متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
معاوية بن أبي سفيان
الكتاب : شخصيات ومواقف    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

مُعاويَة بن أبي سفيان

وما أدرانا ما معاوية ! إنَّه على سِرِّ أبيه في كلِّ شيء ، بلْ زاد عليه في كلِّ شيء .. مِن الكفر والنفاق والضلال والإضلال ، فهو وصيَّة أبي سفيان أنَّ يواصل دربه في القضاء على الإسلام الأصيل ، بطمس معالمه ، وتشويه حقائقه ، وتحريف شريعته وعقائده .. والقضاء على المسلمين الأحرار ، بالقتل والسجن والتشريد ، فضلاً عن الإساءة إلى سُمعتهم وكرامتهم .

والأفضل أنْ ندع التاريخ هو المُتحدِّث عن هذه الشخصيَّة ، البارزة في السلالة الأُمويَّة ، والأُسرة السفيانيَّة ، والعائلة الحاكمة في الشام بتمهيدٍ مِن عمر وعثمان .

النَّسَب : أسلفنا مَن هو أُميَّة ، ومَن هُمْ بنو أُميَّة .. وتعرَّفنا على الأبوين الشهرين لـ ( معاوية ) : أبي سفيان وهند . وإذا كان قد ثبت أنَّ الأُمَّ هند ، فإنَّ الأب يبقى مشكوكاً ، فالشعبيّ يرى أنَّ رجال التاريخ يذكرون لمُعاوية أربعة آباءٍ مِن قريش ، هُمْ : عمارة بن الوليد المخزوميّ ، ومسافر بن أبي عمر ، وأبو سفيان ، والعبّاس بن عبد المُطَّلب . والزمخشريّ يُضيف إلى شُهرة أبي سفيان أنَّه أبو معاوية أربعةَ رجال آخرين يعدُّهم في كتابه ( ربيع الأبرار ) ، هُمْ : مسافر بن عمر ، وعمارة بن الوليد ، والعبّاس ، ورجل أسود يُدْعى الصبّاح . بينما يرى إسماعيل بن عليّ الحنفيّ في كتاب ( مثالب بني أُميَّة ) أنَّ مسافر بن عمر جامعَ هندَ بنت عتبة سفاحاً ، فحملت منه ، وفي أثناء حملها تزوَّجها أبو سفيان ، فولدت له معاوية بعد ثلاثة أشهر فقط مِن تاريخ زواجهما .

فمعاوية ـ إذاً ـ منسوب إلى أبي سفيان ، وخلَّف ذلك عُقدةً في  


الصفحة 73

نفسه ، فحاول أنْ يُسرِّيّ هذا التلوُّث إلى غيره ويُعطيه طابعاً شرعيَّاً ، فاستلحق زياد بن أبيه ، الذي كان قد وُلِد على فراش عبيد مولى ثقيف .. وجعله أخاً له لادِّعاء أبي سفيان أنَّه هو الذي قذفه في رحِم أُمِّه سُميَّة ( وهي الأُخرى مِن ذوات الأعلام والرايات ) ( ١ ) .

وصحَّ عند الأُمَّة قول نبيِّها ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( مَن ادَّعى أباً في الإسلام غير أبيه ـ وهو يعلم أنَّه غير أبيه ـ فالجنَّة عليه حرام ) ( ٢ ) .

وقوله ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( مَن ادَّعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله المُتتابعة إلى يوم القيامة ) ( 3 ) .

حقده على النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) :

 أكثر مواقفه كانت تحكي بغضَه للدين الجديد ، وكراهيَّته للرسول الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله ) ، ولكنْ نكتفي بموقفين له :

الأوَّل : ذكَره الإمام الحسن ( عليه السلام ) في احتجاجه الكبير معه في محضر جلاوزة معاوية ، قال في أوَّله ـ رادَّاً عليهم ، ومُناشداً لهم بالحقائق الدامغة ـ :

ــــــــــــــــــ

١ ـ تاريخ ابن عساكر 5 : 410 . والاستيعاب 1 : 195 . والعِقد الفريد 3 : 3 . وتاريخ اليعقوبيّ 2 : 194 . ومروج الذهب ، للمسعوديّ 2 : 56.. وقد بحث العلاَّمة الأمينيّ هذا الموضوع بتفصيل في سِفْره المُبارك ( الغدير ) 10 : 216ـ 227 .

٢ ـ رواه البخاريّ ومسلم وأبو داود وابن ماجة ، كما في سُنَن البيهقيّ 7 : 403 .

3 ـ الترغيب والترهيب ، للمُنذريّ 3 : 22 ، عن أبي داود .


الصفحة 74

( الحمد لله الذي هدى أوَّلَكم بأوَّلِنا ، وآخركم بآخرنا ، وصلَّى الله على جَدِّي محمّدٍ النبيّ وآله وسلَّم .

اسمعوا منِّي مقالتي وأعيروني فهْمَكم . وبك أبدأُ يا معاوية ، .. ـ إلى أنْ قال له بعد عرض لجملةٍ مِن أدلَّة إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومواقفه الغيورة ، ولجملةٍ مِن مخازي معاوية : ـ أُنشدكمْ بالله .. هل تعلمون أنَّ ما أقول حقَّاً ، إنَّه لقيَكم رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) يوم بدر ومعه ـ أيْ مع الإمام عليّ ( عليه السلام ) ـ راية النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) والمؤمنين ، ومعك ـ يا معاوية ـ راية المُشركين وأنت تعبد اللاتَ والعُزَّى ، وترى حرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فرضاً واجبا ؟ ولقيكم يوم أُحد ومعه راية النبيّ ، ومعك ـ يا مُعاويةُ ـ راية المُشركين؟ ولقيكم يوم الأحزاب ومعه رايةُ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ، ومعك ـ يا معاويةُ ـ راية المُشركين ؟ كلُّ ذلك يَفلُج الله حُجَّتَه ، ويُحقَّ دعوته ، ويصدِّق أُحدوثتَه ، وينصر رايتَه .. وكلُّ ذلك كان رسول الله عنه راضياً في المواطن كلِّها ، ساخطاً عليك ...

ـ ثمَّ قال : ـ أُنشدكم بالله ، هل تعلمون أنَّ ما أقول حقَّاً ؟ إنَّك ـ يا معاويةُ ـ كنت تسوقُ بأبيك على جمل أحمر يقوده أخوك هذا القاعد ـ يقصد عتبة بن أبي سفيان  ـ وهذا يوم الأحزاب ، فلعن رسولُ اللهِ القائدَ والراكبَ والسائق ، فكان أبوك الراكب ، وأنت ـ يا ازرقُ ـ السائق ،


 الصفحة 75

وأخوك هذا القاعدُ القائد ) ( 1 ) .

الثاني : كان قد تظاهر بالإسلام مُضطرَّاً ، فلمَّا استقرَّ به مُلكُه في الشام ، مكث أربعين جمعةً يُصلِّي بالناس ويخطب فيهم دون أنْ يُصلِّيَ على النبيّ الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) ، فسأله بعض أصحابه عن ذلك فقال : لا يمنعني عن ذكْرِه إلاَّ أنْ تشمخ رجالٌ بآنافها ( 2 ) .

فإذا انبسطت له الأوضاع أفرغ ما في نفسه مِن الحقد على المُصطفى ( صلَّى الله عليه وآله ) .. دعونا نُصغي إلى ما رواه مُطرف بن المغيرة بن شعبة ، حيث يقول :

وفدتُ مع أبي على معاوية ، فكان أبي يتحدَّث عنده ثمَّ ينصرف إليَّ وهو يذكر معاوية وعقله ، ويُعجَب بما يرى منه ، وأقبل ذات ليلةٍ وهو غضبان ، فأمسك عن العشاء ، فانتظرتُه ساعةً ، وقد ظننت أنَّه لشيءٍ حدث فينا أو في عملنا ، فقلت : ما لي أراك مُغتمَّاً مُنذ الليلة ؟! قال : يا بُنيّ ، جئتك مِن عند أخبث الناس ، قلت : ما ذاك ؟ قال : خلوتُ بمعاوية فقلت له : إنَّك قد بلغتَ مُناك يا أميرَ المؤمنين ، فلو أظهرتَ عدلاً ، وبسطتَ خيراً ؛ فإنَّك كبرت . ولو نظرتَ إلى إخوتك مِن بني هاشم فوصلتَ أرحامهم ، فو الله ، ما عندهمُ اليومَ شيءٌ تخافه .

ـــــــــــــــــــ

1 ـ الاحتجاج : 272ـ 274 . وينظر : شرح نهج البلاغة 2: 102. وتذكرة خواصِّ الأمَّة 115 . وجمهرة خُطب العرب 1 :428 .

2 ـ النصائح الكافية لمَن يتولَّى مُعاوية ، للسيِّد محمّد بن عقيل العلويّ : 97 .


