3 . الحج: 54.
( 83 )
ثم إنّه سبحانه يمحو ما يلقي الشيطان ويصحّح ما أُُنزل على رسوله من الآيات، فلو كان هذا مفاد الآية، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلمين على المصونية في هذا المجال.
وربما يؤيد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية، وسيوافيك نصه وما فيه من الإشكال.
فالأولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن انّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدل فنقول: يجب توضيح نقاط في الآيات.
الأُولى: ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟ وإلى مَ يهدف قوله سبحانه: (إذا تمنّى) ؟
الثانية: ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول اللّه سبحانه: (ألقى الشيطان في أُمنيّته) ؟
الثالثة: ما معنى نسخ اللّه سبحانه ما يلقيه الشيطان؟
الرابعة: ماذا يريد سبحانه من قوله: (ثم يحكم اللّه
( 84 )
آياته) وهل المراد منه الآيات القرآنية؟
الخامسة: كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها؟ وكيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين، وإخبات قلوبهم له؟
وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية ومفادها فنقول:
1. ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟
أمّا الأُمنية قال ابن فارس: فهي من المنى، بمعنى تقدير شيء ونفاذ القضاء به، منه قولهم: مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي:
لا تأمنن وان أمسيــت في حرم * حتى تلاقي ما يمني لك الماني
والمنا: القدر، وماء الإنسان: منيّ، أي يُقدّر منه خلقته. والمنيّة: الموت، لأنّها مقدّرة على كل أحد، وتمنّى الإنسان: أمل يقدِّره، ومنى مكة: قال قوم: سمِّي به لما قُدِّر أن يُذبح فيه، من
( 85 )قولك مناه اللّه.
(1)
وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والأنبياء من طريق الكتاب العزيز، ولا يشك من سبر الذكر الحكيم انّه لم يكن للرسل والأنبياء، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً، وكانوا يخططون لهذا الأمر، ويفكّرون في الخطة بعد الخطة، ويمهدون له قدر مستطاعهم، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها:
يقول سبحانه في حق النبي الأكرم: (وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنينَ).(2)
ويقول أيضاً: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرات إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ).(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . المقاييس: 5/276.
2 . يوسف: 103.
3 . فاطر: 8.
( 86 )
ويقول أيضاً: (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرينَ).(1)
ويقول سبحانه: (إِنَّكَ لاتَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).(2)
ويقول سبحانه: (فَذَكِّرْإِنَّما أَنْتَ مُذَكِّر* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بُمُصَيْطِر) .(3)
هذا كلّه في حق النبي الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .
ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته: (وَإِنّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوااسْتِكْباراً * ثُمَّ إِنّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً).(4)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النحل: 37.
2 . القصص: 56.
3 . الغاشية: 21 ـ 22.
4 . نوح: 7 ـ 9.
( 87 )
ويقول سبحانه بعد عدة من الآيات: (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْني وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّخَساراً* وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً* وَقالُوا لا تَذَرُُنَّ آلهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً* وَقَدْأَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِالظّالِمينَ إِلاّ ضَلالاً) .(1)
فهذه الآيات ونظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى اللّه، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن، وان منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع، فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.
إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل، وهلم معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني، أعني:
2.ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل؟
وهذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . نوح: 21 ـ 24.
( 88 )المخالف، وبالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح فنقول: إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين:
1. أن يوسوس في قلوب الأنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم، وانّ هذه الأُمّة، أُمّة غير قابلة للهداية، فتظهر بسبب ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.
ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنص القرآن الكريم، لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء وضمائرهم، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والإرشاد، والقرآن الكريم ينفي تسلل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء ومن دونهم، ويقول سبحانه: (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ).(1)
ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان: (فَبِعِزَّتِكَ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الحجر: 42، الإسراء: 65.
( 89 )
لأُغْوِيَّنَهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).
وليس إيجاد الوهن(1) في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفي بنص الآيات.
2. أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الأنبياء ـ عليهم السَّلام ـ والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخططاتهم عقيمة غير مفيدة.
وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحض أقوام الأنبياء ـ عليهم السَّلام ـ على المخالفة ويعدهم بالأماني، حتى يخالفوهم.
قال سبحانه: (يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيطانُ إلاّ غُرُوراً) .(2)
وقال سبحانه: (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِيَ عَلَيْكُمْ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . ص: 82 ـ 83.
2 . النساء: 120.
( 90 )
مِنْ سُلْطان إِلاّأَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلومُوني وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ).(1)
وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء والرسل، وكانوا يخدعونهم بالعدة والأماني، وعند ذلك يتضح مفاد الآية، قال سبحانه: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنى (أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط، وهيّأ لذلك المقدمات) ألقى الشيطان في أُمنيّته) (بحضِّ الناس على المخالفةوالمعاكسة وإفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدمات عقيمة غير منتجة).
3. ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟
إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه: (فينسخ اللّه ما يلقي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . إبراهيم: 22.
( 91 )
الشيطان) وما معنى هذا النسخ؟
والمراد من ذاك النسخ ما وعد اللّه سبحانه رسله بالنصر، والعون والإنجاح، قال سبحانه: (إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا)(1)، وقال سبحانه: (كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(2)، وقال سبحانه: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) .(3)
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ).(4)
وقال في حق النبي الأعظم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) .(5)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . غافر: 51.
2 . المجادلة: 21.
3 . الأنبياء: 18.
4 . الصافات: 171 ـ 173.
5 . التوبة: 33.
( 92 )
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ).(1)
إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكي عن انتصار الحق الممثَّل في الرسالات الإلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه.
4. ما معنى إحكامه سبحانه آياته؟
إذا تبين معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان، يتبين المراد من قوله سبحانه: (ثم يحكم اللّه آياته).
فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى اللّه سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه.
وإن شئت قلت: إذا نسخ ما يلقيه الشيطان، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً، وسعادة الناس ثانياً.
ومن أسخف القول: إنّ المراد من الآيات، الآيات
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأنبياء: 105.
( 93 )القرآنية التي نزلت على النبي الأكرم، وذلك لأنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الأكرم، بل الرسل والأنبياء على وجه الإطلاق، أضف إليه انّه ليس كل نبي ذا كتاب وآيات، فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله؟
ويعود مفاد الجملة إلى أنّ اللّه سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله اللّه إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة.
والحاصل: انّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للأوّل، والاندحار والهزيمة للثاني فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه، بإرادة اللّه سبحانه، فتخلفها البرامج الحيوية الإلهية وآياته الناصعـة، فيصبح الحق قائماً وثابتاً، والباطل داثراً وزاهقاً، قال سبحانه: (وَقُـلْ جاءَالحَـقُّ وَزَهَقَ الباطِـلُ إِنَّ الْباطِلَ كـانَ زَهُوقاً).(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الإسراء: 81.
( 94 )
5. ما هي النتيجة من هذا الصراع؟
قد عرفت أنّ الآية تعلِّل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث:
1. الذين في قلوبهم مرض.
2. ذات القلوب القاسية.
3. الذين أوتوا العلم.
إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا مافي مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الإخلاص والإيمان.
فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الإلهية، والقلوب القاسية التي أسّرتها الشهوات، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا، تتسابق إلى دعوة الشيطان وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها.
وأمّا النفوس المؤمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب اللّه سبحانه، فلا يزيدها ذلك إلاّ إيماناً وثباتاً
( 95 )وهداية وصمودا.
وهذه النتيجة حاكمة في عامة اختبارات اللّه سبحانه لعباده، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لأجل العلم بواقع النفوس ومكامنها، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ) (1) ، وانّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.
وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علي ـ عليه السَّلام ـ في معنى الاختبار بالأموال والأولاد الوارد في قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَولادُكُمْ فِتْنَةٌ)(2) : «ليتبيّن الساخط لرزقه، والراضي بقسمه، وان كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب».(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الملك: 14.
2 . الأنفال: 28.
3 . نهج البلاغة: قسم الحكم الرقم : 93.
( 96 )
وقد وقفت بعد ما حررت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي ـ قدس اللّه سره ـ وهو قريب مما ذكرناه: قال: المراد من الأُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي ويشهد به سوق الآيات، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى، وتأييد شريعة الحق، ونحو ذلك، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمّنى الصالح ما يشوشه، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم، وأحكام الشريعة بعده، وألقى بين قوم رسول اللّه ما أهاجهم على تكذيبه وحربه وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع، فينسخ اللّه بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق، ثم يحكم اللّه آياته ويؤيد حججه بإرسال الرسل، أو
( 97)تسديد جامعة الدين القيم.
(1)
وما ذكـرهقدَّس سرَّه كلام لا غبار عليه، وقد شيدنا أساسه فيما سبق.
إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسك به بعض القساوسة الطاعنين في الإسلام، ومن حذا حذوهم من البسطاء.
التفسير الباطل للآية
ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الإسلام والتنقيص من شأن القرآن، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا: بأنّ المراد من الآية هو انّ «ما من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه، تدخل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها» واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي، ومحمد بن قيس قالا: جلس رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من اللّه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الهدى إلى دين المصطفى: 1/134.
