متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
المطلب الثاني : استقلاليّة عقد الصلح
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

المطلب الثاني : استقلاليّة عقد الصُلح

كما اختلف الفقهاء في المدخل السابق ، فإنّهم اختلفوا في ما إذا كان الصلح عقداً مستقلاًّ برأسه أمْ تابعاً متفرّعاً عن عقودٍ أُخرى ، والقول الثاني ـ في ما بدا لي ـ هو قول أكثر الفقهاء ، وهو مذهب الإمام الشافعي ( 49 ) ، والشيخ الطوسي ـ من الإماميّة ـ ( 50 ) ، وقول مشهور للحنفيّة ( 51 ) ، وقول للمالكيّة ( 52 ) والحنابلة ( 53 ) والظّاهريّة ( 54 ) .

يقول الشهيد الأوّل في اللمعة : ( هو أصل في نفسه على أصحّ القولين وأشهرهما ؛ لأصالة عدم الفرعيّة ) ( 55 ) .

واختلف القائلون بأنّه فرع عن غيره على أقوال :

ذهب الشربيني ـ من الشافعيّة ـ إلى أنّه خمسة أضرب : ( فرع عن البيع ، وفرع عن الإجارة ، والهبـة ، والإبـراء ، والعارية ) ( 56 ) .

وذهب المالكيّة إلى أنّ أقسامه ثلاثة : بيع ، وإجارة ، وهبة . فالصلح على غير المدّعى ، إن كان ذاتاً فهو بيع ، فيشترَط فيه شروط البيع وموانعه ، وإن كان على منفعة فهو إجارة ، فتعتبر شروطها ... ( 57 ) .


الصفحة 209

أمّا على القول باستقلال عقد الصلح ، فيعبّر عنه في الوسيلة بقوله : ( ما أفاد منه فائدة البيع لا تجري فيه الخيارات ، كخيار المجلس وخيار الحيوان ، ولا تجري فيه أحكام الشفعة ، ولا شرط القبض بمعاوضة النقدين ، وما أفاد فائدة الهبة لا يعتبر فيه قبْض العَين ) ( 58 ) .

ثمرة الخلاف :

 وضُح من النصّ المتقدّم أنّ ثمرة الخلاف تظهر في ما إذا كان الصُلح ـ مثلاً ـ متفرّعاً على البيع ، فإن كان المدّعى أحد النقدين ـ مثلاً ـ يجري في العوضين شرط التقابض في مجلسٍ واحدٍ ، ويُشترط في غير النقدَين معلوميّة العوضين ، وفي الإجارة يشترط معلوميّة ثمن الإجارة ومدّتها . بينما على رأي مَن يراه ـ الصلح ـ عقداً مستقلاًّ ، فإنّ كون العوَض مطلقاً لا يؤثّر في العقد ، وقد استدلّ القائلون بالاستقلال بما يأتي :

1 ـ إنّ ما حمل أصحاب الرأي الثاني على القول به ـ وهو التفرّع عن عقودٍ أُخرى ـ هو دعوى المماثلة والمشابهة الحُكميّة ، والحال أنّ التشابه لا يقتضي الاتّحاد على وجهٍ تلحق أحكام الأصل بالفرع ، فكلّ حكمٍ ثبت لموضوع خاصّ ، لا يثبت لغيره من تلك الحيثيّة ، وإلاّ لاقتضى اتّحاد الهبة بعوضٍ معلوم مع البيع ، وهو واضح البطلان .

2 ـ إنّ عمومات النصّ أفردَته بنفسه ، ولم تخصّصه بإلحاقه بغيره من العقود كما ألحقَت الخيارات بعقد البيع .

3 ـ ومع افتراض وجود العارض الظنّي ، فإنّ المرجع لاستقلال عقد الصلح أصالةً استقلال العقود ؛ لذلك يقول الشهيد في اللمعة : ( لأصالة عدم الفرعيّة ) .

4 ـ ويُلزم القائلون بالاستقلال خصومهَم في أنّهم أجازوا الصلح على غير المعلوم ، فأخرجوه من شرائط البيع والإجارة ، فلو كان تابعاً لما صحّ الصلح على غير المعلوم .

وللإماميّة ـ كما تقدّم ـ قولان : نُسب القول بفرعيّة عقد الصلح إلى الشيخ الطوسي ، في حين خالف ابن إدريس الحلّي تلك الفتوى ، بل جعَل القول باستقلال عقد الصلح مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ( 59 ) ، بل في السرائر


الصفحة 210

تلويح ومناقشة ، في أنّ ما نُسب إلى الطوسي ليس رأياً له ، إنّما نقله الشيخ في النهاية كرأي من الآراء ، ويؤكّد ذلك رأيه في الخلاف ؛ إذ يرى استقلاله ، والخلاف متأخّر عن النهاية ( 60 ) .

ولكن بمتابعة أقوال الشيخ الطوسي ـ رحمه الله ـ في النهاية والمبسوط والخلاف ، تُظهر عبارته أنّه يميل إلى أنّه مصحّح لوضعٍ نشأ بعد بيعٍ أو إجارة ، بهبةٍ أو إبراءٍ أو عارية .

