متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
صحيحة القداح ـ تحليل الرواية
الكتاب : الحكومة الإسلامية    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

صحيحة القداح

روى علي بن ابراهيم، عن ابيه، عن حماد بن عيسى، عن القداح (عبد الله بن ميمون)[7] عن ابي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص) : "من سلك طريقاً يطلب فيه علما، سلك الله به طريقا إلى الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به. وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الارض، حتى الحوت في البحر. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على ساير النجوم ليلة البدر. وإن العلماء ورثة الانبياء. إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورَّثوا العلم. فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر"[8]

رجال الحديث كلهم ثقات، حتى أن والد علي بن ابراهيم[9] (ابراهيم بن هاشم)[10] من كبار الثقات (المعتمدين في نقل الحديث) فضلاً عن كونه ثقة. وهذه الرواية قد نقلت باختلاف يسير في المضمون بسند آخر ضعيف. أي أن السند إلى ابي البختري صحيح، لكن نفس ابي البختري[11] ضعيف. والرواية هي:

عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، عن أبي البختري، عن ابي عبد الله (ع) قال: "إن العلماء ورثة الانبياء. وذاك أن الانبياء لم يورِّثوا درهماً ولاديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم. فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً. فانظروا علمكم هذا عمَّن تأخذونه. فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجأهلين"[12].

تحليل الرواية:

إن غايتنا من نقل هذه الرواية، والتي قد تمسك بها المرحوم النراقي[13] أيضاً، هو توضيح معنى جملة "العلماء ورثة الانبياء" الواردة فيها. وهنا عدة ابحاث:

1ـ من هم المقصودون من "العلماء"؟ هل هم علماء الامة؟ أو الائمة (ع) ؟ إذ قد احتمل البعض أن المقصود هم الائمة (ع)[14] ونفس الحديث يدل على انه ليس المراد منهم الائمة (ع). اذ أن نمط المناقب الواردة للائمة (ع) يختلف، فهذه العبارات من قبيل "ان الانبياء انما أورثوا احاديث من أحاديثهم، فمن أخذ منه أخذ وافر" لا تصح لتعريف الائمة (ع). فهذه الجمل شاهدة على أن المراد علماء الامة. وكذلك ورد في رواية ابي البختري بعد جملة "العلماء ورثة الانبياء" قوله: "فانظروا علمكم هذا عمَّن تأخذونه". حيث يظهر منها أنه (ع) يريد أن يقول: العلماء ورثة الانبياء، فالقول بأن المراد هو أن الأئمة ورثة الانبياء، وأن الناس يجب أن يأخذوا علمهم عن الائمة خلاف للظاهر. وكل من لاحظ الروايات الواردة حول الائمة (ع) وعرف موقعهم عند رسول الله (ص) يلتفت إلى أنه ليس المراد من هذه الرواية الائمة (ع) وإنما المراد علماء الامة، كما أنه قد ورد الكثير من الروايات في أمثال هذه المناقب للعلماء مثل: "علماء أمتي كسائر أنبياء قَبلي". "وعلماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل"[15]. وعلى اية حال فكون المراد هو علماء الامة أمر ظاهر.

2ـ يمكن ان يقال اننا لا نستطيع استفادة ولاية الفقيه من جملة "العلماء ورثة الانبياء" بمفردها. إذ أن الأنبياء فيهم جهة نبوة، وهي أنهم يتلقّون العلم من مبدأ أعلى بواسطة وحي أو الهام أو نحو آخر. لكن هذه الحيثية لا تقتضي الولاية على الناس والمؤمنين. وما لم يجعل الله تعالى لهم الإمامة والولاية فهم لا يمتلكونها، وإنما يكونون أنبياء فحسب. وإذا أمروا بالتبليغ، فعليهم ايصال ما لديهم للناس. وفي أحاديثنا قد فُرِّق بين النبي والرسول، بأن الرسول مأمور بالتبليغ، بينما النبي يتلقى فحسب[16].

وبما أن حيثية النبوة وحيثية الولاية تختلفان عن بعضهما، وفي عبارة "العلماء ورثة الانبياء" كان المراد الوصف العنواني للانبياء، وقد نُزِّل العلماء بلحاظ هذا الوصف العنواني[17] منزلة الانبياء، وهذا الوصف لا يقتضي الولاية. فبناءاً عليه نحن لا نستطيع أن نستفيد ثبوت الولاية للعلماء من هذه الجمل. نعم لو كان قد قال (ع) أن العلماء بمنزلة موسى أو عيسى (ع) لفهمنا من ذلك أنه كما أن موسى (ع) كان يمتلك جميع الحيثيات التي منها الولاية، فالعلماء كذلك يمتلكون حيثية الولاية. لكن بما أنه (ع) لم يقل ذلك، ولم ينزِّل العلماء منزلة الشخص، فلا يمكننا ان نستفيد من هذه الجملة معنى كهذا.

جوابا على هذا الاشكال ينبغي أن نقول أن الميزان في فهم الروايات وظواهر الالفاظ هو العرف العام والفهم المتعارف للناس، لا ما تؤدي اليه التجزئة والتحليل العلمي. ونحن أيضاً نتبع فهم العرف. فلو أراد الفقيه أن يدخل التدقيق العلمي في فهم الروايات لتوقف في كثير من المسائل. بناءاً عليه لو عرضنا عبارة "العلماء ورثة الانبياء" على العرف، فهل يرد في أذهانهم أن المراد هو الوصف العنواني للأنبياء، وأن التنزيل إنما هو بلحاظ هذا الوصف العنواني فقط؟ أم أن هذه الجملة تجعل أمارة على الاشخاص ؟ بحيث لو سئل العرف هل: أن الفقيه الفلاني بمنزلة موسى وعيسى (ع) لأجاب: وفقا لهذه الرواية نعم. لأن موسى وعيسى (ع) من الانبياء. أو لو سئل: هل الفقيه وارث لرسول الله (ص) ام لا؟ لأجاب بالإيجاب. لأن رسول الله (ص) من الانبياء.

