متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الفصل التاسع عشر
الكتاب : الفضيلة تنتصر    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات
عادت نقاء إلى البيت ولم تشأ أن تحدث أمها عن حادثة القرط ، لئلا تأسف على ذلك ، ولكنها كتبت عن الحادثة بإسهاب في رسالتها الأسبوعية إلى إبراهيم . وجاء جواب إبراهيم مليئاً بالمدح والتشجيع ، وقد ذكر في آخر رسالته : أنه سوف يبتاع لها قرطاً أثمن منه ... ومضت أسابيع ثلاثة كانت كفيلة بطمس معالم حادثة القرط والرجل الفضولي من ذهن نقاء ، ولم تكن سعاد قد اتصلت بها خلال هذه الأسابيع ...
وفي أحد الأيام اقترح والد نقاء على ابنته أن تصحبه إلى أحد المنتزهات ، فلم تر بداً من إجابة طلبه ، ولم يهمها تعيين المكان الذي يذهبان إليه ما دامت مع أبيها ، وقد اختار منتزه الجمهورية فوافقته على ذلك ، ولكنها عندما دخلت المنتزه رأت أن عليها أن تنفرد عن ابيها ، فقد كان المنتزه يعج بالرواد ، وقد صادف أبوها كثيراً من أصدقائه وأصحابه ، ولم تشأ أن تفصل أباها عن أصدقائه ، فاعتذرت منه ، وذهبت إلى ركن منعزل ، ولكنها أحست بوحشة ، لانفرادها هناك على خلاف


( 154 )

عادتها ، فقد بعثت حادثة ذلك الرجل المتطفل الرعب في قلبها وجعلتها لا تطمئن إلى الانفراد ، ولذلك فقد صممت على أن تنهض من مجلسها المنعزل وتتخذ لها مجلساً هو أقرب للمجتمع من هذا المجلس النائي ، وفعلاً فقد نهضت واتجهت نحو قلب المنتزه ، غير أن صوتاً خافتاً تردد في أذنيها قائلاً :
ـ من فضلك يا سيدتي كلمة واحدة لا غير..
ولم تتمكن نقاء أن تعرف صاحب الصوت ، فتوقفت عن السير والتفتت لترى من الذي يخاطبها ، فأبصرت محمود وهو واقف على بعد أمتار منها فاستدارت بعنف ولم ترد عليه ولكن صوته لاحقها متوسلاً :
ـ كلمة واحدة يا سيدتي ! أنا آسف جداً .. من فضلك لحظة واحدة ...
واستمرت نقاء تسير دون أن تلتفت إليه ، ولكنها شعرت أنه يتبعها وهو يردد :
ـ أنك ملاك طاهر يا سيدتي ، فلا تغلقي طريق الخير من أمامي ... لا تتجاهليني لكي لا يخفت بصيص النور الذي أشرق على جنبات روحي ... كلمة واحدة لا غير ...
فرأت نقاء أن عليها أن تقف ، فمحدثها مندفع وراءها لا يريم وهي لا تريد أن تجره إلى حيث يجلس أبوها وأصحابه ... فتوقفت والتفتت نحو قائلة :


( 155 )

