متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الفصل العشرون
الكتاب : الفضيلة تنتصر    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات
رجع محمود إلى داره وهو يتلذذ بيقظة انسانيته ... حقاً أنه كان يشعر بالندم منذ اللقاء الأخير مع نقاء ، وحقاً أنه تعذب كثيراً قبل أن يراها ويطلب منها العفو ، وحقاً أنه طيلة أسابيع ثلاثة كان منصرفاً عن مجونه وعبثه .. يفكر في الفتاة التي أساء إليها إساءة فظيعة قبل أن يعرف أنها ملاك طاهر وروح عذبة ... ولكنه في ذلك اليوم كان يحس بشعور لم يحسه من قبل ، وكان يستعيد كلمات نقاء في ذهنه دون أن يتعمد ذلك ، وكان كمن أخذ يستيقظ من سبات عميق ... وود لو طال به المقام مع نقاء فقد حسسته بأفكارها وآرائها ... وأرق في تلك الليلة وهو يقلب في ذهنه ما قالته ... ويحاول أن يركز أفكاره عند كل نقطة من كلماتها وألفاظها ، وشعر أنه مدين نحو تلك الفتاة بهذا النور الذي أخذ يضيء جنبات روحه ، ففتش في جوانب قلبه : هل أنه يعشق تلك الفتاة أو يهواها ؟ ولكنه لم يجد للعشق في قلبه اثراً ، فالشعور الوحيد الذي يحسه نحوها هو شعور الاكبار والاعجاب فهو يود لو رآها مرات أخرى ولكن لا على حساب


( 161 )

العشق والمتعة ، بل لأجل أن يستمد منها قوة وعزيمة ... وصمم على أن يستمر بتردده على المنتزه والحديقة حتى يعود فيلقاها ثانية.
وفي الصباح لم يبرح محمود غرفته مطلقاً ولم يسمح لأحد بالدخول عليه ، فقد كان يعيش في دوامة من الأفكار المتضاربة ، وقد أخذ يستعيد في فكره جميع مراحل حياته ، ويذكر ما الذي جناه من سلوكه وطريقته في الحياة ، وهاله أن يرى أنه لم يحصل على شيء سوى المال ، وحتى المال فلم يحصل عليه هو بنفسه أيضاً فقد ورثه عن أبيه وها هو قد بدد نصفه في مدة عشر سنوات ، وفكر في حاله بعد عشر سنين ، وبعد أن يبدد جميع أمواله على ملذاته وشهواته ، فما الذي سوف يتبقى لديه ... وراح يعدد في ذهنه كل ما قد يجنيه المرء في الحياة من العزة والكرامة والجاه والذكر الطيب والصديق الوفي والزوجة المخلصة . وكان جوابه عن كل هذه الأمور لا شيء ، فهو يعلم أن أصدقاءه لن يحاولوا النظر إلى وجهه إذا أفلس من المال ، وإن مكانته في المجتمع قد انعدمت تماماً ، بعد أن اعتزله وسط شلة من المنحرفين ، وإن كرامته قد أريقت على مذبح الشهوات ، وحتى زوجته ، فهي لن تقيم معه يوماً واحداً إذا تلاشت ثروته ... وهاله أنه توصل إلى هذه الحقيقة ، وألمه أن تكون سعادته منوطة بالمال حتى في حياته الزوجية ، فهو يعلم أن سعاد لا تحمل له في قلبها أي عاطفة ، ولا يشدها إليه إلا المال ... وود لو


( 163 )

استطاع أن يهرب من هذه الافكار وأن يعود إلى غفلته الأولى التي كان سادراً فيها منذ سنوات ، ولكن مفاهيم نقاء وأفكارها كانت مسيطرة عليه بصورة لم تكن تمكنه من الفرار ، فهو كان يجهل قبل اليوم أن دنياه التي يعيش فيها تعمر بأمثال هذه الروحيات التي رأى عليها الفتاة ، أما الآن وقد وجد أمامه ما كان يظنه مثالياً أو أسطورياً ، فما عليه إلا أن يكونه ، فالأعمى الذي يرتد إليه بصره ، عليه أن يعمل ن ظره ولايركن إلى الظلام الذي كان يطبق عينيه من قبل ، وعجب أن تكون أفكاراً وليدة في ذهنه تتمكن أن تصارع أفكاراً عاش معها سنوات ، ولكنه عاد يقول : أنه منذ الآن بدأ يفكر ... أما ماضيه فقد كان خلواً من الفكر ، كان سطحياً ، لا يستند إلى جذور ... وشعر بحاسة ماسة إلى لقاء الفتاة مرة أخرى ، فهو يشعر بضيعته وسط مختلف التيارات ، وود لو عرف من تكون تلك الفتاة ليقصد بيتها ، ويستزيدها من الكلام ... وفجأة فكر في سعاد ، وفي السبب الذي دعاها أن تخدعه على هذه الصورة ، وتدفع به نحو هذه الفتاة الطاهرة ، ولم يتمكن أن يفهم لذلك سبباً ، أو يأتي بتبرير معقول ، سوى أن بعض مشاعر الحقد هي التي دفعتها إلى ذلك ، وعجب أن تحقد سعاد على تلك الفتاة وليست هي ممن يعيشون حياتها أو يرتادون مجتمعها ، ولكنه عاد ليقول : إن أحقاد سعاد لا تقف عند حد ، ولا تقتصر على أشخاص معدودين ... ولذ له أن يتخيل سعاد وهي تتحرق شوقاً لفهم النتيجة ، ولكنها لا


( 164 )

تتمكن من السؤال ، وصمم على أن لا يدعها تتوصل إلى معرفة أي شيء مهما حاولت ذلك ، وفعلاً فقد غلف وجهه بغلاف لم تتمكن سعاد أن تصل من ورائه إلى الحقيقة ، وحاولت مراراً أن تستدرجه إلى الكلام ، ولكنه كان يروغ عن الحديث ، وقد أعجبه صموده هذا أمام سعاد ، فلم يكن ليعهد بنفسه المقدرة على ذلك من قبل . وآمل أنه سوف يتمكن أن يثبت كيانه الخاص أمامها في الحياة.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net