متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
6 - بداية الانحراف وبعض المشاكل التي واجهت أمير المؤمنين (ع)
الكتاب : أهل البیت تنوع أدوار و وحدة هدف    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

6 - بداية الانحراف وبعض المشاكل التي واجهت أمير المؤمنين (ع)

 

أن المتسلم للقيادة الفعلية، المتسلم لزمام التجربة بعد النبي (ص) مباشرة كان من المحتوم أن يجنح الى الانحراف، لأنه كان يعيش رواسب جاهلية، وبالتالي لم يكن يُمثل الدرجة الكاملة للإِنصهار مع الرسالة، هذه الدرجة التي هي شرط اساسي لتزعم هذه التجربة، وهي التي يمكن أن تفسّر موقف الشيعة من اشتراطهم العصمة لقيادة هذه التجربة.

الفكرة في هذا الحديث تقوم على هذا الاساس، على أساس أن قيادة التجربة، يجب أن تكون على مستوى العبء، وهذا في الواقع ليس من مختصات الشيعة، ليس من مختصات الشيعة الايمان، بأن الامام يجب ان يكون معصوماً، بل هذا ما تؤمن به كل الاتجاهات العقائدية في العالم على الاطلاق.

أي إتجاه عقائدي في العالم، يريد أن يبني الانسان من جديد في إطاره، ويريد ان ينشئ للانسانية معالم جديدة، فكرية وروحية واجتماعية، يشترط لأن ينجح، وأن ينجز وان يأخذ مجراه في خط التاريخ، يشترط أن يكون القائد الذي يمارس تطبيق هذا الاتجاه، معصوماً...

فالقائد في نظر الماركسية مثلاً بوصفها اتجاهاً عقائدياً، يريد ان يبني ويصنع الانسان، ويبلوره في إطاره الخاص، يشترط فيه ان يكون معصوماً.

إلا أن مقاييس العصمة تختلف.

الاتجاه الماركسي يجب أن يكون القائد الذي يمارس تطبيقه معصوماً


{ 74 }

بمقاييس ماركسية، والقائد الذي يمارس زعامة التجربة الاسلامية، يجب أن يكون معصوماً بمقاييس إسلامية، والعصمة في الحالتين بمفهوم واحد، هو عبارة عن الانفعال الكامل بالرسالة، والتجسيد الكامل لكل معطيات تلك الرسالة، في النطاقات الروحية والفكرية والعملية.

هذه هي العصمة.

والشيعة لم يشذوا بإشتراط العصمة في الامام، عن أي اتجاه عقائدي آخر، ولهذا نرى في الاتجاهات العقائدية الاخرى، كثيراً ما يتهم القائد الذي يمثل الاتجاه، بأنه ليس معصوماً، يوجه اليه نفس التهمة، التي نوجهها نحن المسلمون الواعون، أصحاب علي بن ابي طالب (ع) الى الخلفاء الذين تولوا الخلافة بعد رسول اللّه (ص).

نفس هذه التهمد يوجهونها الى القادة الذين يعتقدون بأنهم لم ينصهروا بأطروحاتهم ولم يتفاعلوا باتجاهاتها تفاعلاً كاملاً.

بالأمس القريب جزء كبير من الماركسية في العالم إنشطر على قيادة الاتحاد السوفيتي، وإتهم القيادة التي كان متمثلة في حكام روسيا، بأنهم أناس غير مهيئين لأن يكونوا قادة للتجربة الماركسية، يعني غير معصومين بحسب لغتنا.

إلا أن نفي العصمة عنهم بمقاييس ماركسية لا بمقاييسنا الخاصة، لا بمقاييس إسلامية.

فأصل الفكرة، تؤمن به كل الاتجاهات العقائدية، وإنما المقياس للعصمة يختلف بإختلاف طبيعة هذه الاتجاهات العقائدية.

نعم، العصمة في الاسلام، ذات صيغة اوسع نطاقاً من العصمة في الاتجاهات العقائدية الاخرى، وهذه السعة في صيغة العصمة تنبع من طبيعة سعة الاسلام نفسها، لأن العصمة كما قلنا، هي التفاعل الكامل والانصهار الشامل والتجاوب مع الرسالة في كل أبعاد الاسلام، والرسالة الاسلامية، تختلف عن أي رسالة اخرى في العالم، لأن أي رسالة أخرى في العالم تعالج جانباً واحداً من الانسان، الماركسية التي تمثل أحدث رسالة عقائدية في العالم الحديث تعالج جانباً واحداً من وجود الانسان وتترك الانسان حينما يذهب الى


{ 75 }

بيته، حينما يذهب الانسان الى مخبئه، حينما يخلو الانسان بنفسه، تترك الانسان، ليس لها أي علاقة معه في هذه الميادين، وإنما تأخذ بيده في مجال الصراع السياسي والاقتصادي لا أكثر.

