متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الفصل السادس والعشرون
الكتاب : الفضيلة تنتصر    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات
كانت الأشهر الثلاثة تكاد تنقضي وتنتهي بمضيها سفرة إبراهيم وقد أصبحت رسائله تصل مرتين في الأسبوع بدل المرة الواحدة ، ونقاء تعيش بأمل اللقاء القريب وعلى أحلام المستقبل السعيد... واخيراً تعين يوم وصوله ، ولم يكن قد بقي عليه سوى يومين. وخرجت نقاء إلى السوق لتشتري بعض حوائجها ، ولما أتممت مهمتها وقفت تنتظر سيارة « الأمانة » وفجأة وقفت أمامها سيارة نزل منها محمود ، وابتدرها بتحية مؤدبة رصينة ، فلم تفزع نقاء في هذه المرة ولم تتقهقر خطوات كما فعلت في المرة الماضية ، فقد اطمأنت إلى غايات هذا الرجل وواقعه النبيل ، ولهذا فقد ردت تحيته بما يليق .. وشجع محمود حماسها في الجواب وسره أن يكون قد توصل أخيراً إلى إشاعة الثقة في نفس نقاء وقال :
ـ منذ مدة وأنا أفتش عنك يا اختي ، فأنا في حاجة إلى مزيد من الارشاد...
ـ ألم تكمل قراءة الكتب ؟


( 210 )

ـ قرأتها جميعاً ، وعدت فاشتريت كتباً جديدة ...
ـ وهل اشتريت « البؤساء » ليفكتور هوجو ؟
ـ نعم ، فإن اقتناء الكتب أصبح هوايتي المفضلة.
ـ فعليك بها إذن فهي كفيلة بإرواء ظمأك إلى العلم والمعرفة.
ـ ولكن لدي ما أقوله لك ، فقد تمكنت أن أتخلص أخيراً من جميع توابع الماضي البغيض !
ـ حقاً ... بارك الله فيك ولكن كيف ؟
ـ أظن أني لن أتمكن أن أشرح لك ذلك هنا وسط الزحام.
وسكت محمود فلم يردف شيئاً ، وسكتت نقاء أيضاً ، ونظرت إليه فرأته يتطلع نحوها بتضرع والتماس وشعرت أن عليها أن تفعل شيئاً تجاه هذا الرجل لكي لا تعقده ثقته بنفسه ولتوحي إليه أن نظرتها نحوه قد تغيرت وانه الآن يختلف عما كان عليه من قبل فقالت :
ـ يمكنك أن تلاقيني في المنتزه.
ـ أحقاً تمنين عليّ بذلك ؟
ـ نعم لأنك أصبحت رجلاً شريفاً ومستقيماً.


( 211 )

ـ ولكن متى ؟
ـ اليوم في الساعة الخامسة .
ـ شكراً.
ـ لا داعي للشكر فليس هذا إلا واجب إنساني ...
ـ أما الآن فأظن أن عليّ أن أنصرف...
ـ إذا سمحت بذلك طبعاً.
ـ طبعاً فلن أطيل وقوفك على قارعة الطريق.
ثم انحنى لها باحترام وذهب ، واستقلت نقاء « الامانة » إلى البيت ، وفي تمام الخامسة كانت تتوجه نحو المنتزه لتستمع إلى حديث الرجل الغريب ، فهي لم تعد تخافه بعد اليوم بعد أن أشرق على قلبه نور الايمان ، وهناك وجدته ينتظر ولم تشأ أن تذهب إلى ركنها القصي فاختارت مجلسها في ناحية واضحة من نواحي المنتزه ، وبعد لحظات من جلوسها سألها محمود في أدب قائلاً :
ـ هل لي أن أتحدث ؟
ـ تفضل يا سيدي ! على الرحب والسعة...
ـ لقد أصبحت لي مرشدة وناصحة ...
ـ ...


( 212 )

ـ وقد حدثتك في اجتماع سابق عن مشاكلي المعقدة ، التي تحول بيني وبين بدء حياة جديدة ، ولكنك نصحتيني أن أحاول ...
ـ أنت تقصد زوجتك إذن ؟
ـ نعم إنها هي ، ولكنها لم تعد زوجتي والحمد لله ، فقد وفقت إلى إبعادها عن حياتي نهائياً.
ـ وكيف ؟ أعجزت عن إصلاحها ؟
ـ لقد حاولت ذلك إرضاء للمرؤة ولكني لم أفلح ، لقد قضيت أسابيع طوال يؤرقني القلق وتعذبني الحيرة ، حتى حدث أخيراً ما قطع الشك باليقين ...
ـ آه ! ...
ـ نعم ... ولهذا فقد تمكنت أن أتحرر من سلطانها ونفوذها الشيطاني.
ـ وكيف ؟؟
ـ طلقتها منذ أيام ..
ـ يا لها من تعيسة !
ـ لا يا نقاء ! إن التعاسة تحتاج إلى شعور وإلى قلب وإلى كرامة ، أما هذه فلا تملك شيئاً من هذه الأمور ، ولهذا فهي لن تكون تعيسة مطلقاً.