الصفحة 76

فثار معاوية واندفع يقول : هيهاتَ هيهات ! مَلَك أخو تَيم فعدل ، وفعل ما فعل . فواللهِ ، ما عدا أنْ هلك فهلك ذِكرُه إلاَّ أنْ يقول قائل : أبو بكر . ثمَّ ملَكَ أخو عَدِيٍّ فاجتهد وشمَّر عشر سنين . فوالله ، ما عدا أنْ هلك فهلك ذكْرُه إلاَّ أنْ يقول قائل : عمر . ثمَّ ملَك أخونا عثمان .. فعُمِل به ما عُمِل . فواللهِ ، ما عدا أنْ هلك فهلك ذكره . وإنَّ أخا هاشم ـ يقصد النبيَّ ( صلى الله عليه وآله ) ـ يُصرَخُ به كلَّ يوم خمس مرَّات : أشهد أنَّ محمّداًَ رسولُ الله . فأيُّ عملٍ يبقى بعد هذا ـ لا أُمَّ لك ـ ؟! واللهِ ، سُحقاً سُحقاً ، واللهِ دفناً دفناً ( 1 ) .

 

الخلافة :

هنا نتساءل : هذا الذي يتوعَّد بلسان حاقد أنْ يسحق آثار النبوَّة ويدفنها .. أيستحقُّ أنْ يكون خليفة النبيّ ووصيَّه على الأُمَّة ؟!

لقد كان النبي ( صلَّى الله عليه وآله ) رأى بعين بصيرته الرحمانيَّة ونبوَّته الإلهيَّة أنَّ معاوية رجلٌ يشتهي الرئاسة ، وسيانلها فيطغى ، فقال في ذلك : ( إذا رأيتُم معاوية على منبري فاقتلوه ) .

ولعلَّ مُشكِّكاً يقول : ربَّما وضع هذا الحديث أعداءُ معاوية مِن الشيعة وغيرهم ! ولكي يزول الشكُّ وتذوب ( ربَّما ) نوقفه

ــــــــــــــــــ

1 ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 2 : 297 . والموفَّقيات للزبير بن بكَّار 576 _ 557 . ومروج الذهب 3 : 454 .


الصفحة 77

على هذه المصادر التي ذكرت هذا الحديث :

1ـ ميزان الاعتدال ، للذهبيّ 2 : 7 .. قال : روى عباد بن يعقوب ، عن شريك بن عاصم ، عن زرِّ عن عبد الله : قال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( إذا رأيتم معاويةَ على منبري فاقتلوه ) . وقد صحَّحه الذهبيّ ، وهو مِن علماء أهل السُّنَّة المُتشدِّدين في الرواية ، ثمَّ رواه مرَّة أُخرى على الصفحة 129 مِن الجزء نفسه ولكنْ عن طريق أبي سعيد الخدريّ رفعه ، ثمَّ ذكر نحوه عن أبي جذعان .

2ـ تهذيب التهذيب ، لابن حجر العسقلانيّ 5 : 110 في ترجمة عبّاد بن يعقوب الرواجنيّ ، فجاء بالسند والحديث . ثمَّ عاد في الجزء السابع مِن الكتاب نفسه ، فقال على الصفحة 324 في ترجمة عليّ بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة : حدَّث حمّاد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد عن نضرة ، عن أبي سعيد ، رفعه إلى النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( إذا رأيتم معاويةَ على هذه الأعواد فاقتلوه ) . ثمَّ قال ابن حجر : وأخرجه الحسن بن سفيان في مُسنده عن إسحاق عن عبد الرزّاق ، عن ابن عيينة ، عن عليّ بن زيد .. ولكنَّ لفظ ابن عيينة : فارجموه . ثمّ يعود ابن حجر على الحديث نفسه ، في الجزء السابع على الصفحة 74 ، في ترجمة عمرو بن عبيد بن باب ، بسندٍ ينتهي إلى أنَّ عَمْراً روى عن الحسن أنَّ النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) قال : ( إذا رأيتم معاويةَ على منبري فاقتلوه ) .


الصفحة 78

3ـ كنوز الحقائق ، للمنَّاويّ : 9.. ولفظ الحديث : ( إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ) . ثمَّ قال المنَّاويّ : أخرجه الديلميّ ..

4ـ ونقل الحديثَ ـ أيضاً ـ جمهرة كبيرة مِن الحُفَّاظ والمُحدِّثين ، والمُفسِّرين والمؤرِّخين ، جاء في بعضها قول الحسن : فما فعلوا ولا أفلحوا .

يُراجَع : تاريخ الطبريّ ، وتاريخ بغداد ـ للخطيب البغداديّ ، وكتاب صِفِّين ـ لنصر بن مُزاحم ، وشرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ، والكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ، واللآلي المصنوعة ـ للسيوطيّ .. وغيرها مِن المصادر .

والآن .. نحن نتساءل : ألَم يرَ المسلمون معاوية وقد ارتقى منبرَ الخلافة . وهو مِنبرُ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ؟! وإذا كانوا رأوه فلماذا لم يقتلوه ؟!

أهنالك شُبهة أنَّ المقصود مِن المنبر في الحديث ، هو عين منبر النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) في مسجده بالمدينة المنّورة ؟! فإذا كان ذلك قال العلماء : الظاهر أنَّ الحديث يُشير إلى مطلق المنابر التي عليها اسم الإسلام وخلافته وإمارته .. وقد صعد معاوية منبرَ الخلافة في الشام فوجب قتله . أمّا إذا تنزَّلنا وأخذنا الحديثَ المرويَّ عن أبي سعيد : ( إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد فاقتلوه ) ، وأراد المسلمون أنْ


الصفحة 79

يعملوا بظاهره ، فإنَّ معاوية قَدِم إلى المدينة المنوَّرة وصعد على منبر النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) وحَلف ليَقتُلَنَّ ابنَ عمر . وهذا ما رواه ابن سعد ( 1 ) عن إسماعيل بن إبراهيم الأسديّ ، عن أيّوب عن نافع . ثمَّ رواه بطريقٍ آخر عن نافع ، فراجع .

ثمَّ نقول للمُتسائل المُشكِّك : أين أنت عن قولة عمر بن الخطّاب : هذا الأمر في أهل بدر ما بقي أحد ، ثمَّ في أهل أُحد ما بقي منهم أحد .. ثمَّ في كذا وكذا ، وليس فيها لطليق ، ولا لولد طليق ، ولا لمُسلمةِ الفتح شيء ( 2 ) ؟

بلْ أين عمر بن الخطَّاب نفسه مِن قولته هو نفسه وقد ولَّى مُعاويةَ الشامَ في عهده بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان .. ( 3 ) .

وبعد أنْ ولاَّه لم يُحاسبه على صغيرة ولا كبيرة ، وعمر هو المعروف بشِدَّته وصرامته في مُحاسبة الولاة ؟!

قال عبد الرحمان بن الجوزيّ : ولاَّه عمر بن الخطَّاب مكان أخيه يزيد بن أبي سفيان لمَّا مات ، فلم يزل كذلك خلافة عمر ، وأمَّره

ــــــــــــــــــ

1 ـ الطبقات الكبرى 4 : 136 ـ القسم الأوَّل  .

2 ـ أُسد الغابة 4 : 387 ـ في ترجمة معاوية بن أبي سفيان ، والرواية عن عبد الرحمان بن أبزي . وروى الخبر أيضاً ابن سعد في طبقاته 3 : 248ـ القسم الأوَّل  .

3 ـ وقد جاء لعنه على لسان النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) ، يُراجَع : كتاب وقعة صِفِّين : 247 ، وتاريخ الطبريّ 11 : 357 .


الصفحة 80

 عثمان وأفرد له جميعَ الشام !! ( 1 ) .

ثمَّ أين عمر مِن رأي تلميذه ( عبد الرحمان بن غنم الأشعري ) ، وقد سمع عبد الرحمان الحديثَ مِن عمر بعد أنْ كان صاحبَ مُعاذ بن جبل ومُلازمه ، فصار مِن أفقه أهل الشام ففقَّه عامَّة التابعين بالشام ، ـ كما يترجم له ابن عبد البَرِّ فيُضيف : وكانت لعبد الرحمان جلالة وقَدْر ، وهو الذي عاتب أبا هُريرة وأبا الدرداء بحمص ، إذ انصرفا مِن عند عليّ ( عليه السلام ) رسولَين لمعاوية ، وكان ممَّا قال لهما : عجَباً منكما ! كيف جاز عليكما ما جئتما به تدعوانِ عليّاً أنْ يجعلها ـ أي الخلافة ـ شورى ، وقد علمتما أنَّه قد بايعه المُهاجرون والأنصار وأهل الحجاز وأهل العراق . وأنَّ مَن رضيه خيرٌ ممَّن كرهه ، ومَن بايعه خيرٌ ممَّن لم يُبايعه ، وأيُّ مدخل لمعاوية في الشورى وهو مِن الطُّلقاءِ ( 2 ) الذين لا تجوز لهم الخلافة ، وهو وأبوه مِن رؤوس الأحزاب ( 3 ) ؟ قال : فندما على مسيرهما وتابا منه بين يديه ( 4 ) .

