متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
7 - < متابعة >
الكتاب : أهل البیت تنوع أدوار و وحدة هدف    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

- 7 -

قلنا انه حينما وجد الانحراف بعد وفاة الرسول الاعظم (ص)، لم تكن الأمة على مستوى المراقبة بوصفها المجموعي، لم تكن قادرة على ضمان عدم وقوع هذا الحاكم المنحرف بطبيعته في سلوك منحرف، لأن كون الأمة على هذا المستوى من الضمان، إنما يكون فيما اذا وصلت الأمة بوصفها المجموعي الى درجة العصمة، أي اذا اصبحت الأمة كأمة تعيش الاسلام عيشاً كاملاً عميقاً، مستوعباً مستنيراً منعطفاً على مختلف مجالات حياتها، هذا لم يكن، بالرغم من ان الأمة الاسلامية وقتئذ، كانت تشكل أفضل نموذج للامة في تاريخ الانسان على الاطلاق. يعني نحن الآن لا نعرف في تاريخ الانسان، أمة بلغت في مناقبها، وفضائلها، وقوة إرادتها وشجاعتها وايمانها وصبرها وجلالتها وتضحيتها ما بلغته هذه الأمة العظيمة حينما خلفها رسول اللّه (ص).

الذي يقرأ التاريخ تاريخ هؤلاء الناس، الذي عاشوا مع النبي (ص) تبهره انوارهم في المجال الروحي والفكري والنفسي، في مجال الجهاد والتضحية في سبيل العقيدة. ولكن هذه الأنوار التي تظهر للمطالع لم تكن نتيجة وضع معمق تعيشه الأمة في ابعادها الفكرية والنفسية، بل كانت نتيجة طاقة حرارية هائلة إكتسبتها هذه الأمة بإشعاع النبي (ص).

هذه الأمة التي عاشت مع أكمل قائد للبشرية، اكتسبت عن طريق الاشعاع من هذا القائد، درجة كبيرة من الطاقة الحرارية صنعت المعاجز، وصنعت البطولات والتضحيات التي يقل نظيرها في تاريخ الانسان.

ولا اريد ان اتكلم عن هؤلاء الناس في أيام رسول اللّه (ص). وإيثار كل واحد منهم للاسلام والعقيدة، إيثاره بكل وجوده وطاقاته بكل إمكانياته وقدراته. هذه النماذج الرفيعة إنما هي نتاج هذه الطاقة الحرارية التي جعلت


{ 88 }

الامة الاسلامية تعيش ايام رسول اللّه (ص) محنة العقيدة والصبر وتتحمل مسؤولية هذه العقيدة بعد وفاته (ص) وتحمل لواء الاسلام بكل شجاعة وبطولة الى مختلف أرجاء الارض هذه هي طاقة حرارية وليست وعياً لذا يجب ان نفرق ونميز بين الطاقة الحرارية وبين الوعي:

الوعي: عبارة عن الفهم الفعّال: الإيجابي المحقق للاسلام في نفس الامة، الذي يتأصل ويستأصل جذور المفاهيم الجاهلية السابقة استئصالاً كاملاً. ويحوّل تمام مرافق الانسان من مرافق الفكر الجاهلي الى مرافق الفكر الاسلامي والذوق الاسلامي.

اما الطاقة الحرارية: فهي عبارة عن توهج عاطفي حار، بشعور قد يبلغ في مظاهره نفس ما يبلغه الوعي في ظواهره بحيث يختلف الأمر، فلا يميز بين الأمة التي تحمل مثل هذه الطاقة الحرارية وبين أمة تتمتع بذلك الوعي الا بعد التبصر.

إلا أن الفرق بين الأمة الواعية والأمة التي تحمل الطاقة الحرارية كبير، فإن الطاقة الحرارية بطبيعتها تتناقص بالتدريج بالإبتعاد عن مركز هذه الطاقة الحرارية.