فصيغة الرسالة بطبيعتها صيغة منكمشة محدودة، صيغة تعالج جانباً من الحياة الانسانية، فالعصمة العقائدية التي لا بد ان تتوفر في قائد ماركسي، مثلاً هي العصمة في حدود هذه المنطقة التي تعالجها الرسالة العقائدية الماركسية.

اما الرسالة الاسلامية الي هي رسالة السماء على وجه الأرض فهي تعالج الانسان من كل نواحيه، وتأخذه بيده الى كل مجالاته ولا تفارقه وهو على مخدعه في فراشه وهو في بيته بينه وبين ربه، بينه وبين نفسه، بينه وبين أفراد عائلته، وهو في السوق، وهو في المدرسة، وهو في المجتمع، وهو في السياسة، وهو في الاقصاد، وهو في أي مجال من مجالات حياته، ولهذا تكون الصيغة المحدودة من العصمة على أساس هذه الرسالة أوسع نطاقاً وأرحب افقاً واقسى شروطاً، و أقوى من ناحية مفعولها وامتدادها في كل أبعاد الحياة الانسانية.

فعصمة الامام عبارة عن نزاهة في كل فكرة وكل عاطفة وكل شأن، والنزاهة في كل هذا عبارة عن انصهار كامل مع مفاهيم واحكام الرسالة الاسلامية، في كل مجالات هذه الافكار والعواطف والشؤون.

هذا كان إستطراداً.

إذن فالعصمة التي هي شرط لمجموع الاتجاهات العقائدية، نحن ايضاً نؤمن بها كشرط في هذا الاتجاه.

وبطبيعة الحال فإننا عندما نقول، إن العصمة شرط في هذا الاتجاه، العصمة بحد ذاتها ايضاً ليست أمراً حتمياً غير قابل للزيادة والنقصان، والتشكيك، نفس العصمة اذا حولناها الى مفهوم النزاهة والتجاوب الكامل مع الرسالة فيكون أمراً مقولاً بالتشكيك في الشدة والضعف، وبوصف أن أئمة أهل البيت (ع) المرتبة الاسمى والأكمل من هذه المراتب المقولة بالتشكيك المختلفه شدة وضعفاً.

ومن هنا نأتي الى ما كان موضوع الحديث، موضوع الحديث ان هؤلاء


{ 76 }

الذين تسلموا أمر التجربة بعد النبي (ص) لم يكونوا معصومين حتى بأدنى مراتب العصمة حتى بالحد الأدنى من مراتب النزاهة والتفاعل مع الرسالة الاسلامية، كما أشرنا اليه بالأمس، وحينئذ حيث أن التجربة تجربة تمثل إتجاهاً عقائدياً، واتجاهاً رسالياً، ليس اتجاه أناس يمثلون وجهة نظر معينة في الكون والحياة والمجتمع، يمثلون رسالة لتغيير الحياة على وجه الأرض وتغير التاريخ، إذن هذه التجربة العقائدية الضخمة على هذا المستوى، بحاجة الى قيادة عقائدية معصومة تتوفر فيها فعالية عالية جداً من النزاهة والتجرد والموضوعية والانفعال بمعطيات هذه الرسالة فكيف اذا لم تكن هذه المواصفات موجودة في القيادة؟

قد يقال: إنها كانت موجودة في الامة ككل، والأمة ككل، كانت تمارس المراقبة، وكانت تمارس التوجيه، وكانت تمارس المراقبة للحكم القائم حتى لا ينحرف، الامة ككل كانت معصومة، واذا كانت الامة ككل معصومة، إذن فالعصمة قد حصلنا عليها عن طريق الوجود الكلي للأمة.

