متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الفصل الخامس عشر
الكتاب : الفضيلة تنتصر    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات
كانت نقاء تتلقى في نهاية كل أسبوع رسالة من إبراهيم ، وكانت رسائله مسهبة مفصلة ، يحدثها فيها عن أعماله وأحواله وعن أفكاره ومشاعره ، وهي مليئة بكلمات الحب ، نابضة بعبارات الاخلاص والوفاء ، ولم تكن نقاء تتوانى عن الرد ، فهي تكتب في يوم وصول رسالته إليها وتحدثه أيضاً عن أحوالها ، وما يجد في حياتها ، كما أنها كانت تحاول أن تبعث فيه بكلماتها العاطفية العذبة ، روح المقاومة على الفراق ... وكانت تقضي أيام الأسبوع وهي تعيش على رسالة إبراهيم ، تعيد قراءتها مرة ومرة ، وتعد كلماتها باتقان ، ثم تعود لتعد حروفها أيضاً ، وعندما كانت تشعر بوحشة ممضة ، كانت تقصد المنتزه لترفه عن نفسها في الهواء الطلق... وفي مرة كانت تجلس في ركنها المنعزل من المنتزه ، وهي منهمكة في مطالعة رواية معربة لفيكتور هيجو ، أحست أن وراءها من يتطلع نحوها ، ونحو الكتاب الذي تقرأ فيه ، ولكنها رأت أن من الحكمة أن لا تلقي بالاً إلى هذا المتطفل أياً كان ، ولهذا فلم ترفع رأسها عن الكتاب ، وفجأة شعرت


( 130 )

أن كرسياً قد وضع قريباً من الكرسي الذي تجلس عليه ، ولم تلتفت كذلك ، فقد كانت هذه هي طريقتها دائماً في تجاهل الفضوليين ، وبعد برهة وجيزة أقبل الساقي ليسألها إذا كانت تطلب شيئاً ، فرفعت رأسها وقالت : أنها تطلب كأساً من عصير الليمون . وذهب الساقي ليأتي بما طلبت ، ولكن صوتاً غريباً ارتفع من الجالس على الكرسي القريب منها ، وهو يقول :
ـ أرى أن الأنسة تفضل شراب الليمون..
فالتفتت نحو مصدر الصوت لترى شاباً قد اتخذ له مجلساً على كرسي هناك ، وهالها منه هذه الميوعة التي كانت تبدو واضحة عليه ولم تر بداً من أن تجيب قائلة : نعم ... ولم تزد على ذلك ، وهمت أن تنهض لتنصرف ، ولكنها لاحظت أنها مقيدة أدبياً بانتظار الساقي. فتململت في جلستها وعادت تقرأ ، ولكن الرجل المتطفل لم يكن ليهزم بهذه السرعة ، ولم يخطر بباله سوى أنها أساليب إغراء ، فأردف يقول :
ـ وما هذا الكتاب الذي استحوذ عليك يا أنسة ؟!.
ولم تشأ أن تجيبه ، ولكنه كرر سؤاله ثانية وثالثة.. فلم تر من اللياقة أن تبقى أسئلته المتكررة بدون جواب... فأجابته في برودة قائلة :
ـ إنه « عاصفة وقلب » لهيجو.


( 131 )