لقد مَلَك مُعاوية فماذا فعل ؟ إنَّه لم يستطع أنْ يكتم شهوةَ

ــــــــــــــــــ

1 ـ المُنتظم في تاريخ الملوك والأُمَم 4 : 7 ـ طبعة دار الفكر ـ بيروت . ويُراجَع : معاني الأخبار 346ـ 347 / ج1 .

2 ـ بعد فتح مَكَّة ، وقد قال النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) لأهلها : ( اذهبوا فأنتمُ الطُلَقاء ) .

3 ـ الذين تألَّبوا عليه في واقعة الخندق ليقضوا على الإسلام وأهله .

4 ـ الاستيعاب 2 : 402 ، وذكر الخبر أيضاً ابن الأثير في أُسد الغابة 3 : 318 باختلاف يسير .


الصفحة 81

التسلُّط على الناس في نفسه ، وحدَّة حُبِّ الزعامة وقد أخذت مأخذها مِن قلبه ، فيوم دخل الكوفة بعد التوقيع على وثيقة الصلح مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) لِيُطْبق جيشه على تلك المدينة .. خاطب أهلها بصريح الخطاب :

يا أهلَ الكوفة ، أَتَروني أُقاتلكم على الصلاة والزكاة والحَجِّ ـ وقد علمتُ أنَّكم تُصلُّون وتُزكُّون وتحجُّون ـ ؟! ولكنَّني أُقاتلكم لأتأمَّر عليكم وعلى رقابكم ، وقد آتانيَ اللهُ ذلك وأنتم كارهون ( 1 ) .

ولكي يُطْبقَ على الناس ؛ فلا يترك لهم فُسحةً يتحرَّكون فيها أو مُتنفَّساً يشْكون مِن خلاله ولا فُرصة ليقوموا في وجهه .. انتخب عُمَّالَه مِن الزعانفة الفَجَرة أعداء الإسلام : بُسر بن أرطأة ، ومروان بن الحَكَم ، والمُغيرة بن شعبة ، وزياد بن أبيه ، وعبد الله الفزاريّ ، وسفيان بن عوف ، والضحّاك بن قيس ، وسمرة بن جندب ، وعَمْر بن العاص .. ونظرائهم ، فاستعملهم على عباد الله ـ وهو يعرفهم حقَّ المعرفة ـ غير مُبالٍ بقول رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( مَن تولَّى مِن أمر المسلمين شيئاً ، فاستعمل عليهم رجلاً وهو يعلم أنَّ فيهم مَن هو أَولى بذلك وأعلم بكتاب الله وسُنَّةِ رسوله ، فقد خان الله ورسوله وجميع المؤمنين ) ( 2 ) .

ــــــــــــــــــــ

1 ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 16 : 15 .

2 ـ مجمع الزوائد ، للهيثميّ 5 : 211 .


الصفحة 82

ولنأخذ ـ أخي القارئ ـ نموذجاًَ مِمَّن ولاَّهم معاوية بعد أنْ تولَّوه .. وهو زياد ابن أبيه !

* يقول اليعقوبيّ في تاريخه : وكان زياد بن عبيد ( أي ابن أبيه ) عاملَ عليّ بن أبي طالب على فارس ، فلمَّا صار الأمر إلى معاوية ، كتب إلى زياد يتوعَّده ويتهدَّده ، فقام زياد خطيباً فقال :

إنَّ ابنَ آكلة الأكباد وكهفَ النفاق وبقيَّة الأحزاب ، كتب إليَّ يتوعَّدني ويتهدَّدني ، وبيني وبينه ابنا بنت رسول الله ـ أيْ : الحسن والحسين [ عليهما السلام ] ـ في تسعين ألفاً ، واضعي قبائع سيوفهم تحت أذقانهم .. أما والله ، لئن وصل إليَّ لَيجدُني أحمز ، ضرَّاباً بالسيف . فوجَّه معاويةُ إليه المُغيرةَ بن شعبة ، فأقدمه ثمَّ ادَّعاه ـ أي : ادَّعى معاوية أنَّ زياداً هو ابن أبي سفيان ـ وأنَّ أبا سفيان قال : واللهِ ، لَهُوَ ابني ، ولأنا وضعتُه في رَحِم أمّه ! )، وألحقه معاوية بأبي سفيان ، وولاَّه البصرة .. ( 1 ) .

وأمَّا كاتبه وصاحب أمره ، فسرجون بن منصور الرومّي النصرانيّ ! ذكر ذلك ابن الجوزيّ ، ثمَّ أضاف قائلاً : وكان معاوية أوَّل مَن اتَّخذ الحرس .. ( 2) .

ـــــــــــــــــــ

1 ـ تاريخ اليعقوبي 2 : 218 .

2 ـ المُنتظم في تاريخ الملوك والأُمَم 4 : 7 ، دار الفكر بيروت .


الصفحة 83

حُكْمُه :

مُنذ أنْ حَلَّ معاوية أرض الشام ، أخذت المفاسد تموج بالناس وتسري إلى جميع شؤون حياتهم . فقد شاعت العقائد المُنحرفة ، وتفشَّت الرذائل والموبقات ، وعمَّ الظلم والجور والإرهاب ، وابتُلي القوم بحروبٍ ومذابح .

وإذا أردنا أنْ نبسط الحديث في ذلك ، احتجنا إلى تأليف كتابٍ كبير يجمع ولا يُحيط ، ويُلمُّ ولا يُحصي .. فجرائم معاوية تنوَّعت وتعدَّدت ؛ لذا نبتغي الإشارة ويعذرنا القارئ الكريم .

ما أنْ سيطر معاوية على الحُكم حتَّى أخذ يُثبِّت زعامته الجاهليَّة ، ويُحاول طمس معالم الإسلام وتزييفها ، وقد خطا خُطواتٍ في السيطرة على مشاعر المسلمين وعقولهم ، فأوجد بينهم تبريراً دينيَّاً لسلطانه ؛ لاستفراغ روح الثورة مِن النفوس ، وكبح جماح النقمة الجماهيريَّة الإسلاميَّة بدعايات ذات صِبغة دينيَّة ، فاختلق الأحاديث والأخبار ، وافترى على الرسالة والرسول ، واشترى الأقاويل والأكاذيب مِن باعة الضمير . وابتدع فرقاً ( سياسيَّةً ـ دينيَّة ) باسم الإسلام تتَّخذ اسم المُرجِئة تارةً ، والجَبْريَّة تارةً أُخرى ، لتحريم الثورة ضِدَّه .. فالأُمور تجري بقضاء الله ، ولا يجوز الاعتراض على قضاء الله ، ومعاوية خليفة الله ، والمال مال الله ، وهو مُوكَّل عليه وعلى رقابِ عبادِ الله !!


الصفحة 84

وقد أصبح المُرجِئة عوناً وسنداً لحُكم معاوية ، فجاءت آراؤهم ومُعتقداتهم تبريراً لإمارته ، وإقناعاً للمسلمين بوجوب طاعته . وقد وجد الجُهَّال وطلاَّب العافية والسلامة ضالَّتَهمُ المنشودة في الأفكار الجَبْريَّة ؛ ليعيشوا في ظِلِّ السلطان آمنين ، فكلُّ ما يجري هو قضاء الله مُحتَّم مِن ربِّ العالمين ! ( 1 )

ثمَّ أشاع معاوية الروحَ العنصريَّة والقوميَّة ، ونفخ بها نفوس أهل الشام ، فتهيَّئوا للفتن والعصبيَّات والأحقاد . ثمَّ انكبَّ على شريعة الإسلام يُبدِّل ويُغيِّر ، ويُحرِّف ويَزيد ويُنقص ، ويُعطِّل الحدود ويَحكُم خلاف ما أنزل الله تعالى في صريح كتابه وخلاف ما اشتهر مِن سُنَن النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) .

واجتناباً عن الإطالة نُشير إشارات :

* أتمَّ معاوية الصلاة في سفره ، كما أخرج الطبرانيّ وأحمد بإسناد صحيح ، مِن طريق عبّاد بن عبد الله بن الزبير .

* أحدث معاوية أذاناً وإقامة لصلاة العيدين ، وقدَّم الخُطبة على الصلاة ، كما ذكر ابن حزم في المُحلَّى 5 : 82 .

* صلَّى معاوية صلاة الجمعة يوم الأربعاء عند مسيره إلى صِفِّين ، وفي ضحى الجمعة لا ظهرها .