إلا أن هذه الفكرة غير صحيحة، نحن نؤمن بأن الأمة في وجودها لم تكن معصومة ايضاً، كما ان الخلفاء الذين تولوا الحكم بعد رسول اللّه (ص)، لم يكن يتوفر لديهم الحد الادنى من النزاهة المطلوبة لزعامة تجربة من هذا القبيل، الأمة بوصفها الكلي وبوجودها المجموعي ايضاً لم تكن معصومة، طبعاً اذا إستثنينا من ذلك الزعامة المعصومة الموجودة في داخل هذه الامة الممثلة في اتجاه أمير المؤمنين (ع)، هذا بالرغم من اننا نعترف ونفتخر، ونمتلئ إعتزازاً بالإيمان بأن الأمة الاسلامية التي أسسها وحرسها النبي (ص) ضربت أروع نموذج للأمة في تاريخ البشرية على الاطلاق، الأمة الاسلامية الي أمكن للنبي (ص) بوقت قصير جداً، في مدة لا تبلغ ربع قرن، أن ينشئ أمة لها من الطاقة والارادة، لها من المؤهلات اللازمة القدر الكبير، الذي لا يمكن أبداً أن يتخيل الانسان الاعتيادي كيف أمكن إيجاده في ربع قرن أو أقل؟ هذه الأمة التي قدمت من التضحيات في أيام النبي (ص) في سبيل رسالتها ما لم تقدم مثله أي أمة من أمم الأنبياء قبل النبي (ص)، هذا التسابق على الجنة، التسابق على الموت، الايثار الذي كان موجوداً بين المسلمين، روح التآخى الذي شاع في المسلمين، المهاجرون والأنصار، كيف


{ 77 }

عاشوا كيف تفاعلوا، كيف انصهروا، انظروا الى أهل بلد واحد ينزح اليهم أهل بلد آخر، فيأتون اليهم ليقاسموهم خيرات بلدهم، ومعاشهم، واموالهم، وهؤلاء يستقبلونهم برحابة صدر، ينطلقون معهم ينظرون اليهم على إنهم اخوة لهم، يعيشون مجتمعاً واحداً وكأنهم كانوا قد عاشوا مئات السنين، هذه الانفتاحات العظيمة في كل ميادين المجتمع التي حققتها الأمة بقيادة الرسول (ص) هذه الانفتاحات، التي لا مثيل لها، بالرغم من كل هذا نقول ان الامة لم تكن معصومة.

إن هذه الانفتاحات كانت قائمة على أساس الطاقة الحرارية التي كانت تمتلكها الأمة من لقاء القائد الأعظم، ولم تكن قائمة على اساس درجة كبيرة من الوعي الحقيقي للرسالة العقائدية. نعم كان الرسول (ص) الأعظم، يمارس عملية توعية الأمة، وعملية الارتفاع بها الى مستوى أمة معصومة، هذه العملية التي كانت مضغوطة، والتي بدأ بها النبي (ص) لم ينجز شيئاً منها في الخط هذا، وإنما الشيء الذي أنجز في هذا الخط، خط عمل النبي (ص) على مستوى الأمة ككل، هو إعطاء هذه الامة طاقة حرارية في الايمان بدرجة كبيرة جداً، مثل هذه الطاقة الحرارية التي تملكها الأمة يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وفي كل لحظة من لحظات انتصارها أو إنكسارها، كانت هي المصدر وهي السبب في كل الانفتاحات العظيمة، روح القائد هي التي تجذب وهي التي تحصد، وهي التي تقود هؤلاء الى المثل العليا والقيم الضخمة الكبيرة التي حددها الرائد الأعظم (ص) بين أيديهم، إذن فهي طاقة حرارية وليست وعياً.

وقلنا أيضاً فيما سبق، إن الطاقة الحرارية والوعي قد يتفاعلان ويتفقان في كثير من الأحيان ولا يمكن ان نقارن في الحالات الاعتيادية بين أمة واعية، وبين أمة تملك طاقة حرارية كبيرة دون درجة كبيرة من الوعي، المظاهر تكون مشتركة في كثير من الأحيان، لكن في منعطفات معينة من حياة هذه الامة في لحظات حاسمة في حياة هذه الأمة، في مواقف حرجة من تاريخ هذه الامة، يتبين الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية، يتبين الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية في لحظات الانفعال الشديد، سواء كان إنفعالاً موافقاً لعملية


{ 78 }

الانتقال، أو انفعالاً معاكساً، لأن الوعي لا يتزعزع في لحظة الانفعال ويبقى صامداً ثابتاً، لا يلين ولا يتميع، وعي الانسان، إيمان الانسان باهدافه ومسؤولياته، فوق كل الانفعالات، فوق كل المشاكل، فوق كل الانتصارات. أي انتصار يحققه الانسان، لا يمكن أن يخلق انفعالاً يزعزع وعيه، إذا كان واعياً وعياً حقيقياً يبقى على الخط، لا يشط ولا يشذ ولا يزيد أو ينقص.