( 213 )

فاستغربت نقاء ذكره لاسمها وهي لم تخبره به من قبل ، فسألته في استغراب قائلة :
ـ من أين تعرفت على اسمي ؟ فأنا لم أذكره أمامك على ما أظن.
ـ أبداً فقد كنت حريصة على أن لا تذكريه ، ولكن سعاد هي التي ذكرته لي.
ـ فبغتت نقاء وسارعت تقول :
ـ سعاد ! ومن تكون سعاد هذه ؟
ـ إنها زوجتي السابقة التي حدثتك عنها منذ دقائق ، إنها الشيطان بعينه ، ليتك كنت رأيتيها لتعرفي ما أقول ...
وغرقت نقاء في فكر عميق ... أتكون سعاد هذه بنت خالتها هي ؟ أيكون هذا الرجل هو زوجها محمود ؟ ولم يسعها إلا أن تسأل بارتباك.
ـ كم من المدة التي قضيتها معها بعد الزواج ؟
ـ أربع سنوات ، عشنا ثلاثة منه في أوروبا.
ـ في أوروبا !
ـ نعم ، ولم نرجع إلا قبل بضع شهور ...
ـ آه ...


( 214 )

ـ ماذا ؟
ـ لا شيء ..
ـ هل أزعجك حديثي عن سعاد ؟
ـ لا ، أبداً ...
ولكن محمود عرف أنها ليست على حالها الطبيعي ، ولكنه لم يعرف لذلك سبباً ، فعاد يقول :
ـ نعم إن سعاد هي التي ذكرت اسمك لي.
ـ وبماذا كانت تذكرني ؟
ـ أنا لم أصارحك بالحقيقة بعد ... ولابد لي أن أصارحك بها مهما كلفني ذلك من آلام : إن سعاد هي التي دفعتني إلى ارتكاب ذلك الخطأ الفظيع .. فقد صورتك لي على صورة هي طبق الأصل لصورتها الواقعية ، وكانت المادة تعمي بصري وتسيرني بسلطانها ، فصدقتها بما ادعت وأنت تعلمين النتيجة ...
ـ أو علمت سعاد هذا كله ؟ هل حقاً أنها هي التي كانت تدفعك إلى ذلك ؟‍
ـ إي وربي ‍ وقد أعطتني أوصافك لأتعرف عليك في المطار.


( 215 )

ـ يا لها من امرأة ؟!
ـ نعم ، يا لها من امرأة !
ـ لم أكن أظن أنها سوف تنزل إلى هذا المستوى.
ـ أكنت تعرفينها من قبل ؟
ـ نعم إنها بنت خالتي !
ـ بنت خالتك ! إذا فأنت تلك الفتاة التي كانت تحدثني عنك ...
ـ عن تأخر أفكاري ورجعيتي في الحياة .
ـ تماماً.
ـ ولكن ...
ـ ولكن ماذا ؟ وهذه آخر صفحة عار من حياتها اكتشفتها الآن عن بنت خالتك ، وهي تقف مثل هذا الموقف المشين ، حقاً لست أدري بماذا ينبغي أن أصف هذا الجرم الفظيع !.
ـ وإذا أردت أن تكون رجل اليوم فلا تصفها بأي شيء واتركها ومصيرها المظلم.
ـ ولكنها بلغت من الدناءة...
ـ أرجوك يا أخي محمود لا تأت على ذكرها بعد الآن ، يكفيها من تلاقي من آلام.


( 216 )

ثم سكتت نقاء وهي لا تكاد تصدق ما سمعته بأذنيها منذ لحظات ، ولا تعرف لذلك سبباً ، أي بغضاء هائلة هذه التي بعثت سعاد إلى إلقاء هذه الأحابيل ، فهي لا تذكر أنها أساءت إليها يوماً ما ، ولم يشأ محمود أن يقطع عليها سلسلة تفكيرها ، ولكنها نظرت إلى ساعتها ثم نهضت وهي تقول :
ـ إن عليّ أن أذهب إلى البيت ، فلدي موعد مع بعض الصديقات فنهض محمود أيضاً ، وقال :
ـ هل لي أن أسأل عن موعد قدوم السيد ابراهيم ، وعن السبب في سفره إلى باريس ؟
ـ أما السبب فهو تقديم الأطروحة للحصول على شهادة الدكتوراه ، وقد حصل عليها ، وأبرم عقود جديدة مع بعض الشركات الأجنبية ليحصل على وكالات لبيع منتوجاتها هنا ، وأما موعد قدومه فهو صباح يوم الأربعاء في الساعة الثانية عشر.
ـ أيمكن لي أن أكون من جملة المستقبلين ؟
ـ طبعاً فقد كتبت له عنك وحدثته عن جميع التطورات ...
ـ يا لك من شخصية نادرة ، أيمكن أن تصل ثقتي بنفسي يوماً ما إلى هذا المستوى ؟


( 217 )

ـ نعم ، إذا استضاءت جميع جنبات روحك بنور الايمان.
ـ إذن فأنت تسمحين لي بالذهاب إلى المطار ؟
ـ وبكل ترحيب.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net