متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
التمثيل الرابع
الكتاب : الأمثال في القرآن    |    القسم : مكتبة القرآن و الحديث
التمثيل الرابع


(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَانَّ مِنَ الحِجارَة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الاََنْهارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُون ). (1)
تفسير الآية
جاءت الآية بعد قصة البقرة التي ذبحها بنو إسرائيل، وقد كانوا يجادلون موسى (عليه السلام) بغية التملّص من ذبحها، ولكن قاموا بذبحها و ما كادوا يفعلون.
وكان ذبح البقرة لاَجل تحديد هوية القاتل الذي قام بقتل ابن عمه غيلة واتهم بقتله شخصاً آخر من بني إسرائيل، فصاروا يتدارأون ويدفعون عن أنفسهم هذه التهمة، فرجعوا في أمرهم إلى موسى (عليه السلام) ، وشاء الله أن يظهر حقيقة الاَمر بنحو معجز، فقال لهم موسى (عليه السلام): (انّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة )، فلمّـا ذبحوها ـ بعد مجادلات طويلة ـ أمر سبحانه أن يضربوا المقتول ببعض البقرة حتى يحيى المقتول ويعين هوية القاتل.
قال سبحانه: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يحيي اللهُ المَوتى وَيُريكُمْ آياتِهِ
____________
1 ـ البقرة:74.

( 96 )
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون
). (1)
ومع روَية هذه المعجزة الكبرى التي كان من المفروض أن تزيد في إيمانهم وانصياعهم لنبيهم موسى (عليه السلام)، لكن ـ و للاَسف ـ قست قلوبهم بنحو يحكي سبحانه شدة تلك القساوة و يقول:
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كالحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ).
وبما أنّ الحجر هو المعروف بالصلابة والقساوة شبّه سبحانه قلوبهم بالحجارة وقال: إنَّ قُلوبهُمْ (كالحِجارَة أَوْ أَشَدّ قَسوَة) أي: بل أشدّ قسوة، فكلمة "أو" موضوعة مكان بل.
ثمّ إنّ القلوب إمّا بمعنى النفوس الناطقة، فعندئذ تكون نسبة القساوة إلى الروح نسبة حقيقية. أو انّ المراد منها هو العضو المودع في الجهة اليسرى من الصدر الذي ليس له دور سوى تصفية الدم وإرساله إلى سائر الاَعضاء، وعندئذٍ تكون النسبة مجازية، وإنّما نسبت القساوة إلى ذلك العضو ، لاَنّه مظهر من مظاهر الحياة الاِنسانية، وأوّل عضو يتأثر بالاَُمور النفسانية كالفرح والغضب والحزن والجزع، فلامنافاة في أن يكون المدرك هو النفس الناطقة، ومع ذلك يصحّ نسبة الاِدراك إلى القلب.
ثمّ إنّه سبحانه وصف قلوبهم بأنّها أشدّ قسوة من الحجارة، وعلّل ذلك بأُمور ثلاثة:
الاَوّل: (وَانّ مِنَ الحِجارة لَما يَتَفَجَّرُ مِنْه الاََنْهار ).
الثاني: (وَانَّ مِنْها لما يَشَّقّق فيَخرج مِنْهُ الماء ).

____________
1 ـ البقرة:73.

( 97 )
الثالث: (وَإنّ مِنْها لما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ).
أمّا الاَوّل: أي تفجّر الاَنهار من الحجارة، كالعيون الجارية من الجبال الصخرية.
وأمّا الثاني: كالعيون الحادثة عند الزلازل المستتبعة للانشقاق والانفجار المستعقب لجريان الاَنهار.
وأمّا الثالث: كهبوط الحجارة من الجبال العالية إلى الاَودية المنخفضة من خشية الله .
ولا مانع من أن يكون للهبوط علة طبيعية كالصواعق التي تهبط بها الصخور وعلة معنوية التي كشف عنها الوحي، وهي الهبوط من خشية الله .
وعلى ضوء ذلك فالحجارة على الرغم من صلابتها تتأثر طبقاً للعوامل السالفة الذكر، وأمّا قلوب بني إسرائيل فهي صلبة لا تنفعل أمام وحيه سبحانه وبيان رسوله، فلا تفزع نفوسهم ولا تخشع لاَمره ونهيه.
ومن عجيب الاَمر أنّ بني إسرائيل رأوا بأُمّ أعينهم ليونة الحجارة حيث استسقى موسى لقومه، فأمر بأن يضرب بعصاه الحجر ، فلمّا ضربه انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بعدد الاَسباط .
ثمّ إنّ ظاهر الآية نسبة الشعور إلى الحجارة حيث إنّها تهبط من خشية الله ، وهذه حقيقة علمية كشف عنها الوحي وإن لم يصل إليها الاِنسان بأدواته الحسية.
يقول صدر المتألهين: إنّ الكون بجميع أجزائه يسّبح لله ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور، فلكلّ موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والاِدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب.

( 98 )
وعلى هذا الشعور تسّبح الموجودات كلّها، خالقها وبارئها وربّها سبحانه وتنزّهه عن كلّ نقص وعيب.
ثمّ يقول: إنّ العلم والشعور والاِدراك كلّ ذلك متحقّق في جميع مراتب الوجود، ابتداء من "واجب الوجود" إلى النباتات والجمادات، وانّ لكلّ موجود يتحلّى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة. و...و... ولا يخلو موجود من ذلك أبداً، غاية ما في الاَمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علينا ـ بعض الاَحيان ـ لضعفها وضآلتها.
على أنّ موجودات الكون كلما ابتعدت عن المادة والمادية، واقتربت إلى التجرد، أو صارت مجردة بالفعل ازدادت فيها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً، وكلّما ازدادت اقتراباً من المادة والمادية، وتعمّقت فيها، ضعفت فيها هذه الصفات، وضوَلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرّة، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والاِدراك، ولكنّها ليست كذلك ـ كما نتوهم ـ إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف، والضآلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة. (1)
وليست هذه الآية هي الفريدة في بابها، بل هناك آيات توَكد على جريان الشعور في أجزاء العالم من الذرة إلى المجرّة.
يقول سبحانه: (تُسَبّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَالاََرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ). (2)
وبما أنّنا بسطنا الكلام في سريان الشعور إلى أجزاء العالم برمّته في الجزء الاَوّل من هذه الموسوعة، فلنقتصر على ذلك، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه.

____________
1 ـ الاَسفار:1|118 و 6|139، 140.
2 ـ الاِسراء:44.

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net