ـــــــــــــــــ

1 ـ مقالات الإسلاميِّين ، للأشعريّ : 141 . وحركات الشيعة في العصر العبَّاسي الأوَّل ، لمحمّد جابر عبد العال .


الصفحة 85

* جوَّز معاوية الجمع بين الأختين ، كما نقل السيوطيّ في الدُّرّ المنثور 2 : 137 .

* وأحدث في الدِّيَّات وقصَّرها إلى النصف ، كما أرَّخ لذلك ابن كثير في تاريخه 8 : 139 .

* وشهد أبو هريرة أنَّ معاوية أوَّل مَن ترك التكبير المسنون في الصلوات ، أخرجه الطبرانيُّ وغيره كثير .

* أخرج النسائيّ في سُنَنه 5 : 253 ، والبيهقيّ في السُّنَن الكُبرى 5 : 113مِن طرق سعيد بن جبير ، قال : كان ابن عبّاس بعَرَفة فقال : يا سعيد ، مالي لا أرى الناس يُلبُّون ؟! فقلت : يخافون معاوية . فخرج ابن عبّاس مِن فسطاسه فقال : لبَّيك اللَّهمَّ لبَّيك ، وإنْ رغم أنف معاوية . اللَّهمَّ اللعنهم ، فقد تركوا السُنّة مِن بُغض عليٍّ ( 1 ) .

* رأى المقدام بن مَعْدِي كرب في بيت معاوية يُلبَس الذهب وجلود السباع والحرير ( 2 ) .

* جعل معاوية الخلافة وراثيَّة ، فعيَّن مِن بعده يزيد .. وما أدراك ما يزيد ؟! سنفرغ له بعد صفحات . وكانت تلك بِدْعةً سيِّئة ( 3 ) .

* وقد عقد العلاَّمة الشيخ الأمينيّ ( رحمه الله ) فصولاً في كتابه ( الغدير ) ـ لاسِيَّما

ــــــــــــــــــ

1 ـ البداية والنهاية 8 : 130 .

2 ـ يُراجع مُسند أحمد 4 : 130 ، وقد أخرج في ذلك خبراً عن أبي داود .

3 ـ يُنظَر : الاستيعاب 1: 142 ، وتاريخ ابن كثير 8: 79 .


الصفحة 86

في الجزء العاشر منه ـ لبيان ذلك ، ونحن إذْ نُحيل القارئ الكريم إليه لا يفوتنا أنْ ننقل عن الأمينيّ هذه اللوعة :

انظرْ إلى مَبلغ هؤلاءِ الرجال أبناء بيت أُميَّة مِن الدين ، ولعبهم بطقوس الإسلام ، وجرأتهم على الله وتغيير سُنَّته .. ( 1 ) .

وفي نفسه .. كيف كان معاوية ؟ لنسمع أجوبة هذا السؤال مِن ألسنةِ أقلامِ أئمَّة الحديث وأصحاب السير :

* في مُسنده .. كتب أحمد بن حنبل : مِن طريق عبد الله بن بُريدة ، قال : دخلت أنا وأبي على معاوية فأجْلَسَنا على الفرش ، ثمَّ أُتينا بطعامٍ فأكلْنا ، ثمَّ أُتينا بالشراب فشرب معاوية ثمَّ ناول أبي ، ثمَّ قال أبي : ما شربتهُ مُنذ حرَّمه رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ( 2 ) .

* وفي تاريخ .. قال ابن عساكر : وفد عبد الله بن الحارث بن أُميَّة بن عبد شمس على معاوية ، فقرَّبه حتَّى مسَّت ركبتاه رأسَه ، ثمَّ قال له معاوية : ما بقيَ منك ؟ ( 3 ) قال : ذهبَ ـ واللهِ ـ خيري وشَرِّي .

فقال له معاوية : ذهب ـ واللهِ ـ خيرٌ قليل ، وبَقيَ شَرٌّ كثير ، فما لنا عندك ؟ قال : إنْ أحسنتَ لم أحمدْك ، وإنْ أسأتَ لُمْتُك . قال معاوية : واللهِ ، ما أنصفتَني . قال : ومتى أُنصفك ؟! فواللهِ ، لقد شججتُ أخاك

ــــــــــــــــــ

1 ـ الغدير 10: 191 .

2 ـ مُسند ابن حنبل 5: 347 .

3 ـ كان عبد الله شيخاً كبيراً .


الصفحة 87

حنظلة فما أعطيتُك عقلاً ولا قوداً ، وأنا الذي أقول :

أصخرَ بن حربٍ لا نُعدُّك سيِّداً    فسُدْ غيرَنا إذْ كنتَ لستَ بسيِّد

وأنت الذي تقول :

شربتُ الخمرَ حتَّى صــرتُ كَلاَّ ً    على  الأدنى ومالي مِن iiصديقِ
وحـتَّى  مـا أُوَسَّـدُ مِن iiوسادٍ     إذا  أنسوا سوى التُرب السحيق

ثمَّ وَثَب على معاويةَ يخبطه بيده ، ومعاويةُ ينحاز ويضحك ( 1 ) .

 * وفي الإصابة ، ذكر ابن حجر سنداً ينتهي إلى محمّد بن كعب القرظيّ ، أنَّه قال: غزا عبد الرحمان بن سهل الأنصاريّ في زمن عثمان ، ومعاويةُ أميرٌ على الشام ، فمرَّت به روايا خَمرٍ لمعاوية ، فقام عبد الرحمان إليها برمحه فبقر كلَّ راوية منها فناوشه الغلمان ، حتَّى بلغ شأنُه معاويةَ فقال : دَعُوه ؛ فإنَّه شيخٌ قد ذهب عقله . فقال عبد الرحمان: كلاَّ واللهِ ، ما ذهب عقلي ، ولكنَّ رسولَ الله ( صلَّى الله عليه وآله ) نهانا أنْ نُدخِل في بطوننا وأسقيتنا خمراً ، أحلف باللهِ ، لئن بقيتُ حتَّى أرى في معاوية ما سمعتُ مِن رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) لأبقُرَنَّ بطنه .. أو لأموتنّ دونَه ( 2 ) .

ـــــــــــــــــــ

1 ـ تاريخ دمشق 7: 346 . وروى الخبر كذلك ابن حجر في الإصابة 2: 291 ، قال : روى الكوكبيّ مِن طريق عنبسة بن عمرو وقال : وفد عبد الله بن الحارث..

2 ـ الإصابة 2: 401 ، ولخَّصه ابن حجر في تهذيب التهذيب 6: 192 ، وأخرجه مُلخَّصاً أبو عمر في الاستيعاب المطبوع في هامش الإصابة ، وذكره ابن الأثير في أُسد الغابة 3: 299 ، وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق .


الصفحة 88

ولا ندري ماذا كان قد سمع عبد الرحمان بن سهل الأنصاريّ مِن رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) .. أأمْرَه : ( إذا رأيتُم معاويةَ على منبري فاقتلوه ) ؟! أم غيره ؟! كقوله ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( الخلافة مُحرَّمة على آل أبي سفيان ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطْنَه ) ( 1 ) .

وماذا نُعدِّد بعدُ مِن مفاسد معاوية ؟! وهو الذي أكل الربا ، كما شهد عليه عبادة بن الصامت ، وثبَّت ذلك مالك في الموطِّأ 2: 59 ، والنسائيّ في سُنَنه 7: 279 ، والبيهقيّ في السُّنَن الكُبرى 5: 280 ، ومسلم في صحيحه 5: 43 ، والقرطبيّ في تفسيره 3: 349 ، وأحمد في مُسنده 5: 319 ، وابن عساكر في تاريخه 7: 206 ، والمُتَّقي الهنديّ في كنز عمَّاله 7: 78  ، وغيرهم كثير .

ثمَّ ماذا نُنكر عليه .. أحروبه ؟! وقد سفك فيها دماء عشرات الآلاف مِن المسلمين ، في صِفِّين وغيرها على يد سراياه وقادته أمثال : بسر بن أرطأة ، الذي قتل بعد التحكيم ثلاثين ألفَ مسلمٍ في اليمن وغيرها مِن البلاد ، عدا مَن أُحرِق بالنار .. وسمرة بن جُندب الذي قتل ثمانية آلاف مِن أهل البصرة .. وزياد اللّقيط بن أبيه المجهول ، الذي قطع الأيدي والأرجل ، وسَمل العيون ( 2 ) .

ــــــــــــــــــــ

1 ـ مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، للخوارزميّ 1: 185 . والملهوف على قتلى الطفوف ، لابن طاووس ، 20 .

2 ـ يُراجَع : تاريخ الطبريّ 6: 36 . وشرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 2: 6 ، 17 .