والمركز الذي كان يمون الامة بهذه الطاقة الحرارية هو شخص النبي (ص) القائد. فكان طبيعياً ان تصبح طاقة الأمة بعده في تناقض مستمر، حال الشخص الذي يتزود من الطاقة الحرارية للشمس والنار، ثم يبتعد عنهما، فإن هذه الحالة تتنافص عنده بإستمرار.

هكذا كان، وتاريخ الاسلام يثبت ان الامة الاسلامية كانت في حالة تناقص مستمر من هذه الطاقة الحرارية التي خلفها النبي (ص) في أمته حين وفاته بخلاف الوعي فإن الوعي بذلك المعنى المركز الشامل المستأصل لجذور ما قبله ذلك الوعي من طبيعته الثبات والاستقرار، بل التعمق على مر الزمن، لأنه بطبيعته يمتد ويخلق له بالتدريج خيالات جديدة وفقاً لخط العمل وخط الاحداث، فالأمة الواعية هي أمة تسير في طريق التعمق في وعيها والأمة التي تحمل طاقة حرارية هائلة، هي الأمة التي لو بقيت وحدها مع هذه الطاقة الحرارية فسوف تتناقص طاقتها باستمرار.


{ 89 }

وهناك فرق آخر: هو ان الوعي لاتهزه الانفعالات، يصمد امامها، اما الطاقة الحرارية فتهزها الانفعالات، الانفعال يفجر المشاعر الباطنية المستترة، يبرز ما وراء الستار، ما وراء سطح النفس كأن الطاقة الحرارية طاقة تبرز على سطح النفس البشرية، واما الوعي فهو شيء يثبت في اعماق هذه النفس البشرية، ففي حالة الانفعال، سواء كان الانفعال انفعالاً معاكساً، يعني حزناً وألماً أو كان انفعالاً موافقاً، أي فرحاً ولذة وانتصاراً، في كلا الحالتين سوف يتفجر ما وراء الستار ويبرز ما كان كامناً وراء هذه الطاقة الحرارية في الامة المزودة بهذه الطاقة فقط، اما الامة الواعية فوعيها يجمد ويتقوى على مر الزمن فكلما مر بها انفعال جديد أكدت شخصيتها الواعية في مقابل هذا الانفعال، وصبغته بما يتطلبه وعيها من موقف.

هذا هو الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية.

نحن ندعي ان الأمة الاسلامية العظيمة التي خلفها القائد الاعظم (ص) والتي ضربت اعظم مثل للكون في تاريخ الانسان الى يومنا هذا، هذه الامة كانت تحمل طاقة حرارية كبيرة، ولم تكن تحمل وعياً مستنيراً مجتثاً لأصول الجاهلية فيها.

والدليل على هذا كله واضح من تاريخ الامة نفسها وكشاهد على ذلك، علينا أن ننظر الى غزوة حنين، غزوة هوازن بعد فتح مكة، ماذا صنعت هذه الامة العظيمة بتلك الطاقة الحرارية في لحظة الانفعال، رسول اللّه (ص) خرج بجيش من الانصار ومن قريش من أهل مكة فانتصر في معركته واخذ غنائم كثيرة، وكان قراره توزيع الغنائم كلها جميعاً على من خرج من مسلمي مكة، فوزعها كذلك، ولم يعط مسلمي الانصار شيئاً منها، هذه لحظة انفعال نفسي، إن هؤلاء الأنصار يرون انفسهم خرجوا مع رسول اللّه (ص) من المدينة ليفتحوا مكة، وفتحوها وحققوا للأمة اعظم انتصاراتها في حياة النبي (ص) وبعد هذا يدخل النبي (ص) في الدين اناساً جدداً يستقلون بتمام الغنائم ويأخذونها. هذه لحظة إنفعال، في هذه اللحظة من لحظات الانفعال لاتكفي الأمة الطاقة الحرارية بل تحتاج الأمة الى وعي يثبتها لتستطيع ان تتغلب على لحظة الانفعال، هل كان مثل هذا الوعي موجوداً...؟ الجواب انه لم يكن:


{ 90 }

فإن الانصار اخذوا يثيرون ما بينهم الهمس القائل: بأن محمداً (ص) لقي أهله وقومه وعشيرته، فنسي أنصاره واصحابه، هؤلاء الذين شاركوه في محنته، هؤلاء الذين ضحوا في سبيله، هؤلاء الذين قاوموا عشيرته في سبيل دعوته، نسيهم وأهملهم وأعرض عنهم، لأنه رأى أحبائه وأولاد عمه، رأى عشيرته...