محمد (ص) هذا الرجل العظيم، يدخل الى بيت اللّه الحرام منتصراً في لحظة، لم تزعزع هذه اللحظة من خلقه، لم تخلف فيه نشوة الانتصار، وإنما خلفت فيه ذل العبودية للّه شعر بذل العبودية للّه أكثر مما يشعر بنشوة الانتصار، هذا هو الذي يمثل الوعي العظيم، لكن المسلمين عاشوا نشوة الانتصار، في لحظات عديدة لحظات الصدمة، لحظات المشكلة، لحظات المأساة. الواعي يبقى ثابتاً، يبقى صامداً امام المشكلة لا يتزعزع، لا يلين لا يكف لا يتراخى، يبقى على خطه واضحاً. النبي (ص) لم يكن يبدو منه أي فرق بينه وهو حال دخوله الى مكة فاتحاً، وهو مطرود بالحجارة من قبائل العرب المشركين، يتوجه الى اللّه سبحانه وتعالى يقول له: لا يهمني ما يصنع هؤلاء اذا كنت راضياً عني، نفس الروح الي نجدها في لحظة انقطاعه، في لحظة مواجهته البشرية التي تحمل الوان الشرور، في لحظة تمرد الانسان على هذا الوجه الذي جاء ليصلحه، لم تتبدل حالته في هذه اللحظة وبين حالته، والانسانية تستجيب والانسانية تخضع، والانسانية تطأطئ رأسها بين يدي القائد العظيم (ص) هذا هو الوعي.

أما الأمة لم تكن هكذا، ولا نريد أن نكرر الشواهد مرة أخرى حى يأتي البحث كاملاً اليوم، الشواهد على أن الأمة كانت غير واعية، وإنما هي طاقة حرارية مرت في الأيام السابقة، إذن فالأمة الاسلامية كانت تحمل طاقة حرارية كبيرة، ولم تكن أمة واعية بدرجة كبيرة فلم تكن العصمة متوفرة لا في القيادة، ولا في الأمة بوجودها المجموعي، ومن أجل هذا كان الانحراف حتمياً على النحو الذي بيناه بالأمس، وهكذا بدأ الانحراف بعد النبي (ص)، وقلنا أن الخط الذي بدأه الأئمة (ع) هذا الخط ينحل الى شكلين:

الأول: خط محاولة القضاء على هذا الانحراف بالتجربة، أليست التجربة


{ 79 }

تجربة المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية. هذه التجربة انحرفت بإعطاء زمامها الى أناس لا يؤمنون عليها وعلى مقدراتها، وعلى ممتلكاتها، الخط الأول كان يحاول أخذ هذه التجربة، تسلم زمام التجربة.

الثاني: هو الخط الذي كان يعلمه الأئمة (ع) حتى في الحالات التي كانوا يرون إن ليس في الأمكان السعي وراء تلسم زمام التجربة، وهو خط الضمان لوجود الأمة مسقبلاً.

قلنا إن التجربة حينما انحرفت، كان من المنطقي في تسلسل الاحداث، أن يتعمق هذا الانحراف، ثم يتعمق حتى تنهار التجربة، واذا انهارت التجربة امام أول غزو، امام أول تيار، إذن فسوف لن تحارب عن إسلامها كأمة، فبعد أن تنهار الدولة والحضارة الحاكمة، وسوف تتنازل عن إسلامها بالتدريج لأنها لم تجد في هذا الاسلام المنحرف ما تدافع عنه، إذ ماذا جنوا من هذا الاسلام.

كيف نقدر أن نتصور أن الانسان غير العربي يدافع عن الاسلام الذي يتبنى زعامة العربي لغير العربي؟ كيف يمكن ان نتصور أن الانسان العربي والفارسي يدافع عن كيان يعتبر هذا الكيان هو ملك لأسرة واحدة من قبائل العرب وهي أسرة قريش؟؟ كيف يمكن أن نفرض أن هؤلاء المسلمين يشعرون بأنهم قد وجدوا حقوقهم قد وجدوا كرامتهم، في مجتمع يضج بكل الوان التفاوت والتمييز والاستئثار والاحتكار؟

إذن كانوا قد تنازلوا عن هذا الاسلام حينما تنهار التجربة بعد تعمق الانحراف.

إلا أن الذي جعل الأمة لا تتنازل عن الاسلام، هو أن الاسلام له مثل آخر قدم له، مثل واضح المعالم، أصيل المثل والقيم، أصيل الأهداف والغايات، قدمت هذه الأطروحة من قبل الواعين من المسلمين بزعامة الأئمة(ع) من أهل البيت (ع). ولنعرف مسبقاً قبل أن نأتي الى التفاصيل، ان هذه الأطروحة الي قدمها الأئمة (ع) للاسلام لم تكن تتفاعل فقط مع الشيعة المؤمنين بإمامة أهل البيت (ع) فقط، هذه الأطروحة كان لها صدى كبير في كل العالم الاسلامي فالأئمة (ع) كان لهم أطروحة للاسلام وكانت


