متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
المبحث الرابع : الجرائم في مجال التوزيع
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

المبحث الرابع : الجرائم في مجال التوزيع

جرائم الإضرار بالعُملة

ينطلق الفقهاء المسلمون عند ترتّب الأحكام في مجال المعاملات النقديّة مِن الفهْم السِلَعي للنقود ، حيث يقف هذا الفهم عند كون النقد سلعة قيمتها من ذاتيّتها ، فقيمتها النقديّة والشرائيّة تنبع من ذاتها ، وعند ذاك تدخل بوصفها سلعةً في أثر العرض والطلب عليها ، وبناءً عليه ، فهُم لا يرون العُملة الورقيّة نقداً أصيلاً ، إنّما نقداً اعتباريّاً ، إلاّ ما ظهر في مؤتمر الكويت عام ( 1987م ) من اعتراف مجموعة من علماءٍ مسلمين ، باعتبار قيمة العُملة الورقيّة قائمة على أساس نسبة مفترضة بين مقدار الاعتبار وقيَم الأصل في السلع الأُخرى .

إنّ الحال التي آلت إليها اقتصادات الشعوب باعتبار قيمة النقد حالياً قيمة قانونيّة لا ذاتيّة ، والنقد حالياً مخلوق للدولة ، فقيمته ليست مطلقة ، إنّما يحدّد مقدارها المنظّم لها من جهة كمّية الإصدار قبالة كمّية الإنتاج ، وهنا تفعل السياسة النقديّة فعلاً له أثر في تحديد القوّة الشرائيّة للعملة .

ونظراً لهذا التطوّر ، صارت كمّية الإصدار ، وسرعة التداول ، ومقدار الإنفاق العامّ متغيّرات هامّة على مستوى الأسعار المترتّب على فعاليّة الطلب ( 72 ) ،  مع ثبات العَرْض ، وما يترتّب على هذا من تغيّرات عديدة في مستوى التوظّف ، والتضخّم النقدي( 73 ) ، وتأثّر مداخيل الأفراد ، ونمط الوفاء بالالتزامات المؤجّلة ، كالديون والنفقات والمهور المؤجّلة وكُلَف المشاريع الطويلة الأجَل ؛ لذلك فإنّ المسلم ينبغي أن يعي أنّ أيّ إضرار في العملة سوف يمتدّ ليدخل في حسابات الناس جميعاً . والشريعة ـ وإن توقفّ الفقهاء عند أفكار المدرسة السلعيّة في النقد ـ لم تتوقّف ، بل احتاطت لذلك .


الصفحة 165

فنجد قول الله تعالى : ( فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ) [الأعراف : 85] ، وهو نصّ في حرمة الإضرار بالناس ( 74 ) عن طريق الإضرار بالعملة ؛ لأنّ الإضرار بالعملة طريق لبَخْس الناس أشياءهم .

ويرى صاحب ( الميزان ) أنّ الإفساد في الأرض ـ الذي انتهت به الآية ـ وإن كان بحسَب إطلاق معناه يشمل جميع المعاصي والذنوب ، ممّا يتعلّق بحقوق الله أو بحقوق الناس ، لكن مقابلته لِما قبْله وما بعده يخصّه بالإفساد الذي يسلب الأمن العامّ في الأموال والأعراض والنفوس ( 75 ) ؛ لأنّ أيّ عمل تتعلّق به حقوق الآخرين يلزم الشخص إبراء ذمّته من حقوقهم ، وإلاّ وقع في بخس الناس أشياءهم .

لذا حكَم الفقهاء المسلمون باختصاص وليّ الأمر في إصدار النقد ، ولم يرخّصوا ذلك للناس ـ على ما كانوا ـ من جهة اقتدارهم على الإصدار ، وبنَوا ذلك على رواية أحمد بن حنبل ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : ( لا يصلح ضرب الدراهم إلاّ في دار السلطان ) ، ثمّ عقّب ( عليه السلام ) بقوله : ( لأنّ الناس إن رُخِّص لهم ركبوا العظائـم ) ( 76 ) .

واستناداً إليه ذهب النووي إلى ( كراهة ضرب الدراهم من قِبل الرعيّة وإن كانت خالصة ؛ لأنّ ذلك من شأن الإمام ) ( 77 ) .

وما ذلك إلاّ لأجْل أن يتولّى المختصّون إصدار النقد بالكمّيات التي توازي العَرْض السِلَعي حتى لا تتأثّر قيمة العُملة . ولفظ الكراهة هنا أراد به الحظر ، ولم يقل الحظر لثبوت متعلّق حكم الكراهة بدليل ظنّي .

ومن تحوّطات المشرع أنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) نهى عن كَسر سكّة المسلمين الجائزة بينهم ( 78 ) ، فقد روي عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنّه نهى عن كسر سكّة المسلمين الجائزة بينهم إلاّ من بأس ( 79 ) . قال الشوكاني : ( معنى الجائزة : أي النافعة في معاملتهم ) ( 80 ) . ويُراد مِن كسر السكّة تقليل قيمتها عن المضروب الصحيح


الصفحة 166

قيمة .

ويرى الشوكاني أيضاً ( أنّ الحكمة من النهي ما في كسْر العملة من الضرر بإضاعة المال ؛ لِما يحصل به النقصان بالدراهم ونحوها إذا كُسرت وأبطلت المعاملة بها ) ( 81 ) ، ويزداد الحظر بأن ينقل أحمد بن حنبل عن الصادق ( عليه السلام ) أنّه سُئل عن كسْر الدراهم ، فقال : ( هو عندي من الفساد في الأرض ) ( 82 ) .