( 98 )شيء فينفروا عنه، فأنزل اللّه عليه
(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى* ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (1) فقرأها ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ حتى إذا بلغ: (أفَرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزّى * ومَناةَ الثالِثَةَ الأُخْرى) (2) ألقى عليه الشيطان كلمتين: «تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» فتكلم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به وقالوا قد عرفنا: إنّ اللّه يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك، قالا: فلمّا أمسى أتاه جبرائيل ـ عليه السَّلام ـ فعرض عليه السورة، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه، قال ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : افتريتُ على اللّه وقلتُ على اللّه ما لم يقل فأوحى اللّه إليه: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) إلى قوله:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النجم: 1 ـ 2.
2 . النجم: 19 ـ 20.
( 99 )
(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً)(1)، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا نَبِىّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ ما يلقِي الشَّيطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ واللّهُ عَليِمٌ حَكِيمٌ) قال فسمع من كانمنالمهاجرين بأرض الحبشة انّ أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهموقالوا: هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ اللّه ما ألقى الشيطان.(2)
ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الإشكالات التي تسقطه عن صحة الاستناد إليه.
أمّا أوّلاً: فلأنّه مبني على أنّ قوله «تمنّى» بمعنى تلا، وانّ لفظة «أُمنيته» بمعنى تلاوته، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث ولو صح فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الإسراء: 73 ، 75.
2 . تفسير الطبري: 17/131، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.
( 100 )
نعم استدل بعضهم بقول حسان على ذاك الاستعمال:
تمنى كتاب اللّه أوّل ليلة * وآخره لاقى حمام المقادر
وقول الآخر:
تمنى كتاب اللّه آخر ليلة * تمنّي داود الزبور على رسل
وهذان البيتان لو صح اسنادهما إلى عربي صميم كحسان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذة.
أضف إلى ذلك انّ البيت غير موجود في ديوان حسان، وانّما نقله عنه المفسرون في تفاسيرهم، وقد نقله أبو حيان في تفسيره (ج6 ص382) واستشهد به صاحب المقاييس (ج5 ص277).
ولو صح الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الأوّل
( 101 )دون الأُمنية لعدم ورودها فيه.
وثانياً: أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّ سندها ينتهي إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصة.
أضف إلى ذلك، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة وقد جمع تلك الصور المختلفة العلاّمة البلاغي في أثره النفيس، فلاحظ.(1)
وثالثاً: أنّ القصة تكذّب نفسها، لأنّها تتضمن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات، استرسل في تلاوة بقية السورة إلى آخرها وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.
ولكن الآيات التي وقعت بعدهما، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه: (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى* إِنْ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الهدى إلى دين المصطفى: 1/130.
( 102 )
هِيَ إِلاّأَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطان)(1) إلى آخر الآيات.
وعندئذ يطرح هذا السؤال، وهو انّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطيقهم وحكيمهم وشاعرهم: الوليد بن المغيرة عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بهذا الثناء القصير، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندد بآلهتهم بشدة وعنف، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الإلوهية إلاّ الاسم والعنوان؟!
أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاً لها، وقد قيل: لا ذاكرة لكذوب.
ورابعاً: أنّ اللّه سبحانه يصف في صدر السورة نبيه الأكرم بقوله: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى) (2)، وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيه في أوّل السورة بهذا الوصف، ثم يبدر من نبيه ما ينافي هذا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النجم: 22 ـ 23.
2 . النجم: 3 ـ 4.
( 103 )التوصيف أشد المنافاة وفي وسعه سبحانه صون نبيه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير؟!
وخامساً: أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات، تكذبهما سائر الآيات الدالة على صيانة النبي الأكرم في مقام تلقّي الوحي والتحفظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً).(1)
وقوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأَقاوِيلِ* لأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ).(2)
وسادساً: أنّ علماء الإسلام، وأهل العلم والدراية من المسلمين قد واجهوا هذه الحكاية بالرد، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها.(3)
وقال النسفي: إنّ القول بها غير مرضيّ. وقال الخازن في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الجن: 27.
2 . الحاقة: 44 ـ 46.
3 . تنزيه الأنبياء: 109.
( 104 )تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصة ولم يروها أحد من أهل الصحة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متصل، وإنّما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصة اضطراب رواتها، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها.
(1)
هذه هي أهم الإشكالات التي ترد على القصة وتجعلها في موضع من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصة وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا «سيّد المرسلين»(2)، ولا نطيل المقام بذكرها.
وآخر دعوانا
ان الحمد للّه ربّ العالمين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الهدى إلى دين المصطفى: 1/130.
2 . كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الأكرم من ولادته إلى وفاته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وقد طبع في جزءين.