الصفحة 89

وكانت لمعاوية غارات ، وكذلك غدرات !! فقتل بيده وبيد جلاوزته خِيرَة الصحابة والتابعين ، أمثال : عمّار بن ياسر ، وسعيد بن جبير ، وعمرو بن الحمق ، وحجْر بن عدِيّ ، ومالك الأشتر ، ومحمّد بن أبي بكر ( 1 ) .. وسيِّدهم الإمام الحسن المُجتبى ( عليه السلام ) . وكان في كلِّ مرَّة ينتشي ولا يخفي سرورَه ثمَّ يقول : ( إنّ للهِ جنوداً مِن عسل ) ( 2 ) . يقصد أنَّه دسَّ سُمَّه في عسلٍ وسقاه عن طريق غدرتهِ إلى أولياءِ الله والمؤمنين ، وكانت ( جَعْدة )  إحدى الخائنات في التاريخ ، أغراها معاوية بأنْ يزوِّجها مِن ابنه يزيد ويهبها أموالاً كثيرة ، فلمَّا قتلت سيِّدَنا الحسن ( عليه السلام ) تبرَّم مِن عهده ، كما تبرَّم مِن ميثاق الصلح وشوطه ، وقد عقده مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) حين خطب في الكوفة فقال : ألا إنَّ كلَّ مالٍ أو دَمٍ أُصيب في هذه الفتنة فمطلول ، وكلُّ شرط شرطتُه فتحتَ قدَميَّ هاتين ( 3 ) .

وأين نحن مِن ظلمه وإرهابه وقد طبَّقا آفاق المسلمين ؟! ونال ذلك الظلم خيرَ أصحاب رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ، ومنهم أبو ذَرٍّ الغفاريّ ، الذي وشى به معاوية عند عثمان بن عفّان ، فنفاه إلى الربذة ، عاش فيها أيَّاماً حتَّى مات فيها غريباً .. لماذا ؟

ــــــــــــــــــــ

1 ـ يُراجَع : الغدير 11: 16ـ 70 .

2 ـ عيون الأخبار ، لابن قتيبة 1: 201 .

3 ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 16: 15 .


الصفحة 90

روى البلاذريّ : لمَّا أعطى عثمانُ مروانَ بن الحكم ـ وهو طريد رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ـ ما أعطاه ، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمئة ألف درهم ، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاريّ مئة ألف درهم .. جعل أبو ذَرٍّ يقول : بشّرِ الكانزين بعذابٍ أليم . ويتلو قول الله عزَّ وجلَّ : ( ... وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( 1 ) . فرفع ذلك مروانٌ بن الحكم إلى عثمان ، فأرسل إلى أبي ذَرٍّ ( ناتلاً ) مولاه أنْ انتهِ عمَّا يبلغني عنك ، فقال : أَيَنْهاني عثمانٌ عن قراءة كتاب الله ! وعيب مَن ترك أمرَ الله ؟! فواللهِ ، لَئن أُرضي اللهَ بسخط عثمان أحبُّ إليَّ وخيرٌ لي مِن أنْ أُسخط الله برضاه . فأغضب عثمانَ ذلك وأحفظه ، فتصابر وكفَّ .

وقال عثمانُ يوماً : أيجوز للإمام أنْ يأخذ مِن المال ، فإذا أيسر قضى ؟ فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك . فقال أبو ذَرٍّ : يا ابن اليهوديَّينِ ، أتُعلِّمُنا دينَنا ؟! فقال عثمان : ما أكثرَ أَذاك لي وأوْلَعك بأصحابي ! الحقْ بمكتبك . وكان مكتبه بالشام إلاَّ أنَّه كان يَقدِم حاجَّاً ويسأل عثمانَ الإذنَ له في مجاورة قبر رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) فيأذن له في ذلك . وإنَّما صار مكتبه بالشام لأنَّه قال لعثمان حين رأى البناءَ قد بلغ سَلْعاً : إنِّي سمعت رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) يقول : ( إذا بلغ البناءُ سَلْعاً فالهرب .. ) فأْذَنْ لي آتي الشامَ فأغزو هناك . فأذِن له .

ـــــــــــــــــــــ

1 ـ التوبة : 34 .


الصفحة 91

وكان أبو ذَرٍّ يُنكر على معاوية أشياءَ يفعلها ، وبعث إليه معاوية بثلاثمئة دينار ، فقال أبو ذرّ : إنْ كانت مِن عطائيَ الذي حَرَمْتُمونيهِ عامي هذا قبلتُها ، وإنْ كانت صلةً فلا حاجة لي فيها .

وبنى معاويةُ ( قصر الخضراء ) بدمشق ، فقال له أبو ذرٍّ : يا معاوية ، إنْ كانت هذه الدار مِن مال الله ، فهي خيانة .. وإنْ كانت مِن مالك ، فهذا الإسراف . فسكت معاوية .

وكان أبو ذرٍّ يقول : واللهِ ، لقد حدثتْ أعمال ما أعرفها . واللهِ ، ما هي في كتابِ اللهِ ولا سُنَّة نبيِّه . واللهِ ، إنِّي لأرى حقَّاً يُطفأ ، وباطلاً يُحيى ، وصادقاً يُكذَّب ، وأثَرَةً بغير تُقى ، وصالحاً مُستأثَراً عليه . فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية : إنَّ أبا ذرّ مُفسدٌ عليك الشام ، فتداركْ أهله إنْ كانت لكم به حاجة . فكتب معاوية إلى عثمان فيه . فكتب عثمان إلى معاوية : أمَّا بعد ، فاحمل جندباً ـ أي : أبا ذَرٍّ ـ إليَّ على أغلظِ مركبٍ و أوعره . فوجَّه معاوية مَن سار به الليلَ والنهار ، فلمَّا قَدِم أبو ذرٍّ المدينة جعل يقول : تَستعمل الصبيانَ وتحمي الحمى ، وتُقرِّب أولاد الطلقاء ؟!

فبعث إليه عثمان : الحقْ بأيِّ أرضٍ شئت . فقال : بمَكَّة . قال : لا . قال : فبيت المَقْدس . قال : لا . قال : فبأحَدِ المصرين ( 1 ) . قال : لا ، ولكنِّي مُسيِّرُك إلى الرَّبذة .

ـــــــــــــــــــــ

1 ـ أي : إمَّا مصر أو البصرة .


الصفحة 92

فسيَّره إليها .. فلم يزل بها حتَّى مات ( 1 ) .

وقد ذكر القصَّة بأنحاء مُختلفة : الواقديّ ، والمسعوديّ ، والبخاريّ في صحيحه ، وابن حجر في ( فتح الباري ) ، وغيرهم .

وقد فصَّل فيها ابن أبي الحديد ، حتَّى ذكر أنَّ أبا ذرٍّ لما نُفي إلى الربذة ودَّعه أميرُ المؤمنين عليّ ( عليه السلام ) فقال له : ( يا أبا ذرٍّ ، إنّك غضبتَ لله .. إنَّ القومَ خافوك على دنياهم ، وخِفتَهم على دينك ، فامتحنوك بالقَلى ونفوك إلى الفَلا . واللهِ ، لو كانت السماواتُ والأرض على عبد رَتْقاً ثمَّ اتَّقى اللهَ لجعل له منها مخرجاً . يا أبا ذرّ ، لا يؤنسنَّكَ إلاَّ الحقُّ ، ولا يوحشنَّك إلاَّ الباطل ) .

ثمَّ قال لأصحابه : ( ودِّعوا عمَّكم ) ، وقال لعقيل : ( ودِّع أخاك ) . فتكلَّم عقيل وقال : ما عسى ما نقول ـ يا أبا ذرٍّ ـ ؟! وأنت تعلم أنَّا نُحبُّك وأنت تُحبُّنا ، فاتَّقِ الله فإنَّ التقوى نجاة ، واصبر فإنَّ الصبر كرم ، واعلم أنَّ استثقالك الصبرَ مِن الجزع ، واستبطاءَك العافيةَ مِن اليأس ، فدَعِ اليأسَ والجزع .

ثمَّ تكلَّم الحسن فقال : ( يا عمَّاه ، لو لا أنَّه لا ينبغي للمودِّع أنْ يسكت ، وللمُشيِّع أنْ ينصرف .. لَقَصُر الكلام وإنْ طال الأسف . وقد أتى مِن القوم إليك ما ترى ، فضَعْ عنك الدنيا بتذكُّر فراغها ، وشِدَّة

ــــــــــــــــــ

1 ـ عن الغدير 8: 292 .  


الصفحة 93

ما اشتدَّ منها برجاءِ ما بَعدها ، واصبر حتَّى تلقى نبيَّك ( صلَّى الله عليه وآله ) وهو عنك راضٍ ) .

ثمَّ تكلّم الحسين ( عليه السلام ) فقال : ( يا عمَّاه ، إنَّ الله تعالى قادر أنْ يُغيِّر ما ترى . اللهُ كلَّ يوم في شأن ، وقد منعك القومُ دنياهم ومنعتَهم دينَك ، فما أغناكَ عمَّا منعوك ، وأحوجَهم إلى ما منعتَهم ! فاسألِ الله الصبر والنصر ، واستعِذْ بِه مِن الجَشَع والجَزع لا يؤخِّر أجَلاً ) .