أنظروا الى هذا التفسير، يبدو من خلاله الانصار وكأن المفهوم القبلي متركز في واقع نفوسهم، الى درجة يبدو معه لهم، أن محمداً (ص) وهو الرجل الأشرف والأكمل، الذي عاشوا معه، وعاشوا تمام مراحل حياته الجهادية، ولم يبد في كل مراحله الجهادية أي لون من الالوان يعطي شعوراً قبلياً قومياً، بالرغم من هذا، وبالرغم من خلوه من أي شعور يشير الى ذلك. في لحظة الانفعال قالوا، بأنه وقع تحت تأثير العاطفة القبلية والقومية. هذه العاطفة القبلية او القومية هذا الترابط القبلي كيف كان قوياً في نفوسهم بحيث انهم اصطنعوه تفسيراً للموقف في لحظة من لحظات الانفعال، رسول اللّه (ص) سمع بالهمس، اطلع على أن هناك بذور فتنة ضده في الأنصار، فأرسل على أبناء الانصار من الأوس والخزرج، وجمعهم عنده ثم التفت اليهم (ص) وقال ما معناه: لقد بلغني عن بعضكم هذا الموضوع ان محمداً نسي أصحابه وأنصاره حينما التقى بقومه، فسكت الجميع واعترف البعض بهذه المقالة. حينئذ اخذ رسول اللّه (ص) يعالج الموقف والمشكلة وذلك بإعطاء المزيد من الطاقة الحرارية، لأن هذه المشكلة ذات حدين، حد آني وحد المدى الطويل، الحد على المدى الطويل يجب ان يعالح عن طريق التوعية على الخط الطويل، وهذا ما كان يمارسه (ص)، والمشكلة بحدها الآني يجب ان تعالج ايضاً معالجة آنية، والمعالجة الآنية لا تكون الا عن طريق إعطاء مزيد من هذه الطاقة الحرارية للسيطرة على لحظة الانفعال، ماذا قال (ص)؟ كيف الهب عواطفهم، قال لهم: ألا ترضون ان يذهب أهل مكة الى بلادهم بمجوعة من الأموال الزائفة، وانتم ترجعون الى بلادكم بمحمد (ص) برسول اللّه (ص).

هذه كانت دفعة حرارية حولت الموقف في لحظة حيث أخذ هؤلاء الاوس


{ 91 }

والخزرج يبكون امام رسول اللّه (ص) ويستغفرون ويعلنون ولاءهم واستعدادهم وتعلقهم به، أراد رسول اللّه (ص) ان يعمق هذا الموقف العاطفي أكثر فعندما سكن بكاؤهم وهدأت عواطفهم قال لهم: ألا تقولون لي مقابل هذا، ثم أخذ يترجم بعض الأحاسيس المستترة في نفوسهم حتى يهيج عواطفهم تجاهه، ويتيح لذلك المجلس جواً عاطفياً وروحياً، بعد ذلك يتغلب على الموقف الى آخر القصة.

هذه الأمة التي تحمل الطاقة الحرارية تنهار امام لحظة انفعال.

شاهد آخر في لحظة انفعال أخرى ايضاً في تاريخ هذه الأمة.

الامة بعد وفاة رسول اللّه (ص) تملكتها لحظة انفعال كبيرة، لأن رسول اللّه (ص) راحل وكان رحيله (ص) يشكل هزة نفسية هائلة بالنسبة الى الأمة الاسلامية، التي لم تكن قد تهيأت بعد ذهنياً وروحياً لأن تفقد رسول اللّه (ص)، في هذه اللحظة من الانفعال ايضاً المشاعر التي كانت في الأعماق برزت على السطح.