واستناداً إليه ذهب أحمد إلى كراهة كسْر الدراهم لحاجة أو لغير حاجة ( 83 ) ، ورخّص الشافعي الكسْر في حالة الحاجة الشديدة ( 84 ) ، إلاّ عن أبي حنيفة الذي لم يرَ كراهة كسر السكّة ( 85 ) ، لكن ابن قدامة نقل عنه أنّه قيّد الجواز بشرط عدم الإضرار بالإسلام وأهله ( 86 ) .

وبنقل النهي وموضوعه إلى وضعنا المعاصر نلحظ أنّ أيّ عمل يضرّ بمقدار قيمة النقد مؤاخَذ شرعاً ، ويُعَدّ مخالفةً تدخل ضمن ما يعاقب الله عليه آجِلاً ، ومن مصاديق الإفساد في الأرض عاجلاً ، الأمر الذي يوجب على وليّ الأمر التعزير عليه ؛ لتوفّر أركان الجريمة .

ولا وجه للرخصة في العملة الورقيّة ـ كما ورد عن الشافعي وأبي حنيفة ـ إذ هناك ـ كون النقد ذهباً أو فضّة ـ استعمالات بديلة ، فهنا الأمر مختلف ؛ وحيث يدور الحكم مدار المَناط ، فإنّ الترخيص سقط بتغيّر مادّة النقد .

ومن التحوّطات أنّ الفقهاء قد جعلوا من الفروض أن يضرب السلطان جيّداً ( 87 ) ؛ أي الحفاظ على الوزن المعيـاري ، والوزن ليس علّة بقدَر ما هو أمارة على القيمة النقديّة ، وهذا يُترجَم في عالَمنا المعاصر إلى ضرورة المحافظة على القيمة النسبيّة للوحدة النقديّة إزاء الأرقام القياسيّة للأسعار ، والتناسب مع الوحدات من النقد الأجنبي ، والفرض هنا النهي عن التسبّب بإنقاص قيمة النقد .

ويمكننا التقاط بعض المواقف للفقهاء في موضوع غشّ الدراهم ؛ لكي نرى مناط الإنقاص :

يرى الشيخ الأنصاري أنّ الدراهم المغشوشة يحرم تداولها بيعاً أو شراءً ( 88 ) .


الصفحة 167

يرى الغزالي أنّ ترويج الزيوف من الدراهم ظلم ؛ لما يعمّ به من ضرر ويتّسع الفساد ، ويكون وزر الكلّ ووَباله راجعاً عليه ( 89 ) .

ويرى ابن قيّم أنّه بالنقد يعرف تقويم المال ، فيجب أن يكون معروفاً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض ، وإلاّ فتفسد معاملات الناس ويقع الخُلف ويشتدّ الضرر ( 90 ) ويحصل الظلم .

ويرى صاحب ( الجواهر ) والعلاّمة أنّه إذا كانت الدراهم مجهولة الصرْف لم يجزْ إنفاقها إلاّ بعد إبانة حالها ، وكلّفت أنظمة المجتمع الإسلامي المحتسب بمراقبة الإصدار كمّيةً ونوعاً ، والمحاسبة على ( 91 ) جرائم إنقاص العملة ، فإذا ثبت حصر الإصدار بوليّ الأمر ، وأوجب عليه المشرّع ألاّ يتّخذ من الأفعال ما ينقص قيمة النقد ، وتحقّق الإثم في الإضرار بالعملة ، فالإيمان يقتضي الابتعاد عن اقتراف الإثم ، وبالتالي فاقترافه موجب لغضب الله ديانة ، وخوّل المشرّع وليّ الأمر محاسبة من يضرّ بالعملة وإنزال التعزيرات به ؛ لِما ثبت أنّه من الإفساد في الأرض .

 إنّ هذه الإجراءات الأُخرويّة والدنيويّة في الوقاية والمعالجة القضائيّة كلّها إجراءات واقية للمجتمع من جريمة التزويـر ، وتهريب العملة ، وتحكيم ضوابط الإصدار .

 

------------------------

( 72 ) اُنظر في هذا : سيّد علي ( عبد المنعم ) ، أدوات النقود والسياسة النقديّة .

( 73 ) البيرماني ( خزعل ) ، ص : 184 .

( 74 ) الطبرسي ، مجمع البيان : 4/447 .

( 75 ) الطباطبائي ( محمّد حسين ) ، الميزان في تفسير القرآن : 9/187 .

( 76 ) الفرّاء ( أبو يعلى ) ، الأحكام السلطانيّة ، ص : 165 .

( 77 ) النووي ، روضة الطالبين : 2/258 .

( 78 ) ابن ماجة ، ( م . س ) : 2/761 ، الماوردي ، ( م . س ) ، ص 155 .

( 79 ) الشوكاني : نيل الأوطار : 5/236 .

( 80 ) المصدر نفسه .

( 81 ) المصدر نفسه .

( 82 ) الماوردي : ( م . س ) ، ص : 155 .

( 83 ) ابن قُدامة ، ( م . س ) : 4/176 .

( 84 ) الماوردي ، ( م . س ) ، ص : 155 .

( 85 ) المصدر نفسه .

( 86 ) ابن قُدامة ، ( م . س ) : 4/176 .

( 87 ) الشيخ الأنصاري ، ( م . س ) : 2/38 .

( 88 ) المصدر نفسه .

( 89 ) الغزالي ، إحياء علوم الدين : 2/74 .

( 90 ) النجفي ( محمّد بن أبي بكر ) ، أعلام الموقعين : 2/269 .

( 91 ) النجفي ( محمّد حسن ) ، ( م . س ) : 24/ 17 .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net