ولم يفهم محمود لكلماتها معنى ، فهو لم يقرأ أي كتاب لهيجو ، بل ولم يكن يعرف أي شيء عن أسلوبه في الكتابة ، ولذلك فهو لم يقع في جوابها إلا على كلمة « عاصفة وقلب » فأرسل آهة قصيرة ثم قال :
ـ إن أروع القصص هي قصة القلوب... نعم ، القلوب الخفاقة بالحب ، الناضحة بالوجد ، إن أقدس شيء في الحياة هو الحب يا أنستي العزيزة.
وأزعجت نقاء هذه الكلمات ، وردت عليه ، وكأنها تحدث نفسها قائلة :
ـ إن أقدس شيء في الحياة هو المبدأ ، وأعز شيء هو الدين والعقيدة.
وظنت أنها قد تخلصت بجوابها هذا من مضايقة محدثها المتطفل وأنه سوف يعرف أن أهدافه لن تصيب عندها مرمى ، ولكن محمود لم يكن لتهمه هذه الألفاظ ، وهو يظنها رياءاً وخداعاً ، وساءه أن تكون فاتنته قد اختارت أن تلعب معه هذه اللعبة ، فتضاحك وهو يقول :
ـ إن الحب والمال هما العنصران الاساسيان في الحياة ... فلا حب بلا مال ، ولا مال بلا حب ... فأنا مثلاً لدي من المال الشيء الكثير ولكني ما زلت أسعى وراء الحب ، إن الذهب الذي بين يدي حائر يفتش عمن يتهاوى على قدميها.


( 132 )

وهنا لم يسع نقاء إلا أن تنهض سواء أجاء الساقي أو لم يجيء ، فانتفضت واقفة وهي تقول :
ـ إنك على خطأ فظيع ، فإن المال الذي تضعه أنت قبل كل شيء وفوق كل شيء ، ما هو في الواقع غير خديعة وسراب قد يتلاشى في لمحة عين ، فلا يخلف وراءه غير الحسرة والندم ... ولكن الشيء الوحيد الذي هو فوق كل شيء وقبل كل شيء هو الكرامة ... نعم كرامة الانسان ... ولا تكتسب هذه عن طريق مال أو ثروة... ومن يفلس منها فقد أفلس من كل شيء...
قالت نقاء هذا وأخذت طريقها نحو الخروج... ولم ييأس محمود بل زاده هذا اللقاء رغبة واندفاعاً ، وتمتم قائلاً وهو يراها تبتعد عنه : حقاً أنها لعنيدة ماكرة ، ولكني سوف أعرف كيف أكشفها على حقيقتها ... ثم نهض وتوجه نحو الخارج وقرب سيارته نحو باب المنتزه ثم ترجل منها ووقف إلى جوارها وعيناه شاخصتان إلى الباب ... فقد كان يعلم أن نقاء لم تخرج بعد وقد رآها تدفع ثمن العصير ، ثم خرجت فتقدم نحوها خطوات ، ولكنها تجاهلته واتجهت إلى الناحية الأخرى ، وكاد أن يناديها ليعرض عليها إرجاعها إلى البيت ، ولكن شيئاً ما في مشيتها وتجاهلها له منعه من أن يقوم بأي عمل صبياني ... فتراجع نحو سيارته وهو يقول : أنها رأت السيارة ولا ريب ، وسوف يأتي اليوم الذي تطلب


( 133 )

هي فيه أن تستقلها إلى جواري ، أما الآن فإن عليّ أن أتبعها لأعرف بيتها الذي تسكن فيه . وكانت نقاء قد توجهت إلى « الأمانة » واستقلتها ، وأسرع محمود بسيارته خلف السيارة التي كانت فيها نقاء ، وحرص جداً أن لا يفوته تعقبها من بين باقي السيارات ، وفي أحد الشوارع وقفت السيارة التي كان يتبعها ونزلت منها نقاء فدلفت إلى أحد البيوت ، فأوقف محمود سيارته ، ونزل ليرى رقم البيت حتى يسهل التعرف عليه فيما بعد ، ولكنه فوجيء بلوحة تحمل إسم أحدى الخياطات الشهيرات ، فعلم أنها زبون لهذه الخياطة ، فشعر بالخيبة ولم يسعه إلا أن يعود بسيارته من حيث أتى ، وقد كانت نقاء قد خمنت ذلك ، ولهذا لم تشأ أن تذهب إلى البيت لئلا يتبعها هذا الرجل الفضولي إلى هناك.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net