المهاجرون: هناك تكلمنا عن الأنصار، وهنا نتكلم عن المهاجرين، ماذا قال المهاجرون في لحظة الانفعال...؟ هؤلاء المهاجرون الذين هاجروا من بلادهم، وتركوا دورهم وعوائلهم وقومهم في سبيل الاسلام، ماذا قالوا، وماذا كان موقفهم؟

قالوا ان السلطان سلطان قريش، إن سلطان محمد سلطان قريش، نحن أولى من بقية العرب، وبقية العرب أولى من بقية المسلمين.

هنا يبرز الشعور القبلي والشعور القومي، في لحظة انفعال، لأن هذه اللحظة من الانفعال تشكل صدمة بالنسبة الى الطاقة الحرارية يصبح الانسان معها في حالة غير طبيعية حيث لا يوجد عنده وعي فينهار امام تلك الأفكار وهذه العواطف.

إذن لحظة الانفعال هي التي تحدد ان هذه الأمة تحمل وعياً، أو طاقة حرارية.


{ 92 }

ماذا صنع المسلمون في لحظة الانتصار والاستيلاء على كنوز كسرى وقيصر، المسلمون في هذه اللحظة، اخذوا يفكرون في الدنيا أخذوا يفكرون في أن يقتنص كل واحد منهم أكبر قدر ممكن من حطامها.

والأزمة التي مرت بعمر بن الخطاب في تحقيق حال الأرض المفتوحة عنوة، وأن الأرض المفتوحة عنوة هل تقسم على المقاتلين أو أنها تجعل لبيت المال، وتجعل ملكاً عاماً، هذه الأزمة تبينّ، كيف ان هذه الأمة ترددت في لحظة الانفعال، لأن وجوه المهاجرين والأنصار، هؤلاء الأبرار المجاهدون هؤلاء الذين عاشوا كل حياتهم الكفاح والجهاد في سبيل اللّه، هؤلاء اخذوا يصرون إصراراً مستميتاً على أن هذه الأرض يجب ان توزع عليهم، وعلى أن كل واحد منهم يجب ان ينال أكبر قدر ممكن من هذه الأرض، الى ان أفتى علي (ع) بأن الأرض للمسلمين جميعاً، لمن هو موجود الآن ولمن يوجد بعد اليوم الى يوم القيامة.

هذه اللحظات لحظات انفعال، لحظات الانفعال الانخذالية، ولحظات الانفعال الانفصالية هي التي تحدد ان الامة هل تحمل طاقة حرارية، أو تحمل وعياً.

إذن كان وعي الامة يحمل وراءه قدراً كبيراً من الرواسب الفكرية والعاطفية والنفسية التي لم تكن قد استؤصلت بعد؟

وربما قيل: إذن ماذا كان يصنع النبي (ص) اذا لم تكن قد استؤصلت هذه الرواسب؟

وجوابه: ان هذه الرواسب ليس من السهل استئصالها، لأن الدعوة الاسلامية التي جاء بها النبي (ص) لم تكن مجرد خطوة الى الامام، بل كانت طفرة بين الأرض والسماء.

إذا لاحظنا حال العرب قبل الاسلام، ولاحظنا مستوى الرسالة الاسلامية نرى ان المستوى هو مستوى الطفرة بين الأرض والسماء، لا مستوى الحركات الاصلاحية التي توجد في المجتمعات العالمية، وهي مستوى الخطوة الى الامام، أي حركة إصلاحية تنبع من الأرض وتنبع من عبقرية الانسان بما هو انسان، تزحف بالمجتمع خطوة الى الامام لا أكثر، المجتمع كان قد وصل الى الخطوة


{ 93 }

السابقة، في خط التقدم، وحينئذ من الممكن في زمن قصير ان تستأصل رواسب الخطوة السابقة، بعد الدخول في الخطوة التالية، لأن الفرق الكيفي، بين الخطوة السابقة والثانية مثلاً، فرق قليل ضئيل التشابه، بين الخطوتين تشابه كبير جداً هذا التشابه الكبير، أو ذاك التفاوت اليسير، يعطي في المقام إمكانية التحويل، إمكانية إجتثاث تلك الأصول الموروثة من الخطوة السابقة.