ـ يا لك من ملحاح ...
ولكنها لم تكد تراه حتى استغربت منه علامات الندم التي كانت تلوح عليه ... كما أنها كانت قد استغربت عباراته المهذبة ... فردد محمود قائلاً :
ـ أنا آسف يا سيدتي ... فقد أوقعوني في غلطة لن أغفرها لنفسي أبد الدهر ، أنت لا تعلمين الآلام التي قاسيتها .. وكان أملي كله منوطاً برؤيتك وطلب العفو منك ، فهل تمنين عليّ بذلك ؟.
وتفحصته نقاء بعقلها ملياً ورأت دلائل الصدق واضحة على قسمات وجهه فردت عليه قائلة :
ـ أما بالنسبة لي فقد غفرت لك يا سيدي فأنا لا أغضب على أمثالك من الرجال ... ولكن أرثي لهم من صميم قلبي ، والرثاء لا يوجب النقمة ولكن...
ـ ولكن ماذا ؟ قولي بالله عليك كلمة أخرى مهما كانت ... فأنا على استعداد لسماع كل شيء.
ـ أقصد أنك يجب أن تطلب العفو من ربك أولاً ، ومن روحك ثانياً ... فالروح عنصر طاهر كان يمكن لها ان تكون في أهاب تسمو فيه على الملايين من البشر ، ولكنك ظلمتها وأسرتها بين جدران جسمك الذي لم يجلب لها سوى العار ، فالروح لا يهمها المال ولا تعنيها الثروة ولا تهوى غير العزة


( 156 )

والكرامة ... هذه هي روحك التي لم تتجه نحوها بعد ، فقد ألهاك الجسد الفاني عنها وغرك المال المتلاشي عن إجابة طلباتها ، ولهذا فإن عليك أولاً أن تتجه إلى روحك فترضيها وتستغفر منها كل ما مضى ... عند ذاك فقط سوف تشعر براحة التوبة ...ثم ما الذي دعاك إلى الندم ؟
ـ الندم ... فقد رأيتك في ذلك اليوم وأنت تتنازلين عن قرطيك الماسيين لا لشيء إلا للستر على المرأة المسكينة ، وبدافع من الرحمة الاحسان ، فما شككت يومها أنك ملاك طاهر في صورة انسان.
وتذكرت نقاء حادثة القرط فابتسمت وقالت :
ـ لم يكن الأمر مهماً إلى هذا الحد ، فقد كان من واجبي كامرأة وكمسلمة وكبشر أن أفعل ذلك.
وجمدت عينا محمود على فم نقاء وهي تتكلم ، ثم شعر أنها في سبيلها للانصراف ... فعز عليه ذلك وود لو استمرت تتكلم واستمر هو يستمع فقال :
ـ أنا أجهل طريقي إلى روحي فلم يسبق لي أن توصلت إليها من قريب أو بعيد ، فقد أعمتني سطوة الجسد عن كل شيء !.
ـ أنه طريق واضح لا يكلفك سوى تجاهل سلطان المال والجسد عليك.


( 157 )

ـ أنت ترينه واضحاً بلا ريب ، ولكني أنا الذي لم أعرف طيلة حياتي سوى إطاره ، أنّى لي أن أتعرف إلى الروح ، وأن أصل إلى واقعها في الحياة !.
ـ أنت تشعرني بأنك لست بعيداً عن الحقيقة ... البعد الذي تتخيله أنت ، راجع نفسك مرة أخرى لترى أنك قريب منها وقريب جداً...
ـ وكيف لي أن اراجع نفسي وقد طمستها يد النزوات والهفوات ؟!..
ـ النزوات مهما كانت لا تتعدى أن تكون نزوة عابرة ، والهفوات وإن عظمت ما هي إلا أحداث مندثرة ولكن روحك لا تطمس ولا تختفي أبداً.
ـ إذن أنت تظنين أن من الممكن إصلاح نفسي وتهذيبها.
ـ طبعاً وبسهولة جداً ، فإن عوامل الشر عوامل سطحية ولكن عوامل الخير ثابتة راسخة في الأعماق.
ـ هذا إذا كانت عوامل الخير موجودة لدي...
ـ إن لكل انسان عوامل خير وعوامل شر ، والشخص هو الذي يظهر إحدى العوامل ويخفي الأخرى ، ولهذا فهو يتمكن إذا أراد أن يرجع إلى أعماقه ليبرز العوامل الاخرى إلى حيز


( 158 )