ثمَّ تكلَّم عمّار مُغضباً فقال : لا آنسَ مَن أوحشك ، ولا آمَنَ مَنْ أخافك . أمَا والله .. لو أردتَ دنياهم لأمَّنُوك ، ولو رضيتَ أعمالَهم لأحبُّوك ، وما منعَ الناس أنْ يقولوا بقولك إلاَّ الرضى بالدنيا والجزعُ مِن الموت ، ومالوا إلى ما سلطانُ جماعتهم عليه . والمُلْك لمَن غلب ، فوهبوا لهم دينهم ، ومنحهمُ القومُ دنياهم ، فخسروا الدنيا والآخرة ، ألا ذلك الخُسران المُبين .

فبكى أبو ذرٍّ ( رحمه الله ) ـ وكان شيخاً كبيراً ـ وقال : رحِمَكمُ اللهُ ـ يا أهلَ بيت الرحمة ـ ! إذا رأيتُكم ذكرتُ بكم رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) .. مالي بالمدينة سكَنٌ ولا شجنٌ غيركم . إنِّي ثقلتُ على عثمان بالحجاز كما ثقلتُ على معاوية بالشام ، وكرِهَ أنْ أُجاورَ أخاه وابن خالهِ بالمصرَين ( 1 ) ،

ـــــــــــــــــ

1 ـ كان على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان مِن الرضاعة ، وعلى البصرة عبد الله بن عامر ابن خال عثمان .


 الصفحة 94

فأُفسدَ الناسَ عليهما ، فسَيَّرني إلى بلدٍ ليس لي به ناصرٌ ولا دافعٌ إلاَّ الله . واللهِ ، ما أُريد إلاَّ اللهَ صاحباً ، وما أخشى مع الله وحشة ( 1 ) .

هذا أثر مِن آثار معاوية ومعاويةُ والٍ على الشام بتثبيتٍ مِن عثمان .. فإذا قُتِل عثمان أشاع معاوية الإرهاب ، وشدَّد على مُحبِّي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حتَّى كتب إلى أحد قادة جيوشه : فاقتلْ كلَّ مَن لقِيتَه مِمَّن ليس هو على مثْلِ رأيك ، واضربْ كلَّ ما مررتَ به مِن القرى ، وأَحرِبِ الأموال .. فإنَّ حرَبَ الأموال شبيه بالقتل ، وهو أوجع للقلب ( 2 ) .

وكتب إلى ولاته في جميع الأمصار : انظروا مَن قامت عليه البيِّنةُ أنَّه يُحبُّ عليَّاُ وأهلَ بيته فامحُوه مِن الديوان ، وأسقطوا عطاءَه ورزقَه ( 3 ) .. وفي كتاب آخر جاء فيه : مَنِ اتَّهمتُموه بموالاة هؤلاءِ القوم فنكِّلُوا به واهدموا دارَه ( 4 ) .

والآن .. دعونا ننظر إلى الصورة التي يُصوِّرها لنا الإمام الباقر ( عليه السلام ) ؛ ليعكس لنا حال الأُمَّة في عهد معاوية :

( .. فقُتِلت شيعتُنا بكلِّ بلدة ، وقُطعت الأيدي والأرجل على الظنَّة ،

ـــــــــــــــ

1 ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد2: 375ـ 387 .

2 ـ شرح نهج البلاغة 2: 86 .

3 ـ شرح نهج البلاغة 11: 45 .

 4 ـ شرح نهج البلاغة 11: 45 .


الصفحة 95

وكلُّ مَن يُذكر بحُبِّنا والانقطاع إلينا سُجن ، أو نُهب ماله ، أو هُدِمت داره . ثمَّ لم يزل البلاء يشتدُّ ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين [ عليه السلام ] ) ( 1 ) .

وسُرقت الأموال ووزِّعت على أنصار معاوية ، واشتُرِيت بها الضمائر الرخيصة والنفوس الضعيفة والأهواء المُبتذلة ، وحُورِب الدين بشريعته وأنصارها حرباً شعواء .

وهل وقف الأمر إلى هذا الحدّ ؟! لا والله !

فقد سَنَّ معاوية سبَّ أمير المؤمنين علي ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) على المنابر جهاراً نهاراً في صلوات الجمعة ، حتَّى استمرَّ ذلك ثمانين سنةً تقريباً في مُدن البلاد الإسلاميَّة ـ كما يذكر السيوطيّ في تاريخ الخُلفاء مُبيِّناً : ـ وكان في الدولة الإسلاميَّة سبعون ألفَ مِنبرٍ يُشتَم عليها عليُّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) .

وكمْ يعترض البعض على انتقاد صحابيّ في مسألة خلافيَّة ، فيُحتَجُّ له بألف حُجَّةٍ وحُجَّة ، وتُقام له الدنيا ولا تُقعد ؛ لأنَّ الصحابة كالنجوم ، كلُّهم قدوة وأُسوة ! ولكنَّ الإمامَ عليَّاً ( عليه السلام ) يُسَبُّ ثمانين عاماً ثمَّ يُسدل على ذلك ستار أسود ، وتُطوى سجلاَّت هذه الجريمة العظمى والكارثة الكبرى ، ويُـقال بعد كلمة ( معاوية ) : رضي الله عنه وأرضاه . ألم يكنِ الإمام عليٌّ ( عليه السلام ) مِن الصحابة ؟! ألم يكن

ـــــــــــــــــــ

1 ـ شرح نهج البلاغة 11: 43 .


الصفحة 96

خليفة المسلمين ؟! ألم يُسَلَّم عليه يوم الغدير بإمرة المؤمنين ؟! فكيف سُكِت ويُسكَت على لعنه ثمانين سنة ، وعلى أكثر مِن سبعين ألف منبر في حواضر البلاد الإسلاميَّة ؟! ( 1 ) .

إنَّها الخيانة المتوارَثة ! والتسالم على بُغض النبيّ وأهل بيته ( صلَّى الله عليه وآله ) ، وقد رُوي مِن طريق السُّنَّة ـ فضلاً عن الشيعة ـ .. أنَّ الرسول الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله ) قد قال : ( يا عليّ ، مَن قتلَك فقد قتلني ، ومَن أبغضك فقد أبغضني ، ومَن سبَّك فقد سبَّني ؛ لأنَّك منِّي كنفسي .. روحك مِن روحي ، وطينتُك مِن طينتي . وإنَّ الله تبارك وتعالى خلقني وخلقك مِن نوره ، واصطفاني واصطفاك .. فاختارني للنبوَّة ، واختارك للإمامة ، فمَن أنكر إمامتَك فقد أنكر نبوَّتي .. ) ( 2 ) .

ومعاوية قد اتَّخذ سبَّ الإمام عليّ ( عليه السلام ) سُنَّةً على منابر الجمعة والعيدَين . ورُبَّ مُتسائل مُستغرب : أين مصادر هذه الجناية ؟! فرُبَّما لصقها أعداء معاوية بمعاوية ؟!

نعم .. ( ربَّما ) ، إذا كان الأمر يتعلَّق بكرامة معاوية ! ولكنْ دعونا نُقلِّب هذه الصفحات : ص 120 مِن الجزء 7 مِن صحيح مسلم . وص 171 مِن الجزء 13 مِن صحيح الترمذيّ . وص 109 مِن الجزء 3 مِن مُستدرك الصحيحين ـ للحاكم . وص 61 ، مِن الجزء الأوَّل مِن

ـــــــــــــــــــ

1 ـ كما ذكر ذلك الزمخشري مُفصَّلاً في ( ربيع الأبرار ) .

2 ـ ينابيع المودَّة ، للشيخ سليمان القندوزيّ الحنفيّ 1 : 53 .  


الصفحة 97

مروج الذهب ـ للمسعودي . وص 12 مِن تذكرة خواصِّ الأُمَّة ـ لسبط ابن الجوزي .