لكن ماذا ترون وما تقدرون، عندما جاء النبي (ص) الى مجتمع متأخر يعيش الفكرة القبلية بأشد ألوانها ونتائجها، وأقسى مفاهيمها وأفكارها، جاء فألقى فيها فكرة المجتمع العالمي، الذي لا فرق فيه بين قبيلة وقبيلة، وبين شعب وشعب، وبين أمة وأمة، وقال: ان الناس سواسية كأسنان المشط.

هذه الطفرة الهائلة بكل ما تضم من تحول فكري وانقلاب إجتماعي، وتغيير في المشاعر والمفاهيم والانفعالات هذه الطفرة لم تكن شيئاً عادياً في حياة الانسان، وإنما كانت شيئاً هائلاً في حياته. إذن فكيف يمكن ان نتصور، أن هذا المجتمع الذي طفر بهذه الطفرة مهما كان هذا المجتمع ذكياً، وصبوراً على الكفاح ومهما كان قوياً ومؤمناً برسول اللّه (ص) كيف يمكن ان نتصور في الحالات الاعتيادية، أنه يودع تمام ما كان عنده من الأفكار والمشاعر والانفعالات، ويقلب صفحة جديدة كاملة، دون أي اصطحاب لموروثات العهد السابق، هذا غير ممكن إلا في فترة طويلة جداً مع ان رسول اللّه (ص) لم يعش لمجتمع ودولة كمربي تربية كاملة في المدينة الا عشر سنوات فقط، علماً ان جزءاً كبيراً من المجتمع الاسلامي دخل الاحداث بعد وفاة رسول اللّه (ص) ومجتمع مكة الذي دخل في حظيرة الاسلام وقت فتح مكة، وقبل سنتين فقط من وفاة رسول اللّه (ص).

فكيف يمكن ان نتصور من خلال هذه الأزمنة القصيرة ومع تلك الطفرة الهائلة الكبيرة إثبات تلك الأصول.

فالاصول إذن كان من المنطقي والطبيعي ان لا تبقى وكان من المنطقي والطبيعي أيضاً ان لا تجتث الا في خلال أمد طويل، وخلال عملية تستمر مع خلفاء الرسول (ص) بعده. إلا ان هذه العملية قطعت بالانحراف، بتحول


{ 94 }

خط الخلافة عن علي (ع). وهذا لا يثير استغراباً، أو يسجّل نقطة ضعف، بالنسبة الى عمل الرسول (ص) بل ينسجم مع الرسالة مع عظمتها وجلالتها ومع تخطيط النبي (ص).

فهذه هي الأمة التي تحمل طاقة حرارية، أمة غير واعية واذا كانت تحمل هذه الطاقة وهي غير واعية، فليست بقادرة على حماية التجربة الاسلامية وعلى وضع حد لانحراف الحاكم الذي تولى الحكم بعد رسول اللّه (ص)، إذ بالصيغة الاصولية التي قلناها، من ان الأمة بوصفها المجموعي ليست معصومة، ما دامت تحمل طاقة حرارية فقط، ولاتحمل وعياً مستنيراً بجتث أصول الجاهلية فيها. وما دامت كذلك فهي لا تقف في وجه هذا الانحراف. وقد قلنا بأنه حتى لو أخذنا الحاكم بغير المفهوم الشيعي، مع هذا تبقى طبيعة الاشياء وطبيعة الاحداث تبرهن على أن يكون هذا الحاكم عرضة للانحراف ولتحطيم التجربة الاسلامية، وبالتالي تحطيم جميع الأصول الموضوعية والأطار العالم لهذه التجربة الشريفة المباركة. فإن الحاكم أولاً هو جزء عادي من هذه الامة التي قلنا بإنها لم تكن تحمل وعياً مستنيراً بل كانت تحمل طاقة حرارية، ولنفرض ان هذا الحاكم لم يكن شخصاً متميزاً من هذه الامة بإنحراف خاص، وبتخطيط سابق، للاستيلاء على الحكم، أو بتصميم على قتل رسول اللّه (ص) في سبيل الاستيلاء على الحكم، لنفرض ان هذا لم يكن، وإنما هو جزء عادي من هذه الأمة تدل سوابقه على ذلك فمعنى كونه جزءاً من هذه الأمة ان الحاكم يستبطن قدراً كبيراً من الأفكار الجاهلية والعواطف الجاهلية والمشاعر الجاهلية، وهذا كان واضحاً من اللحظة الاولى في يوم السقيفة، وفي الحجج التي أوردها المهاجرون ضد الأنصار. وكان من الواضح ان تقييم الخلافة لم يكن تقييماً إسلامياً، فهذه الرواسب الفكرية والعاطفية للجاهلية سوف تعمل عملها في سلوك هذا الحاكم. وفي تخطيطه.