{ 80 }

لهم دعوى لإمامة انفسهم، صحيح ان الدعوى لإمامة انفسهم لم يطلبوا لها إلا عدداً ضئيلاً من مجموع الأمة الاسلامية، ولكن الأمة الاسلامية بمجموعها تفاعلت مع هذه الأطروحة، إذن فكان الخط الكبروي للأئمة (ع) هو تقديم الأطروحة الصحيحة للاسلام والنموذج والمخطط الواضح الصحيح الصريح، للاسلام، في كل مجالات الاسلام في المجالات الخاصة والمجالات العامة، في المجالات الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية، والخلقية والعبادية، كانوا يقدمون هذه الأطروحة الواضحة، التي جعلت المسلمين على مر الزمن يسهرون على الاسلام ويقيمونه وينظرون اليه بمنظار آخر غير منظار الواقع الذي يعيشونه، غير مناظر التجربة الفريدة التي يعيشونها.

هذا هو الخط الثاني الذي عمل عليه الأئمة (ع).

والآن، نبدأ بتحليل الموقف عقيب وفاة النبي (ص).

أمير المؤمنين حينما واجه الانحراف في التجربة قام بعملية تعبئة فكرية في صفوف المسلمين الذين يذهب تفكيرهم الى أن هذا الوضع الذي قام الآن جديداً وضع غير طبيعي، وضع منحرف عن الخط الاسلامي، واستعان بهذا السبيل ببنت رسول اللّه (ص) الزهراء (ع) لأجل أن يستثير في نفوس المسلمين عواطفهم ومشاعرهم المرتبطة بأعز شخص يحبونه ويجلّونه، وهو شخص النبي (ص). إلا أنه لم يستطع أن يستثير المسلمين بالدرجة التي تحول مجرى التجربة ويجعل هناك تبدلاً أساسياً في الخط القائم، لم يستطع ذلك، وهذا أمر طبيعي، يعني من الطبيعي أن ينتهي أمير المؤمنين (ع) الى عدم النجاح في القضاء على هذا الانحراف، يكفي لأن نفهم هذا أن نلتفت الى نفس ما أصاب النبي (ص) وهو الرائد الأعظم (ص) لهذه الرسالة من قلق وخوف وارتباك في سبيل تركيز خلافة علي بن أبي طالب (ع)، هذا النبي الذي لم يتلكأ، ولم يتوقف، ولم يتردد عن أي لون من الوان التركيز والعمل في سبيل تلك المهمات، هذا النبي العظيم الذي لم يشعر بالخوف ولم يخفق قلبه بأي لون من الوان الوساوس والشكوك، أو الضعف والانهيار، هذا النبي العظيم، وقف حائراً امام الأمر الالهي في أن يبلّغَ إِمامة علي بن أبي طالب، حيث جاء ما جاء الى النبي (ص) من إنذاره بأن يبلّغ، وإلا فكأنه لم


{ 81 }

يبلّغ الرسالة. هذه الموانع الي كان تمنع النبي (ص) عن تزعم علي بن أبي طالب (ع) للتجربة الاسلامية عميقة قوية واسعة، بدرجة ان النبي (ص) نفسه كان يخشى من أن يعلن عن تشريع هذا الحكم، ليس عن تطبيقه بحسب الخارج بل عن تشريعه واعلانه امام المسلمين.

هذه جهة، والجهة الأخرى، حينما أراد أن يسجل هذا الحكم في كتاب المسلمين الاول مرة في تاريخ النبي (ص).

هذا النبي الذي كان المسلمون يتسابقون الى الماء الذي يتقاطر من وضوئه.

هذا النبي الذي ذهب رسول قريش يقول لهم: إني رأيت كسرى وقيصر وملوك الأرض، فما رأيت رجلاً انجذب اليه جماعته وأصحابه، وآمنوا به، وذابوا بوجوده كما ذاب أصحاب محمد (ص) في محمد.

هؤلاء لا يشعرون بوجودهم امام هذا الرجل العظيم (ص) في مجلس النبي (ص) فيقوم واحد منهم فيقول ما يقول، مما تعلمون، ثم لا يحصل بعد هذا أي رد فعل لهذا الكلام، فالنبي (ص) عندئذ يقول: قوموا عني لا ينبغي الاختلاف في مجلس نبي.

المسألة بهذه الدرجة من العنف، الموانع بهذه الدرجة من الشمول.

