متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
7 . المرحلة الثالثة: عصمة النبي عن الخطأ
الكتاب : عصمة الأنبياء في القرآن الكريم    |    القسم : مكتبة رد الشبهات

المرحلة الثالثة

7

عصمة النبي عن الخطأ

انّ صيانة النبي عن الخطأ والاشتباه سواء أ كان في مجال تطبيق الشريعة، أم في مجال الأُمور العادية الفردية المرتبطة بحياته، ممّا طرح في علم الكلام وطال البحث فيه بين متكلمي الإسلام.

غير انّ تحقق الغاية من البعثة رهن صيانته عن الخطأ في كلا المجالين، وإلاّ فلا تتحقق الغاية المتوخاة من بعثته، وهذا هو الدليل العقلي الذي اعتمدت عليه العدلية، بعدما اتفق الكل على لزوم صيانته عن الخطأ والاشتباه في مجـال تلقي الوحي وحفظه، وأدائه إلى الناس، ولم يختلف في ذلك اثنـان.


( 58 )

منطق العقل في عصمة النبي عن الخطأ

وإليك توضيح هذا الدليل العقلي: إنّ الخطأ في غير أمر الدين وتلقّي الوحي يتصوّر على وجهين:

أ. الخطأ في تطبيق الشريعة كالسهو في الصلاة أو في إجراء الحدود.

ب. الاشتباه في الأُمور العادية المعدة للحياة كما إذا استقرض ألف دينار، وظن أنّه استقرض مائة دينار.

والحقّ انّه مصون من الاشتباه والسهو في كلا الموردين، وذلك لأنّ الغاية المتوخاة من بعث الأنبياء هي هدايتهم إلى طريق السعادة، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بكسب اعتماد الناس على صحة ما يقوله النبي وما يحكيه عن جانب الوحي، وهذا هو الأساس لحصول الغاية، ومن المعلوم أنّه لو سها النبي واشتبه عليه الأمر في المجالين الأوّلين ربّما تسرب الشك إلى أذهان الناس، وانّه هل يسهو أيضاً في ما يحكيه من الأمر والنهي الإلهي أم لا ؟

فبأي دليل أنّه لا يخطأ في هذا الجانب مع أنّه يسهو في


( 59 )
المجالين الآخرين؟! وهذا الشعور إذا تغلغل في أذهان الناس سوف يسلب اعتماد الناس على النبي، وبالتالي تنتفي النتيجة المطلوبة من بعثه.

نعم، التفكيك بين صيانته في مجال الوحي وصيانته في سائر الأُمور وإن كان أمراً ممكناً عقلاً ، ولكنه ممكن بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية ونحوها، وأمّا العامّة ورعايا الناس الذين يشكّلون أغلبية المجتمع، فهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلاً على إمكان تسرّب السهو إلى المرحلة الأُخرى.

ولأجل سدّ هذا الباب، المنافي للغاية المطلوبة من إرسال الرسل، ينبغي أن يكون النبي مصوناً في عامّة المراحل، سواء أكانت في حقل الوحي أو في تطبيق الشريعة أو في الأُمور العاديّة، ولهذا يقول الذكر الحكيم في حقّ المسيح (وَأَيّدناهُ بِرُوحِ القُدُس)(1) و الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ : «جعل

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . بقره:253.


( 60 )
مع النبي روح القدس وهي لا تنام ولا تغفل ولا تلهو ولا تسهو».(1)

وعلى ذلك فبما أنّه ينبغي أن يكون النبي اسوة في الحياة في عامة المجالات يجب أن يكون نزيهاً عن العصيان أو لا الخلاف والسهو والخطأ ثانياً.

منطق القرآن في عصمة النبي عن الخطأ

قد عرفت منطق العقل في لزوم عصمة النبي من الخطأ في مجال تطبيق الشريعة، ومجال الأُمور العادية المعدّة للحياة، وهذا الحكم لا يختص بمنطقه، بل الذكر الحكيم يدعمه بأحسن وجه، وإليك ما يدل على ذلك:

1. قال سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً)(2) ، وقال أيضاً: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . بصائر الدرجات:454.
2 . النساء: 105.


( 61 )

يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).(1)

وقد نقل المفسرون حول نزول الآيات وما بينهما من الآيات روايات رووها بطرق مختلفة نذكر ما ذكره ابن جرير الطبري عن ابن زيد قال: كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وطرحه على يهودي، فقال اليهودي: واللّه ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت عليّ وكان للرجل الذي سرق، جيران يبرؤنه ويطرحونه على اليهودي، ويقولون: يا رسولَ اللّه إنّ هذا اليهودي الخبيث يكفر باللّه وبما جئت به، قال: حتى مال عليه النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ببعض القول فعاتبه اللّه عزّ وجلّ في ذلك فقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً).(2)

أقول: سواء أصحت هذه الرواية أم لا، فمجموع ما ورد حول الآيات من أسباب النزول متفق على أنّ الآيات نزلت حول شكوى رفعت إلى النبي، وكان كل من المتخاصمين

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النساء: 113.
2 . تفسير الطبري: 5/172.


( 62 )
يسعى ليبرئ نفسه ويتهم الآخر، وكان في جانب واحد منهما رجل طليق اللسان يريد أن يخدع النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ببعض تسويلاته ويثير عواطفه على المتهم البريء حتى يقضي على خلاف الحق، وعند ذلك نزلت الآية ورفعت النقاب عن وجه الحقيقة فعُرِف المحقُّ من المبطل.

والدقة في فقرات الآية الثانية يوقفنا على سعة عصمة النبي من الخطأ وصيانته من السهو، لأنّها مؤلفة من فقرات أربع، كل يشير إلى أمر خاص :

1. (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء ) .

2. (وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) .

3. (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) .

4. (وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) .