إذا أضفنا الى هذا ان الحاكم كان يبدو منه في حياة الرسول (ص) نزعة الاستقلال بالرأي وروح التمرد على التعبد، وهذا كان ظاهراً فيهم وخاصة الخليفة الثاني. حيث كانت تبدو فيه روح التمرد على جملة التعاليم التي جاء


{ 95 }

بها الرسول (ص) لأنها تحدث عنده حالة تناقض بين الدعوة الجديدة التي دخل فيها وبين مفاهيمه وافكاره وعواطفه المسبقة التي صاغتها الجاهلية له، هذه النزعة نزعة التمرد، ونزعة التعويل على الرأي لم تكن تشكل خطراً في الوقت الذي كان هذا إنساناً عادياً في المجتمع الاسلامي، وكان الرسول (ص) هو الحاكم في هذا المجتمع، واما في الوقت الذي تولى فيه هذا الشخص وأصحابه زمام قيادة التجربة، قيادة هذه السفينة، هذه النزعة أصبحت تشكل خطراً في المقام، خطر أن هذا الحاكم، سوف يُعبِّر في جملة من قضاياه ومفاهيمه ومشاكله على وفق الموروثات الجاهلية، وعلى وفق رواسبه العاطفية والنفسية التي خلفها له آباؤه وأجداده، لا التي خلَّفها له رسول اللّه (ص).

واذا اضفنا الى ذلك ايضاً أن الحاكم لم يكن قد هيأ أبداً لأن يكون حاكماً، وللحاكم مشاكله الخاصة وسلوكه الخاص وثقافته الخاصة، الحاكم خاصة اذا كان حاكماً في صدر دعوة جديدة ذات حرارة خاصة وثقافة جديدة، فلا بد وان يكون هذا الحاكم مهيأً بصورة مسبقة تهيؤاً ثقافياً وعلمياً وروحياً، لأن يكون حاكماً...؟

وقصدنا من عدم التهيؤ هو عدم التهيؤ الثقافي والعلمي، بمعنى انه لم يكن قد أستوعب الاسلام عمر نفسه كان يقول: شُغِلنا ايام رسول اللّه (ص) في الأسواق والحرب.؟ تأتيه مشكلة فلا يعرف الجواب عنها فيبعث للمهاجرين والأنصار ليستفتيهم مرة ثانية وثالثة ورابعة، حينما يتكرر هذا المطلب منه ويقف موقفاً سلبياً تجاه المشاكل من الناحية الدينية، فيعتذر عن ذلك فيقول شغلتنا ايام رسول اللّه (ص) الحرب والعمل في الأسواق.

رسول اللّه (ص) لم يهيؤ هذا الحاكم: نعم رسول اللّه (ص) لم يكن قد اشتغل لتهيئة مجموعة من الأمة لتحكم الناس وإنما هيأ قادة معينين من أهل البيت (ع) ليحكموا.