يجب أن نعرف ان علياً (ع) لم يكن رئيساً حينما فشل، ولم يكن قاصراً حينما فشل، كل هذا لم يكن، لأن كل هذا غير محتمل في شخص هو قمة النشاط، وقمة الحيوية وقمة الحرص. ومع هذا كله، النبي (ص) واجه هذه المشاكل والصعاب تجاه تشريع هذا الحكم، إذن فموقف الامام (ع) كان حرجاً غاية الحرج تجاه هذه الموانع، اما ما هي صيغة هذه الموانع، هذه الموانع تحتاج الى دراسة مفصلة لنفسية المجتمع الاسلامي في ايام الرسول (ص). فهنالك عوامل كثيرة لها دخل في نسج خيوط هذه الموانع. يمكن ان نذكر بعضها على سبيل المثال.

العامل الأول: التفكير اللاإسلامي من ولاية علي بن ابي طالب (ع)، رسول اللّه (ص) جعل علياً بعده حاكماً على المسلمين، وإماماً للمسلمين


{ 82 }

ككل، المسلمون، ولنتكلم عن المسلمين المؤمنين باللّه ورسوله حقاً، هؤلاء المسلمون المؤمنون باللّه وبرسوله حقاً، قلنا انهم لم يكونوا من الواعين بدرجة كبيرة، نعم كان عندهم طاقة حرارية تصل الى درجة الجهاد، الى الموت في سبيل اللّه هؤلاء الذين قاموا بعد النبي (ص) ضد علي بن أبي طالب (ع)، أنا لا أشك بأنهم مر عليهم بعض اللحظات، كانوا على استعداد لأن يضحوا بأنفسهم في سبيل اللّه، وأنا لا أشك أن الطاقة الحرارية كانت موجودة عند هؤلاء، سعد بن عبادة الخزرجي مثلاً، هذا الذي عارض علي بن أبي طالب (ع) الى حين، والذي فتح أبواب المعارضة على علي بن أبي طالب الى

حين سعد هذا، كان مثل المسلمين الآخرين يكافح ويجاهد غاية الأمر لم يكن لديه الوعي، هؤلاء المسلمون المؤمنون باللّه ورسوله (ص)، لم يكونوا على درجة واحدة من الوعي وكان الكثرة الكاثرة منهم اناساً يمكلون الطاقة الحرارية، بدرجة متفاوتة، ولم يكونوا يملكون وعياً، إذن فقد تبادر الى ذهن عدد كبير من هؤلاء أن محمداً (ص) يفكر أن يعلي مجد بني هاشم، أن يعلي كيان هذه الأسرة، أن يمد بنفسه بعده فأختار علياً، إختار ابن عمه، لأجل أن يمثل علي بن أبي طالب أمجاد أسرته، هذا التفكير كان تفكيراً منسجماً مع الوضع النفسي الذي يعيشه أكثر المسلمين كراسب الجاهلية، كراسب عرفوه ما قبل الاسلام، ولم يستطيعوا ان يتحملوا تحملاً تاماً، أبعاد الرسالة ألسنا نعلم... ماذا صنعوا في غزوة حنين، حينما وزع رسول اللّه (ص) المال، وزع الغنائم على قريش ولم يعط الانصار، وزعه على قريش على أهل مكة، ولم يعط أهل المدينة، ماذا صنع هؤلاء ماذا صنع أهل المدينة، أخذ بعضهم يقول لبعض، إن محمداً لقي عشيرته فنسينا، لقي قريشاً ونسي الأوس والخزرج، هاتين القبيلتين اللتين قدمتا ما قدمتا للاسلام، إذن فكان هؤلاء على المستوى الذي تصوروا في هذا القائد الرائد العظيم، الذي كان يعيش الرسالة، آثر قبيلته بمال، فكيف لا يتصورون أنه يؤثر عشيرته بحكم، بزعامة، بقيادة على مر الزمن وعلى مر التاريخ.

هذا التصور كان يصل الى هذا المستوى المتدني من الوعي، هؤلاء لم


{ 83 }

يكونوا قد أدركوا بعد أبعاد محمد (ص) ولم يكونوا قد أدركوا أبعاد الرسالة الاسلامية، وكانوا بين حين وحين يطفو على أنفسهم الراسب الجاهلي وينظرون الى النبي من منظار ذلك الراسب الجاهلي، ينظرون اليه كشخص يرتبط بالعرب ارتباطاً قومياً، ويرتبط بعشيرته ارتباطاً قبلياً ويرتبط بإبن عمه إرتباطً رحمياً، كل هذه الارتباطات كانت تراود أذهانهم بين حين وحين، وأنا أظن ظناً كبيراً أن علي بن أبي طالب (ع) لو لم يكن إبن عم النبي (ص) لو أن الصدفة لم تشأ أن يكون الرجل الثاني في الاسلام لو لم يكن من أسرة محمد (ص) لو كان من عدي، أو لو كان من تميم، لو كان من أسرة اخرى، لكان لهذه الولاية مفعولاً كبيراً جداً، لقضي على هذا التفكير اللاإسلامي..... لكن ما هي حيلة محمد إذا كان الرجل الثاني في الاسلام إبن عمه، لم يكن له حيلة في أن يختار شخصاً دون شخص آخر وإنما كان عليه أن يختار من اختاره الله سبحانه وتعالى، ومن اختاره اللّه هو الرجل الثاني في الاسلام، في تاريخ الرسالة، في كيان الرسالة، وفي الجهاد... في سبيل الرسالة، وفي الاضطهاد في سبيل الرسالة، كان من باب الاتفاق إبن عم محمد (ص). هذا الاتفاق فتح باب المشاغبة على هؤلاء. هذا هو العامل الأول، هذا العامل يعيش في نفوس المؤمنين باللّه تعالى وبرسوله (ص).