وفي القرن الثالث عشر الهجري ظهرت عقليّة فقهيّة مُبدعة ، وهي عقليّة الشيخ الأنصاري الذي يرى أنّ حقيقة الصلح هي التسالُم ؛ لذا لا يتعدّى بنفسه إلى المال ، إلاّ أنّه يتضمّن التمليك إذا تعلّق بعَينٍ أو منفعة ، كما يشمل الانتفاع إذا تعلّق بعارية ، وهنا لا يفيد أكثر من مجرّد التسليط ، ويتضمّن عقد الصلح الإسقاط إذا تعلّق بالإبراء من الحقوق . فهو عند الشيخ الأنصاري مشتركٌ عقديّ ، يفيد في كلّ موضوعٍ فائدة ( 61 )

إنّ نظريّة الشيخ الأنصاري مبنيّة على رأي المقداد السيوري ، الذي وجدناه يعدّه في موضوعه أعمّ من باقي العقود ؛ ولأجل ذلك أُطلقت عليه تسمية سيّد الأحكام .

رأي القانون المدني :

 يرى فقهاء القانون أنّ الصلح من العقود التي تقع على الملكيّة ، والتي ينقضي بها الالتزام ؛ لأنّه كاشف عن الحقّ وليس منشأً له ، ولمّا كان أهل القانون ـ كما تقدّم ـ يحصرونه في المعاوضات ؛ إذ هم يسمّون ما لا معاوضة فيه بالإبراء ، فالصلح عندهم يتضمّن في معانيه عدّة عقود معاوضيّة ، كالهبة المعوّضة والبيع والقسمة الرضائيّة والمطلقة ، وأحال أهل القانون قضيّة التفريق بين الصلح برأسه والصلح المتفرّع عن البيع أو الإجارة إلى اجتهاد القاضي ، من خلال ملاحظة ورود الإرادتين وبقيّة عناصر الصلح ( 62 ) .

رأي الباحث :

يرى الباحث أنّ سبب الخلاف هو اشتمال الصلح على معاني وضوابطَ عدّةِ عقودٍ ، فاختلفت أنظار الفقهاء في ما إذا كان هو نتيجة لاختلاف المتنازعين في تلك العقود ، أمْ هو ( ذو موضوعٍ أعمّ من تلك


الصفحة 211

العقود ) ، بحيث يمكن أن تكون موضوعاتها موضوعاً له ، مع اختلاف في وجهة كلّ عقدٍ في تصحيح أوضاع غير رضائيّة .

والذي يظهر لي أنّ المقداد السيوري أوّل من نبّه على عموم موضوعاته ، فتقدّم الشيخ الأنصاري خطوة على الخلاف التقليدي للمتقدّمين ، عندما أطلق عليه مصطلح المشترك العقديّ ، فصار عنده عقداً مُصحّحاً لِما أُنشئ عن بيعٍ أو إجارةٍ أو غصبٍ أو غيره ، وهنا يمكن اعتباره مصحّحاً شاملاً ، بل الذي يظهر لي أنّ للصُلح ـ بناءً على هذه النظرة ـ قابلية تعديل ترتيب الحقوق والالتزامات ، التي أُبرمت في ظروف واقعيّة أو قانونيّة لم يتحقّق منها تراضٍ فعليّ ، وإن كان هناك اختيار قولي ـ على ما عند الحنفيّة من تفريقٍ بين مصطلح الرضا ومصطلح الاختيار ـ ، كذلك لا يُصار إلى القول : ( إنّ الأصل في جملة على أقرب العقود وأشبهها ) ، كما يقول الميرغيناني ( 63 ) .

 

ــــــــــــــ

(49) الشربيني ، مغني المحتاج ، ص 178 .

(50) الطوسي ، المبسوط ، كتاب الصلح ، ظ : النهاية ، ص182 ، الخلاف : 2/115 .

(51) السمرقندي ، خزانة الفقه : 1/248 ، ظ : تكييف الصلح ، الميرغيناني ، الهداية : 3/192 .

(52) محمّد بن سعد ، دليل السالك لمذهب الإمام مالك .

(53) ابن قدامة ، المغني : 5/15 .

(54) ابن حزم ، المحلّى : 8/166 .

(55) محمّد بن جمال الدين العاملي : 4/174 .

(56) الشربيني ، مغني المحتاج : 2/180 .

(57) محمّد بن سعد ، دليل السالك ، ص115 .

(58) السيّد أبو الحسن ، الوسيلة : 1/561 .

(59) ابن إدريس ، السرائر ، كتاب الصلح ، ط . حجريّة غير مرقّمة .

(60) ظ : المصدر نفسه ، العاملي ، مفتاح الكرامة ، ص458 ، الطوسي ، الخلاف : 2/115 .

(61) الأنصاري ، المكاسب : 6/39 .

(62) السنهوري ، مصادر الحقّ في الفقه الإسلامي : 6/223 .

(63) الميرغيناني ، الهداية : 3/192 .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net