ولو كان معاوية بريئاً مِن هذه الجناية فلماذا لم يَنْهَ عنها ؟! بلْ لماذا أمرَ عقيلاً أنْ يلعن عليَّاً ، فلعنَ عقيلُ معاوية ـ كما جاء في العِقد الفريد لابن عبد ربَّه 2: 144 . والمُستطرف للأبشيهيّ 1: 45 ـ ؟! ولماذا دعا عبيدَ الله بن عمر ـ لمَّا قدِم إلى الشام ـ أنْ يشتم عليَّاً فتحرَّج ـ كما بيَّن ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صِفِّين 1: 92 ، وابن أبي الحديد في شرح النهج 1: 256 ـ ؟! ولماذا اعترض أنس على سَبِّ عليّ ( صلوات الله عليه ) كما بيَّن شهر بن حوشب ، وذكره ابن الأثير في أُسد الغابة 1: 134 ـ ؟! ولماذا نصح الأحنفُ بن قيس معاويةَ أنْ يترك لعن عليٍّ بعد شهادته ، فأصرَّ معاويةُ على أنْ يقوم الأحنف هو نفسه فيلعن ـ كما جاء في العِقد الفريد 2: 144 ، والمُستطرف 1: 54 ـ ؟! ولماذا اشترط الإمام الحسن ( عليه السلام ) في وثيقة الصلح مع معاوية ألا يَشتُم عليّاً ، فلم يُجب معاوية إلى الكفِّ عن شتم عليّ ، فطلب الحسن ألا يُشْتَمَ عليٌّ وهو يسمع ، فأجابه معاوية إلى ذلك ثمَّ لم يفِ به ـ كما ورد في تاريخ الطبري 6: 92 ، والكامل في التاريخ لابن الأثير 3: 175 ، وتاريخ ابن كثير 8: 14 ، وتذكرة خواصِّ الأُمَّة: 113 ، والإتحاف بحُبِّ الأشراف للشبراويّ : 36 ؟!

وماذا يقول المُتسائل إذا أخبره الطبريّ في تاريخه 6: 96 ، وابن


الصفحة 98

الأثير في الكامل 3: 179 ، وأحمد بن حنبل في مُسنده 1: 188 ، والحاكم في مُستدركه 1: 385 ، وابن أبي الحديد في شرحه 1: 360 ، والسيوطيّ في تاريخ الخُلفاء : 127 ، وابن حجر في الصواعق المُحرِقة : 33 ، وغيرهم أنَّ عمَّال معاوية ، ومنهم : بسر بن أرطأة في البصرة ، وكُثير بن شهاب في الريّ ، والمغيرة بن شعبة في الكوفة ، ومروان بن الحكم في المدينة.. وغيرُهم ، أنَّهم كانوا يشتمون عليَّاً على منابر الجُمعات والأعياد ؟!

ولماذا لمَّا قُـتِل الإمام الحسن ( عليه السلام ) حجَّ معاوية ، فدخل المدينة وأراد أنْ يلعن عليَّاً ( عليه السلام ) على منبر رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) قيل له : إنَّ سعداً لا يرضى ، فأمسك ، ثمَّ لمَّا مات سعد لعن عليَّاً على المنبر وكتب إلى عمَّاله أنْ يلعنوه على المنابر ، ففعلوا .. فكتبت أُمُّ سلَمة زوجة النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) إلى معاوية : إنَّكم تلعنون الله ورسولَه على منابركم ؛ وذلك أنَّكم تلعنون عليَّ بن أبي طالب ومَن أحبَّه ، وأنا أشهد أنَّ اللهَ أحبَّه ورسولَه ، فلم يلتفت معاوية إلى كلامها ؟! ( 1 )

وبعد .. فقد كان في سيرة معاوية نقض العهود ، ونكث المواثيق ، والغدر والخيانة ، ولا أدلَّ مِن تمزيقه مُعاهدة الصلح مع الإمام الحسن ( عليه السلام ) والإخلال بشروطها مِن أوَّل يوم . قال أبو إسحاق

ـــــــــــــــــ

1 ـ يُراجَع تفصيل ذلك في : العِقد الفريد 2: 301 .


الصفحة 99

السبيعي : إنَّ معاوية قال في خُطبته بالنُخيلة : ألا إنَّ كلَّ شيءٍ أعطيتُه الحسنَ بنَ عليِّ تحت قدمَيَّ هاتين .. لا أفي به ( 1 ) . قال أبو إسحاق : وكان معاوية ـ والله ـ غدَّاراً ( 2 ) .

وكيف لا ؟! وقد بيَّن له الإمام الحسن ( عليه السلام ) في جملةٍ مِن مثالب معاوية في محضره حتَّى قال له :

( .. ومنها : أنَّ عمر بن الخطّاب ولاَّك الشامَ فخنتَ به ، وولاَّك عثمانُ فتربَّصتَ به ريبَ المنون . ثمَّ أعظم مِن ذلك جُرأتُك على الله ورسوله أنَّك قاتلت عليَّاً ( عليه السلام ) ، وقد عرَفتَه وعرفتَ سوابقَه وفضلَه ، وعلمَه على أمرٍ هو أولى به منك ومِن غيرك عند الله وعند الناس ، ولآذيتَه بلْ أوطأتَ الناس عَشْوَة ، وأرقتَ دماءَ خلْقٍ مِن خلْقِ الله بخُدعك وكيدِك وتمويهِك ، فِعْلَ مَن لا يؤمنُ بالمَعاد ، ولا يخشى العقاب ، فلمَّا بلغ الكتابُ أجَلَه صرتَ إلى شرِّ مَثْوى ، وعليٌّ إلى خير مُنقلَب ، واللهُ لك بالمُرصاد .. ) ( 3 ) .

ولم يسلم منه المسلمون ، حتَّى مَن كان آمناً في حرم الله ( مكَّة ) ، فقد أمر معاوية بالإغارة عليها ، وهي البلد الآمن والحرم الآمن ـ كما جاء في كتاب الله تعالى ـ : ( ... أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً يُجْبَى

ــــــــــــــــــ

1 ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 4: 16 .

2 ـ يُراجَع : المُختصر في أخبار البشر ، لإسماعيل بن عليّ بن محمّد المعروف بـ ( أبي الفداء ).

3 ـ الاحتجاج : 275 .  


الصفحة 100

إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ...) ؟ ( 1 ) ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آَمِناً ... ) ؟ ( 2 ) ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً ... ) ( 3 ) . وقد روَّوا أنَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) قال : ( إنَّ هذا بلد حرم الله يومَ خلقَ السمواتِ والأرض ، وهو حرام بحُرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنَّه لم يحلَّ القتال فيه لأحدٍ قبلي .. ) ( 4 ) .

وفي المدينة المنوَّرة الطيِّبة قال المُصطفى ( صلَّى الله عليه وآله ) ـ كما روَوا ـ : ( المدينة حرمٌ بين عِير إلى ثور ، مَن أحدث فيها حدثاً ـ أيْ : إثماً أو قتلاً ـ أو آوى مُحدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . لا يُقبَل منه صَرْف ولا عمل . ذِمَّة المسلمين واحدة ، فمَن أخفر مسلماً ـ أيْ : غدر به ـ فعليه لعنة الله والملائكةِ والناس أجمعين ، لا يُقبَل منه صَرْف ولا عدل ) ( 5 ) .

ولكنَّ معاوية بن هند أمر بالاستحواذ على المدينة المنوَّرة ، وإخافةِ أهلها والوقيعة فيهم واستقراء مَن يوجد فيها مِن شيعة الإمام عليّ ( عليه السلام ) ( 6 ) .

ـــــــــــــــــــ

1 ـ القصص : 57 .

2 ـ العنكبوت :67 .

3 ـ البقرة : 125 .

4 ـ صحيح البخاريّ 3 : 168 ـ باب لا يحلُّ القتال بمَكَّة  . وصحيح مسلم 4: 109 .

5 ـ صحيح البخاريّ 3: 179 ، وصحيح مسلم 4: 114... ، ومُسند أحمد 1: 81 و 2: 450 ، وسُنَن البيهقي 5: 196 ، وسُنَن أبي داود 1: 318 .

6 ـ يُراجَع : الغدير 11: 34 .


الصفحة 101

ولمَّا سيطر معاوية على زمام الأُمور ومقاليد الحكم قيل له : لو سكنتَ المدينة ، فهي دار الهجرة وبها قبر النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) . فقال : قد ضللتُ إذاً وما أنا مِن المُهتدين ( 1 ) .

ثمَّ جاء يزيدُ ابنُه مِن بعدُ فهتكها في واقعة الحَرّة ـ كما سيأتي ـ .

معاوية في الحديث النبوي :

وأخيراً .. مع بعض النصوص الصريحة في معاوية  ، نختار غيضاً مِن فيض ؛ لتستريح النفوس وتهدأ الضمائر :

* عن عبد الله بن عمر قال : خرج رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) مِن فَجٍّ ، فنظر إلى أبي سفيان وهو راكب ، ومعاويةُ وأخوه أحدهما قائد ، والآخر سائق ، فلمَّا نظر إليهم رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) قال : ( اللَّهمَّ ، العنِ القائدَ والسائق والركب ) . قيل لابن عمر : أنت سمعتَ رسولَ الله ؟! قال : نعم ، وإلاَّ فصُمَّتا أُذُناي كما عميتا عيناي ( 2 ) .

* أخرج محمّد بن جرير الطبريّ ( 3 ) : أنَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) قال : ( يطلع مِن هذا الفَجِّ رجلٌ مِن أُمَّتي ، يُحشَر على غير مِلَّتي ) . فطلع معاوية .