كان رسول اللّه (ص) يعمل على خطين للتوعية: الخط الأول هو التوعية على مستوى الأمة، وهذه التوعية للأمة بوصفها رعية بالمقدار الذي تتطلبه


{ 96 }

الرعية الواعية من فهم وثقافة، وكان له خط عمل على مستوى آخر من التوعية، للصفوة التي اختارها الله سبحانه وتعالى حتى تخلفه لقيادة هذه التجربة كانت توعية على مستوى القيادة وعلى مستوى الحاكمية.

وهؤلاء الذين تولوا الحكم بعد رسول اللّه (ص) لم يكونوا قد عاشوا على هذا المستوى للتوعية من الناحية الفكرية والثقافية، ألسنا جميعاً نعرف ان الصحابة في أيام عمر وأبي بكر اختلفوا في المسائل الواضحة جداً، اختلفوا في حكم سنَّةٍ كان يمارسها رسول اللّه (ص) أمام اعينهم مدة طويلة اختلفوا في حكم صلاة الجنائز، هذه المسألة العبادية الصرفة البعيدة عن كل مجالات الهوى والسياسة والاقتصاد، فالاختلاف هنا اختلاف ناشئ من الجهل حقيقة، لا اختلاف ناشئ من الهوى، ليس من قبيل الاختلاف في حكم الأرض وفي حكم الغنيمة وحكم الخمس.

كل هذا ينشأ من عدم التهيئة سابقاً ومن عدم الاستعداد لممارسة الحكم ولقيادة هذا التجربة يضاف الى ذلك ان الأمة كانت تحمل طاقة حرارية ولم تكن واعية الى أن الحاكم كان قاصراً او مقصراً، يضاف الى كل ذلك ان الاسلام كان على أبواب تحول كمي هائل، كان على أبواب ان يفتح احضانه لأمم جديدة، لم تر النبي (ص) ولم تسمع آية من القرآن منه على الاطلاق. تلك الأمة التي خلفها النبي (ص) كانت تحمل طاقة حرارية، لكن بعد ان اتسعت الأمة كمياً وضمَّت اليها شعوباً كثيرة، ضمت اليها الشعب العربي بأكمله تقريباً، في زمن عمر، وضمّت اليها من الشعوب الاخرى من الفارسية والتركية والكردية والهندية والافغانية والاوروبية وغيرها، ما بال هذه الشعوب. التي لم تكن قد رأت رسول اللّه (ص) ولم تسمع منه كلمة من القرآن، هل يترقب ان يكون لها وعي، او يترقب ان يكون لها طاقة حراراية؟ تلك الطاقة، كانت نتيجة كفاح مستمر مع أشرف قائد على وجه الأرض. إن هذه الشعوب التي دخلت حظيرة الاسلام، لم تكن قد عاشت هذا الكفاح المستمر مع القائد إذن فهذا الانفتاح الهائل على الشعوب الاخرى ايضاً ضعّف مناعة هذه الأمة، واضعَفَ من قدرتها على الحماية، وفتح بالتالي مجالات جديدة للقصور والتقصير امام الحاكم.


{ 97 }

الحاكم الذي لم يكن مهيأً نفسياً لأن يحكم في مجتمع المدينة. كيف يكون مهيأً نفسياً وفكرياً وثقافياً لأن يحكم بلاد كسرى وقيصر ويجتث أصول الجاهلية، الفارسية والهندية والكردية والتركية، إضافة الى إجتثاث الجاهلية العربية، هذه الجاهليات التي كانت كل واحدة منها تحتوي على قدر كبير من الأفكار والمفاهيم الأخرى، جاهليات عديدة متضاربة فيما بينها عاطفياً وفكرياً، وكلها في مجتمع واحد وفي حالة عدم وجود ضمان لا على مستوى الحاكم، ولا على مستوى الأمة؟!