العامل الثاني: عامل يعيش في نفوس المنافقين، والمنافقون كثيرون في المجتمع الاسلامي، خاصة وأن المجتمع الاسلامي كان قد انفتح قبيل وفاة رسول اللّه (ص) انفتاحاً جديداً على مكة، وكانت قد دخلت مكة ايضاً داخل هذا المجتمع، ودخلت قبائل كثيرة في الاسلام قبيل وفاة رسول اللّه (ص). وكان هناك أناس كثيرون قد دخلوا الاسلام نفاقاً، ودخلوه طمعاً، ودخلوه حرصاً على الجاه، ودخلوه إستسلاماً للأمر الواقع، لأن هذا مُسلّم، لأن محمداً فرض زعامته على العرب. لم يكن شخص يفكر في أن تزعزع هذه الزعامة، إذن فلا بد من الاعتراف بهذه الزعامة.

دخل كثير من الناس بهذه العقلية. وهؤلاء كانوا يدركون كل الإدراك ان علي بن أبي طالب (ع) هو الرجل الثاني للنبي (ص) وهو الاستمرار الصلب العنيد للرسالة، لا الاستمرار الرخو المتميع لها. وهؤلاء كانوا مشدودين إلى


{ 84 }

أطماع وإلى مصالح كانت تتطلب أن تستمر الرسالة ويستمر الاسلام، لأن الاسلام اذا انطفأ معنى هذا انه سوف تنطفئ هذه الحركة القوية التي بنت دولة ومجتمعاً والتي يمكن ان تطبق على كنوز دولة كسرى وقيصر وتضم أموال الأرض كلها الي هذه الأمة، كان من المصلحة ان تستمر هذه الحركة، لكن كان من المصلحة ان لا تستمر بتلك الدرجة من الصلابة والجدية، بل ان تستمر بدرجة رخوة هينة لينة، كما وصف الامام الصادق (ع) حينما سئل، كيف نجح أبو بكر وعمر بقيادة المسلمين وفشل عثمان في هذه القيادة، قال: لأن علياً أرادها حقاً محضاً، وعثمان أرادها باطلاً محضاً، وابو بكر وعمر خلطا حقاً وباطلاً.

كان لابد وان تستمر الرسالة لكن تستمر بشكل لين هين، بشكل ينفتح على مطامح أبي سفيان، بشكل يمكن أن يتعامل معه ابو سفيان الذي جاء الى علي (ع) في لحظة قاسية تلك اللحظة التي يشعر فيها الانسان عادة بقدر كبير من المظلومية حيث يرى كيف ان الناس قد تنكروا لكل أمجاده وأنكروا كل جهاده حتى أخوته لرسول اللّه (ص) في هذه اللحظة جاءه أبو سفيان يعرض عليه القيادة بين يديه، يعرض عليه ان يزعّمه في سبيل ان يكون هو اليد اليمنى للدولة الاسلامية، يأبى علي (ع) ذلك، يأبى وهو مظلوم، وهو متآمر عليه، وهو مضطهد حقه ثم يذهب أبو سفيان، أو بالأحرى نقول أن أبا بكر وعمر يذهبان الى أبي سفيان، ويوليان اولاد أبي سفيان على بلاد المسلمين، وهذا هو الاستمرار الهين الذي كانت مصالح المنافقين تطلبه وقتئذ وبهذا كانت قيادة علي بن أبي طالب (ع) وزعامته تمثل خطراً على هذه المصالح فكان لابد في سبيل الحفاظ عليها من قبل المنافقين هؤلاء أن يخلقوا في سبيلها العراقيل ويقيموا الحواجز والموانع.