الوجود ، فقد انفق أن انقلب الفاسق قديساً ، والقديس فاسقاً.
ـ أحقاً يمكن ذلك ؟!
ـ أنا واثقة من إمكان ذلك بالنسبة اليك ، فحاول لترى أنك لن تعجز عنه مطلقاً.
ـ وكيف أحاول ذلك ؟ أنا ضائع في خضم الاخطاء !.
وهنا أحست نقاء بأن وقوفها قد طال أكثر مما ينبغي ... ولكن دافع الخير كان يدعوها أن لا تترك هذا الرجل الذي يقف على عتبات التوبة. وترددت لحظة بين الواجب الديني والآداب الاجتماعية ، ولكن صوت محدثها كان يصلها قائلاً في تضرع :
نعم أنا ضائع في خضم الخطايا ولست أرى طريقي منها فهل لك أن ترشديني إليه ؟..
وتغلب على نقاء واجبها الديني ، فأسندت ظهرها إلى جذع شجرة وقالت :
ـ إن الأخطاء تمحى بالندم والخطايا تغفر التوبة ، فأنت إذا راجعت ماضيك واستشعرت الأسف على ما صدر منك ووددت صادقاً لو لم تفعل ما فعلت كنت في مستقبلك وكأنك لم تأت بشيء ، فإن التائب النادم يكون كمن ولدته أمه.


( 159 )

ـ ولكن ثروتي تغرني بالانحراف.
ـ أبداً .. فالثروة قد تصبح أداة للاستقامة ، وقد تكون وسيلة للخير والصلاح إذا كان لديك ما يساعدها على ذلك من كرامة واستقامة ، أنت سوف تستشعر لثروتك بلذة لم تكن تستشعرها من قبل ، فثروتك قبل اليوم كانت كل بضاعتك في الحياة ، وإذا شعر الانسان أن كيانه متركز على شيء واحد في الحياة ، خالط سعادته بذلك الشيء عوامل كثيرة من الحرص والخوف عليه ... ولكن الثروة إذا كانت عاملاً ثانوياً وكانت شخصية الانسان متركزة على أشياء أخر غير المال ، شعر صاحب المال أن ثروته نعمة اضافية من حقه أن يسعد فيها وينعم.
سكتت نقاء ، ولكن محمود استزادها قائلاً :
ـ أنت تتكلمين بأسلوب رائع لم يسبق لي أن سمعته من قبل !.
ـ ولكنك تتمكن أن تسمعه فيما بعد ، فالدنيا تزخر بالاساليب الرائعة من الكلام ، وبالمعاني السامية في التعبير ، أنا لست إلا واحدة من ملايين ، وليست كلماتي سوى نغمة من بين آلاف النغمات الطاهرة العذبة.
ـ وأين أتمكن أن أجد بعض هؤلاء ؟!.
ـ إنهم في كل مكان ، ولا يخلو منهم مكان ، ولكنك لم


( 160 )

تكن لتتمكن من التعرف عليهم قبل اليوم ، فقد كنت في سكرة تحت سطوة الجسد والمال ، فإن عوامل الخير أوفر بكثير من عوامل الشر ، والصلاح أقوى في العالم من الفساد .
وردد محمود نفس كلماتها قائلاً :
ـ عوامل الخير أوفر من عوامل الشر ، والصلاح أقوى من الفساد.
وأردفت نقاء تقول :
ـ نعم وبكل تأكيد ، فما عليك إلا أن تتجه نحو الخير لترى منبعه الرقراق ومعينه الصافي المتدفق.
واطرق محمود برأسه وكأنه يفكر ، واغتنمت بقاء فرصة سكوته فتحركت وهي تقول :
ـ سوف أتركك إلى روحك ، لتحاول أن تفتش فيها عن عوامل الخير المكبوتة ، ولي وطيد الأمل في أنك سوف تفعل ذلك بلا ريب ، وأما أنا فأستودعك الله.
ورفع محمود رأسه ليرى نقاء وقد استدارت وتوجهت نحو وسط المنتزه فردد قائلاً :
ـ في أمان الله...


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net