ــــــــــــــــــ

1 ـ المناقب والمثالب ، للقاضي نعمان المصري : 70 .

2 ـ كتاب وقعة صِفِّين: 247 ، وتاريخ الطبري 11: 357 . وتذكرة خواصِّ الأمَّة :115 . وجمهرة خطب العرب 1 : 428 . وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 :102 .

3 ـ في تاريخه 11: 357 .


الصفحة 102

* وأخرج البلاذري ( 1 ) ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : كنتُ جالساً عند النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) فقال : ( يطلع عليكم مِن هذا الفَجِّ رجل يموت ـ يوم يموت ـ على غير مِلَّتي ) . قال : وتركتُ أبي يلبس ثيابه ، فخشيتُ أنْ يطلع ، فطلع معاوية .

* وكتب ابن أبي الحديد المُعتزلي : روى ابن ديزيل عن عبد الله بن عمر ، عن زيد بن الحُباب ، عن علاء بن جرير العنبري ، عن الحكم بن عمير الثُّمالي ـ وكانت أُمُّه بنت أبي سفيان بن حرب ـ قال : قال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) لأصحابه ذات يوم ...

ثمّ قال : ( يا معاوية ، كيف بك إذا وُلِّيت ؟! ) ، قال : الله ورسوله أعلم . فقال : ( أنت رأس الحُطْم ، ومفتاحُ الظُّلْم ، حَصَباً وحَقباً ، تتَّخذ الحسَنَ قبيحاً ، والسَّيِّئةَ حَسنة ، يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، أجَلُك يسير ، وظلمك عظيم ! ) ( 2 ) .

* وقال البراء بن عازب : أقبل أبو سفيان ومعه معاوية ، فقال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( اللَّهمَّ ، العنْ التابعَ والمتبوع .. اللَّهمَّ ، عليك بالأُقيعس ) . فقال ابن البراء لأبيه : مَن الأُقيعس ؟ قال : معاوية ( 3 ) .

والأُقيعس : الرجل الذي أخرج صدره ، ولعلّه كناية عن التكبّر .

ــــــــــــــــــ

1 ـ أنساب الأشراف ـ الجزء الأوَّل .

2 ـ شرح نهج البلاغة 3: 97.. والحُطم : الأكول الذي لا يشبع .

3 ـ كتاب وقعة صِفِّين : 244 .


الصفحة 103

* ودعا النبيّ الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) على معاوية وعمرو بن العاص فقال ـ وقد رفع يديه ـ : ( اللَّهمَّ أركِسْهما رَكْساً ، ودُعَّهُما إلى النار دَعَّاً ) ( 1 ) .

* وقال ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( إنَّ معاوية في تابوت مِن نار في أسفل دركٍ منها .. ) ( 2 ) .

وعند الصحابة :

وأمَّا الصحابة .. فقد سمَّاه أبو أيُّوب الأنصاري كهف المنافقين ( 3 ) ، وقال له قيس بن سعد بن عبادة : فإنَّما أنت وثنٌ ابنُ وَثن ، دخلتَ في الإسلام كرهاً ، وخرجت منه طوعاً .

وذمَّه محمَّد بن أبي بكر في كُتبٍ له عديدة ( 4 ) .

وقال له معن بن يزيد بن الأخنس السلميّ ـ الصحابيّ الذي شهد بدراً ـ : ما ولدت قرشيَّة مِن قرشيِّ شَرَّاً منك ( 5 ) .

هذا فضلاً عمَّا جاء في مصادر المسلمين ، مِن كتب وكلمات للإمام عليّ ( عليه السلام ) وولديه الحسن والحسين ( عليهما السلام ) في ذَمِّ معاوية وبيان مثالبه وجرائمه النكراء في هذا الدين وهذه الأُمَّة ( 6 ) .

ــــــــــــــــــ

1 ـ مسندُ أحمد بن حنبل 4: 421 ، وقعة صِفِّين: 246 .

2 ـ تاريخ الطبريّ 11: 357 .

3 ـ شرح نهج البلاغة 2: 280 .

4 ـ مروج الذهب 2: 59 ، جمهرة رسائل العرب 1: 542 .

5 ـ الإصابة 3: 450 .

6 ـ على سبيل المثال : شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 4: 6 ، 16 ، والإمامة والسياسة ، لابن قتيبة الدينوريّ 1: 131 ، ونهج البلاغة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولا بأس بمُراجعة الغدير 10 : 149 ـ 177 .


الصفحة 104

واختصاراً للمسافة وتجنّباً للعناء ننصح بمراجعة كتاب (السبعة من السلف) للسيّد مرتضى الفيروزآباديّ من ص183 إلى ص223، فهناك نجد ما يدهش من كتب أهل السنّة فيما جاء من شؤون معاوية.

وأمّا ما كتبه الكاتب المصريّ المعروف (محمود أبو ريّة)، فيحمل حقائقَ تنسجم مع الإنصاف كثيراً، حيث جاء في كتابه ((شيخ المُضيرة أبو هريرة الدوسيّ)) قولُه تحت عنوان: معاوية بن أبي سفيان:

ومعاويةُ مطعون في دينه، وقد كان في الجاهليّة زنديقاً، وأصبح في الإسلام طليقاً(1). ((وقد وَرِث عن أبيه قوّتَه وقسوته، وكيدَه ودهاءه، ومرونته كذلك! ولم تكنْ أمّ معاوية بأقلَّ من أبيه تنكّراً للإسلام وبغضاً لأهله وحفيظةً عليه(2)، وهم قد وتروها يوم بدر، فثأر لها المشركون يومَ أُحُد، ولكنّ ضغنها لم يهدأ وحفيظتها لم تسكن حتّى فُتِحت مكّة، فأسلمَتْ كارهةً كما أسلم زوجها

ــــــــــــــــــــــ

والسياسة، لابن قتيبة الدينوريّ 1: 131 و 153، ونهج البلاغة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في مواضع عديدة، ولا بأس بمراجعة الغدير 10: 149 ـ 177.

(1) أي ممّن أطلقهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعد فتحه مكّة، وهم لاحقّ لهم في الحكم والزعامة؛ لأنّهم طلقاء!

(2) الحفيظة هي: الغضب، والحميّة.


الصفحة 105

كارهاً!))(1)، وكما أسلم ابنها معاوية. وهند هذه.. هي التي أغرتْ وحشيّاً بحمزة عمِّ النبيّ حتّى قتله، ثمّ أعتقته، ولمّا قُتِل حمزة بقرت بطنه ولاكتْ كبِدَه، وفعلت فعلاتها بجثّته!

وإذا كان معاوية قد ورث بغضَ عليٍّ عن آبائه، فإنّ هناك أسباباً أخرى تسعر من نار هذا البغض، منها أنّ عليّاً قتل أخاه حنظلة يوم بدر، وخاله الوليد بن عُتبة، وغيرهما كثيرين من أعيان وأماثل عبد شمس. ومن أجل ذلك كان معاوية أشدَّ الناس عداوةً لعليّ، يتربّص به الدوائر دائماً، ولا يفتأ يسعى في الكيد له سرّاً وعلانية، قولاً وعملاً.

معاوية وحروب الجمل:

وقد انتهز معاوية فرصة حروب الجمل، فأخذ يحرّض طلحةَ والزبير وعائشة ويُظاهرُهم، حتّى إذا انتهت هذه الحرب بهزيمة مَن أثاروها، أشعل الحربَ بينه وبين عليٍّ في صٍِفّين وغيرها، ثمّ انتهى الأمر بقتل عليٍّ بمؤامرة. ولا ننسى أنّه لم يبايع عليّاً عندما بُويع له ـ كما بايع كلُّ الولاة ـ وخرج عليه.

انصراف معاوية إلى أولاد عليّ بعد قتل أبيهم:

ولم يُشبع نهم الحقد الأُمويّ قتلُ هذا الإمام العظيم، بل صرف معاويةُ كيدَه وبغيه أوّل الأمر إلى الحسن (رضي الله عنه)، الذي كان (معاويةُ)

ــــــــــــــــــــــ

(1) عليّ وبنوه لطه حسين: 61.


الصفحة 106

يُزاحمه بحقِّه في الخلافة ، وما زال يراوغه بكيده ، حتَّى تخلَّص منه بالسمِّ (1).

ومات معاوية قبل أن يُلحِق الحسينَ بأخيه الحسن، وهما ريحانتا النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وترك ذلك لابنه يزيد!)(2).

 

ــــــــــــــــــ

( 1) سمَّته امرأته جعدة بنت الأشعث بتدسيس معاوية ، وكان وعدها بأنْ يزوِّجها مِن يزيد ( الاستيعاب لابن عبد البر 1 : 143 ) ( منه ) .

( 2 ) شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي ، بقلم محمود أبو ريَّة : 157 ـ 158 .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net