فالأُولى منها: تدل على أنّ نفس النبيّ بمجردها لا تصونه من الضلال (أي من القضاء على خلاف الحق) وإنّما يصونه سبحانه عنه، ولولا فضل اللّه ورحمته لهمّت طائفة أن


( 63 )
يرضوه بالدفاع عن الخائن والجدال عنه، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الذي صدّه عن مثل هذا الضلال وأبطل أمرهم المؤدي إلى إضلاله، وبما أنّ رعاية اللّه سبحانه وفضله الجسيم على النبي ليست مقصورة على حال دون حال، أو بوقت دون وقت آخر ، بل هو واقع تحت رعايته وصيانته منذ أن بعث إلى أن يلاقي ربَّه، فلا يتعدى إضلال هؤلاء أنفسهم ولا يتجاوز إلى النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فهم الضالون بما هموا به كما قال: (وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء ) .

والفقرة الثانية: تشير إلى مصادر حكمه ومنابع قضائه، وأنّه لا يصدر في ذلك المجال إلاّ عن الوحي والتعليم الإلهي، كما قال سبحانه: (وأنزل عليك الكتاب والحكمة) والمراد المعارف الكلية العامة من الكتاب والسنة.

ولما كان هذا النوع من العلم الكلي أحد ركني القضاء وهو بوحده لا يفي بتشخيص الموضوعات وتمييز الصغريات، فلابد من الركن الآخر وهو تشخيص المحق من المبطل، والخائن من الأمين، والزاني من العفيف، أتى بالفقرة الثالثة


( 64 )
وقال: (وعلّمك ما لم تكن تعلم) ومقتضى العطف، مغائرة المعطوف، مع المعطوف عليه، فلو كان المعطوف عليه ناظراً إلى تعرّفه على الركن الأوّل وهو العلم بالأُصول والقواعد الكلية الواردة في الكتاب والسنّة، يكون المعطوف ناظراً إلى تعرّفه على الموضوعات والجزئيات التي تعد ركناً ثانياً للقضاء الصحيح، فالعلم بالحكم الكلي الشرعي أوّلاً وتشخيص الصغريات وتمييز الموضوعات ثانياً جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق من دون أن يجنح إلى جانب الباطل، أو يسقط في هوّة الضلال.

قال العلاّمة الطباطبائي: إنّ المراد من قوله سبحانه: (وعلّمك ما لم تكن تعلم) ليس علمه بالكتاب والحكمة، فإنّ مورد الآية، قضاء النبي في الحوادث الواقعة، والدعاوى المرفوعة إليه، برأيه الخاص، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء، وإن كان متوقفاً عليهما، بل المراد رأيه ونظره الخاص.(1)ولما كان هنا موضع توهم وهو أنّ رعاية اللّه لنبيّه

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الميزان: 5/81.


( 65 )
تختص بمورد دون مورد، دفع ذلك التوهم بالفقرة الرابعة فقال سبحانه: (وكان فضل اللّه عليك عظيماً) حتى لا يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أُخرى، بل مقتضى عظمة الفضل، سعة شموله لكل الوقائع والحوادث، سواء أكانت من باب المرافعات والمخاصمات، أم الأُمور العادية، فتدل الفقرة الأخيرة على تعرّفه على الموضوعات ومصونيته عن السهو والخطاء في مورد تطبيق الشريعة، أو غيره، ولا كلام أعلى وأغزر من قوله سبحانه في حق حبيبه : (وكان فضل اللّه عليك عظيماً) .

2. قال سبحانه: (وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(1) إنّ الشهادة المذكورة في الآية حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه، قال تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيداً)(2) ، وقال تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمّة شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . البقرة: 143.
2 . النساء: 41.


( 66 )

لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)(1)، وقال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)(2)، والشهادة فيها مطلقة، وظاهر الجميع هو الشهادة على أعمال الأُمم وعلى تبليغ الرسل كما يومي إليه قوله تعالى: (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)(3) ، وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة ويوم القيامة لكن يتحملها الشهود في الدنيا على ما يدل عليه قوله سبحانه حكاية عن عيسى: (وكُنْتُ عَلَيِهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّـا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ)(4) ، وقال سبحانه: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)(5)، ومن الواضح أنّ الشهادة فرع العلم، وعدم الخطأ في تشخيص المشهود به، فلو كان النبي من الشهداء يجب ألاّ يكون خاطئاً في شهادته، فالآية تدلّ على صيانته وعصمته من الخطأ في مجال الشهادة

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النحل: 84.
2 . الزمر: 69.
3 . الأعراف: 6.
4 . المائدة: 117.
5 . النساء: 159.


( 67 )
كما تدلّ على سعة علمه، لأنّ الحواس لا ترشدنا إلاّ إلى صور الأعمال والأفعال، والشهادة عليها غير كافية عند القضاء، وإنّما تكون مفيدة إذا شهد على حقائقها من الكفر والإيمان، والرياء والإخلاص، وبالجملة على كل خفيّ عن الحس ومستبطن عند الإنسان، أعني ما تكسبه القلوب وعليه يدور حساب رب العالمين، قال تعالى: (وَلَكِن يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)(1) ، ولا شك أنّ الشهادة على حقائق أعمال الأُمّة خارج عن وسع الإنسان العادي إلاّ إذا تمسّك بحبل العصمة وولي أمر اللّه بإذنه.

وأمّا الأحاديث الحاكية عن سهو النبي في صلاته فهي أخبار آحاد، لا تفيد علماً حتّى يحتجّ بها في حقل العقيدة.

أضف إلى ذلك انّها بظاهرها يخالف الذكر الحكيم ـ كما عرفت ـ ولذا ضربنا عنها صفحاً ولم نستعرضا للبحث والدراسة.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . البقرة: 225.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net