العامل الثالث: وهو مرتبط بمراحل نفسية خلقية، علي بن أبي طالب (ع) كان يمثل باستمرار تحدياً بوجوده التكويني، كان يمثل تحدياً للصادقين من الصحابة لا للمنحرفين من الصحابة، كان يمثل تحدياً بجهاده، بصرامته، بإستبساله، بشبابه، بكل هذه الأمور، كان يضرب الرقم القياسي الذي


{ 85 }

لا يمكن ان يحلم به أي صحابي آخر، كل هؤلاء كانوا يودون ان يقدموا خدمة للاسلام.

أتكلم عن الصحابة الصالحين. الصحابة الصالحون كانوا يودون ان يقدموا خدمة للاسلام ولكن علي بن أبي طالب (ع) كان يفوقهم بدرجة كبيرة، بدرجة هائلة، علي بن أبي طالب (ع) بالرغم من التفاوت الكبير في العمر بينه وبين شيوخ الصحابة، من أمثال أبي بكر وعمر وغيرهما، ممن عاش بعد النبي (ص) بالرغم من هذا، أفلس أبو بكر وأفلس عمر، وأفلس هؤلاء كلهم، امام رسوخ علي (ع) الذي كان يضرب بسيفين.

معاوية يقول في كتابه لمحمد بن ابي بكر بأن علياً كان في أيام النبي (ص) كالنجم في السماء لا يطاول، الأمة الاسلامية كانت تنظر اليه كالنجم في السماء بالرغم من أن العدد الكبير منها لم يكن يحبونه، كان علي مجاهداً بدرجة لا يمكن ان يقاس به شخص آخر، كان صامداً زاهداً، بدرجة لا يمكن ان يقاس به شخص آخر، وهكذا في كل كمالات الرسالة الاسلامية، اذن فعلي كان تحدياً، كان إستفزازاً للآخرين، وهؤلاء الآخرون ليسوا كلهم يعيشون الرسالة فقط، بل جملة منهم يعيشون انفسهم ايضاً، يعيشون انانيتهم ايضاً، وحينما يشعرون بهذا الاستفزاز التكويني من شخص هذا الرجل العظيم الذي كان يتحداهم وهو لا يقصد أن تحداهم، بل يقصد ان يهديهم، وان يبني لهم مجدهم، يبني لهم رسالتهم وعقيدتهم، لكن ماذا يصنع بأناس يعيشون انفسهم.

فهؤلاء الاناس كانوا يفكرون في ان هذا تحد واستفزاز لهم. كان رد الفعل لهذا مشاعر ضخمة جداً ضد علي بن أبي طالب (ع).

يكفي مثال واحد ليتضح هذا الموقف. النبي (ص) يسافر من المدينة الى غزوة من الغزوات فيخلف علياً مكانه أميراً على المدينة، فهل تركه الناس، لا إنما أخذوا يشيعون بالرغم من أن رسول اللّه (ص) في المرات السابقة كان يستخلف أحد الأنصار على المدينة غير علي، فكانوا يشيعون، بأنه ترك علياً لأنه لا يصلح للحرب؟؟ علي بن أبي طالب هذا الرجل الصلب، العنيد، المترفع، هذا الرجل الذي يقول: لا يزيدني إقبال الناس علي ولا ينقصني


{ 86 }

إدبارهم عني. هذا الرجل الصلب استفز الاعصاب الى درجة انه اضطر ان يلحق بالنبي (ص)، فيسأله النبي (ص) عن سبب تركه المدينة، فيقول: الناس يقولون بأنك طردتني لأني لا أصلح للحرب؟؟

يمكن ان تنكر اية فضيلة من فضائل علي بن أبي طالب (ع)، ولكن هل يمكن ان ينكر ان علي بن أبي طالب لا يصلح للحرب؟ انظروا الحقد كيف وصل عند هؤلاء المسلمين بأن اخذوا يفسرون امارة علي بن أبي طالب (ع) على المدينة بأنه لا يصلح للحرب، فيقول رسول اللّه (ص) كلمته المشهورة، إن علياً مني بمنزلة هارون من موسى، انه لا ينبغي ان اخرج من المدينة الا وانت فيها اثباتاً لوجودي ولتحمي المدينة.

هذا الموقف من هؤلاء لا يمكن ان يفسر الا على اساس هذا العامل النفسي هذا العامل الثالث.

وهناك عوامل اخرى هذه العوامل كلها اشتركت في سبيل ان تجعل هناك موانع قوية جداً اصطدم بها النبي (ص) عند تشريع الحكم، واصطدم بها علي بن أبي طالب عند محاولة مقابلة الانحراف وتعديل التجربة وإرجاعها الى وضعها الطبيعي، ولهذا فشل في زعزعة الوضع القائم بعد النبي (ص).

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net