصفه سلعة تلبّي حاجات غير مُبرَّرة ، فلديها مفهومها الخاص عن سلع تلبّي حاجات ماديّة أو روحيّة أو ثقافيّة لا تراها الاقتصادات الوضعيّة حاجات أساساً ، ولا تخصّص لها إشباعاً ، ولكن السؤال الهامّ هو : ما هي العلّة التي يستند إليها المُشرّع في الفرز بين الحاجات ؟

للإجابة عن هذا السؤال تنبغي متابعة نمط العلّة في قوانين الاستخلاف المركزيّة ومكوّناته في القرآن والسنّة .

أ ـ قوانين الاستخلاف

إنّ الجمْع بين قانون الخلْق وملكيّة الله تعالى للكون ، وقانون الاستخلاف ، وقانون التسخير يؤدّي بنا إلى حقيقة لا مراء فيها ، وهي أنّ عمارة الأرض عمارة شاملة هي الهدف المركزي للنشاط الاقتصادي ، ولضمان المهمّة واستمراريّتهـا ، بوصفها سلسلة من الأهداف المرحليّة ، فإنّه يتطلّب طاقات بشريّة وموارد اقتصاديّة تُبذل باتّجاه تحقيق هذا الهدف الذي يكوّن حشداً من التكاليف الشرعيّة .


الصفحة 53

ولمّا كانت الطاقات والموارد بحاجة إلى تطوير مُستمرّ ، فإنّ مهمّة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك الأساسيّة تسير باتّجاه هدف الإنماء العام للطاقات ، بما يضمن إشباع الحاجات لارتباطها بالهدف المركزي ذاك .

ومن الارتباط بين الحاجة والهدف صار للحاجة دورٌ تستحقّ بمقابلة بقاء طبيعتها ووسائل إشباعها وتوسيعها وتحسينهـا ؛ لقوله : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات : 56] ؛ لذلك فإنّ هدف الخَلق هو العبادة . والعمارة في الفكر الاقتصاديّ تكليف شرعيّ ، فهي عبادة ؛ لأنّها تؤدّى كما تؤدّى الفروض ، إلاّ أنّ لها صفة إجماليّة تنحلّ إلى أحكام تكليفيّة فتُحفّز بشكل أو بآخر كلّ مسلم .

وهدف التسخير تُهيّئهُ الموارد باتّجاه استخدامها لغرض العمارة ، والغرض من الاستخلاف إقامة العدل وعمارة الأرض .

يروى عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ في تفسيره لقوله الله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة : 30] ، قال : ( عنى بالخليفة وُلد آدم بعضهم بعضاً ، وهُم خلفوا آباءهم في إقامة العدل وعمارة الأرض ) ( 8 ) .

ويرى البيضاوي أنّ المهام موكولة إلى نبيٍّ استخلفه الله في عمارة الأرض ( 9 ) ، فالعلّة بناءً على ما تقدّم : هي مقدار مساهمة الحاجة في تحقيق هدف الإنماء العام للطاقات ( 10 ) .

ب ـ القرآن الكريم

قال تعالى : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للّهِ ) [البقرة : 172] ، ( يَا أَيّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ) [المؤمنون : 51] ، ( هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) [هود : 61] .

تُشير هذه الآيات الكريمة إلى ربط عمليّة إشباع الحاجة بشكر الله وأداء الفروض ، ( وَاشْكُرُوا للّهِ ) ، ( وَاعْمَلُوا صَالِحاً ) ، كما تُشير أيضاً إلى أنّ


الصفحة 54

الغاية من الخلْق ( أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ ) هي الإنماء العام ، وعمارة الأرض ( وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) .

جـ ـ السُنّة النبويّة : أحاديث الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )

قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( شرّ الكسْب مَهر البغيّ ، وثَمَن الكلب ، وكسب الحجّام ) ( 11 ) .

( الدنيا خضرة حلوة ، مَن اكتسب فيها مالاً من حلّه وأنفقه في حقّه أثابه الله عليه وأورده الجنّة ، ومن اكتسب فيها مالاً من غير حلّه وأنفقه في غير حقّه أحلّه الله دار الهوان ) ( 12 ) .

( الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها إلاّ ما ابتغي به وجه الله عزّ وجلّ ) ( 13 ) .

وسئل ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن أطيب الكسب ، فقال : ( عمل الرجُل بيده ، وكلّ بيع مبرور ) ( 14 ) .

ودلالة النصوص واضحة على ارتباط التبادل والإنتاج والاستهلاك بغاية معيّنة عبّرت عنها السنّة تعبيرات مُختلفة تؤدّي جميعاً إلى علّة الإنماء العامّ للطاقات . وهكذا يتبيّن ، من خلال هذا الفهْم للنصوص الربط بين الحاجة والهدف الذي تبتغيه ، بحيث يصلح الوصف علّة تكمن وراء أيّ اعتبار شرعيّ بما يجعلهما ـ الحاجة ، العلّة ـ من جنس واحد ، ويُصيّر الحاجة حلقة ربط بين التنظيم الاقتصادي وعمارة الأرض ، بما يكشف عن أنّ لها دوراً هامّاً وطابعاً وظيفيّاً خطيـراً ، نستطلعه عند الحديث عن دورها في أوجه النشاط الاقتصادي من خلال استقرائه ، أو تبيّن آثاره في النظريّة الاقتصاديّة الإسلاميّة ( 15 ) .

 

ـــــــــــــــ

(6) عابد ( عبد العزيز ) ، مفهوم الحاجات وأثره على الإنماء الاقتصادي ، بحث منشور في مجموعة أبحاث المؤتمر الأوّل للاقتصاد الإسلامي ، جدّة ، ص : 85 ، نشرته مجلّة الاقتصاد الإسلامي ـ جدّة ، دار العِلم ، ط1 .

(7) كاظم ( عبد الأمير ) ، التنمية في الاقتصاد الإسلامي ، رسالة ماجستير ، ص : 6 .

(8) الطبرسي ( الفضل بن الحسن ) ، مجمع البيان ، منشورات شركة المعارف الإسلاميّة .

(9) البيضاوي ( عبد الله بن عمر ) ، تفسير البيضاوي ، مطبعة مصطفى محمّد : 1/81 .

(10) انظر : تعريف عبد العزيز عابد للحاجة ، المارّ ذكره .

(11) صحيح مُسلم ، كتاب المُساقاة ، الحديث رقم 40 .

(12) كنز العُمّال ، الحديث رقم 6076 ، الدرّ المنثور : 4/204 .

(13) مجمع الزوائد : 10/222 .

(14) مسند أحمد بن حنبل : 4/141 .

(15) عابد ( عبد العزيز ) ، (م . س) ، ص : 19 .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net