لئن كان أولئك الذين خلفهم رسول اللّه (ص) قد رأوا بأم أعينهم، في لحظة قصيرة، تجسيداً واقعياً حياً للنظرية الاسلامية للحياة وللمجتمع في ايام رسول اللّه (ص) ورأوا تصرفات رسول اللّه (ص) في المجال السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي، وسمعوا من رسول اللّه (ص) انه يقول: الناس سواسية كأسنان المشط فإن هذه الشعوب التي دخلت في الاسلام جديداً، لم تكن قد سمعت كل هذا بل سمعت هذا من الحكام الجدد الذين كانوا يقودون زعامة التجربة فإذا كان أمينها حاكماً منحرفاً، وكانت الأمة غير قادرة على مواجهة هذا الانحراف، وكانت على ابواب توسع هائل ضخم يضم شعوباً لا تعرف شيئاً أصلاً عن هذه النظرية الاسلامية للحياة الاجتماعية انما تعرف الواقع الذي يتجسد خارجاً والذي عاشته كواقع وهو ان فاتحاً مسلماً سيطر على بلادها. إذن كان من المفروض ومن المنطقي بحسب طبيعة الاشياء، أن تتحول النظرية الاسلامية للحياة الاجتماعية الى نظرية اخرى وفق خط الحاكم الموجود فعلاً والذي يجسد في سلوكه وتصرفاته، حقيقة بعيدة عن الحقيقة التي عمل رسول اللّه (ص) على تجسيدها في حياته فنظرية أبي بكر وعمر وعثمان للحكم وكما عاشوها واقعياً وسياسياً واقتصادياً كانت كفيلة بأن تطمس تلك الأطروحة الصالحة فكرياً وروحياً كما انطمست سياسياً واقتصادياً يوم السقيفة ولذا كان أمراً طبيعياً أن يعمل قادة أهل البيت (ع) على التخطيط لحماية اسلامهم من ان يندرس، وذلك عن طريق الدخول في الصراع السياسي مع هؤلاء الخلفاء.

الائمة (ع) دخلوا في صراع مع الخلفاء ومع الزعامات المنحرفة، دخلوا


{ 98 }

في الصراع يحملون في ايديهم مشعل تلك النظرية الاسلامية للحياة الاجتماعية بكل بهائها ونورها وجمالها وكمالها ولم يكونوا يستهدفون من هذا ان يعيدوا خط التجربة لأن المؤسف ان خط التجربة لم يكن بالامكان ان يعود مرة اخرى الى الاستقامة بعد ان انحرف، لم يكن الصراع السياسي يستهدف في المقام ان يعيد التجربة الى خطها المستقيم او على المدى الطويل الطويل، ولم يكن هذا هو الهدف الآني للصراع السياسي وانما كان الهدف الآني للصراع هو ان يبثوا الوعي في المسلمين والشعوب الجديدة التي دخلت في الاسلام على النظرية الحقيقية للاسلام عن الحياة، عن المجتمع عن الدولة عن الاقتصاد وعن السياسة وعن الآخرة ويبينوا لهم بصدق ما هو مفهوم الاسلام في هذه المجالات وصولاً الى ترسيخ هذه النظرية في أذهان الناس.

صحيح ان النظرية كانت موجودة في القرآن، وكانت موجودة في النصوص، ولكن هذا لا يكفي وحده للوصول الى الهدف وذلك:

أولاً: لأن النظريات حينما تكون حبراً على ورق لا تكفي لأن تعطي صورة واضحة عن الحقيقة الصادقة في أذهان الناس.

ثانياً: لأن القرآن والسنة لم تكن قد فهمته هذا الشعوب الجديدة التي قد دخلت في الاسلام، السنة لم يكونوا قد سمعوا عنها شيئاً وانما سوف يسمعون عنها عن طريق الصحابة. واما القرآن الكريم لم يكونوا قد سمعوا شيئاً عن تفسيره ايضاً، وانما بدأوا يسمعونه عن طريق الصحابة، فلا بد حينئذ من تجسيد حي لهذه النظرية الاسلامية، وحيث لم يكن بالامكان تجسيده عن طريق الحكم بعد رسول اللّه (ص) مباشرة، كان من الضروري تجسيده عن طريق المعارضة للزعامات المنحرفة على يد علي (ع) والحسن والحسين (ع) أئمة المرحلة الاولى.

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net