بناءاً عليه لا نستطيع ان نأخذ "الانبياء" وصفا عنوانيا، خصوصا وأنها بصيغة الجمع. فلو جيء بها بلفظ المفرد لكان هناك احتمال. لكن عندما قال (ع) : "الانبياء" بصيغة الجمع، فهذا يعني كل فرد من الانبياء. وليس كل فرد من الانبياء بما هم أنبياء، ليكون الملحوظ الوصف العنواني[18] ويفصل هذا الوصف العنواني عن باقي الأوصاف، ويقال: ان الفقيه بمنزلة النبي، لا بمنزلة الرسول، ولا بمنزلة الولي. فهذه التجزئة وهذا التحليل في باب الروايات هو خلاف لفهم العرف والعقلاء.

3ـ لنفرض أننا قبلنا أن التنزيل تم بلحاظ الوصف العنواني، وأن العلماء هم بمنزلة الانبياء ـ بما هم أنبياء ـ عندئذٍ يجب أن يثبت للعلماء بحسب هذا التنزيل الحكم الذي أثبته الله للانبياء.

فلو قلنا مثلا: ان الشخص الفلاني عادل، ثم قلنا: ان اكرام العادل واجب. يُفهم من هذا الحكم والتنزيل وجوب إكرام ذلك الشخص. بناءاً على هذا يمكننا أن نستفيد من الآية الشريفة {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}[19] ثبوت منصب الولاية للعلماء أيضاً. ببيان أن المراد من الأولوية: الولاية والإمارة. كما ينقل كتاب "مجمع البحرين"[20] رواية عن الامام الباقر (ع) حول هذه الآية الشريفة يقول فيها: ان هذا الآية قد نزلت في الامارة[21] أي الحكومة والولاية. وبناءاً عليه فالنبي له ولاية وإمارة على المؤمنين، ونفس هذه الولاية والامارة ثابتة للعلماء أيضاً. لأنها وردت في الآية بلحاظ الوصف العنواني، كما تم التنزيل في الرواية على الوصف العنواني أيضاً.

وبالإضافة إلى ذلك، فإننا نستطيع الاستدلال بالآيات التي أثبتت للرسول (ص) بعض الأحكام، كقوله تعالى في الآية الشريفة: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. وذلك بأن نقول: أنه لا فرق بين "النبي" و"الرسول" بنظر العرف ـ وان كانت بعض الروايات قد فرقت بين الرسول والنبي في كيفية نزول الوحي[22] ـ لكن النبي والرسول في نظر العرف والعقلاء بمعنى واحد. فالنبي في نظر العرف هو الشخص الذي ينبئ من قبل الله. والرسول هو الشخص الذي يوصل ما أمره الله به إلى الناس.

4ـ يمكن القول بأن الأحكام التي تركها الرسول (ص) بعد وفاته هي نوع من الميراث ـ وان كانت لا تسمى ميراثا بحسب الاصطلاح ـ والذين يأخذون هذه الأحكام هم ورثة النبي، لكن من أين يُعلَمُ أن منصب الولاية على جميع الناس الذي يمتلكه الرسول الأكرم (ص) قابل لأن يورَّث ويكون ميراثاً؟ فلعل القابل للوراثة هي هذه الأحكام والأحاديث فحسب. وفي نفس هذه الرواية أيضاً قد ذكر أن الأنبياء يورِّثون العلم، وكذلك قال (ع) في رواية ابن البختري: "انما أورثوا احاديث من احاديثهم". مما يدل على انهم انما ورثوا احاديثهم، والولاية ليست قابلة للارث والميراث.

وهذا الأشكال أيضاً غير صحيح. وذلك لأن الولاية والامارة من الأمور الاعتبارية والعقلائية، وفي هذه الأمور يجب أن نرجع إلى العقلاء لنرى هل يعتبرون انتقال الولاية والحكومة من شخص إلى شخص آخر وراثة ام لا؟ فلو سئل عقلاء الدنيا مثلا عمن قد ورث السلطة الفلانية، فهل يجيبون بأن هذا المنصب لا يقبل الوراثة؟ أم يقولون أن فلان مثلا هو وريث العرش والتاج؟ وأساساً فإن هذه الجملة "وريث التاج والعرش" من العبارات المعروفة. فلاشك في أن الولاية في نظر العقلاء قابلة للانتقال، كمثل الأرث من الأموال التي تنتقل من شخص إلى آخر.

ومن يلاحظ الآية الشريفة {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} والرواية التي تقول "العلماء ورثة الانبياء" يلتفت إلى أن المراد هي نفس هذه الأمور الاعتبارية التي يرى قابلية انتقالها عقلا.

لو كانت هذه العبارة "العلماء ورثة الانبياء" واردة في حق الائمة (ع) كما ورد في الرواية انهم (ع) ورثة النبي (ص) في كل شيء[23]، لكنا ترددنا في القول: أن الأئمة (ع) ورثة النبي (ص) في كل شيء. ولما قال أحد أن الوراثة هي في العلم والمسائل الشرعية فحسب.

بناءاً على هذا، لو كنّا نحن وجملة العلماء ورثة الانبياء فقط، وصرفنا النظر عن صدر الرواية وذيلها، فالظاهر أن جميع شؤون النبي (ص) القابلة للانتقال بعد وفاته ـ ومنها الامارة على الناس الثابتة للائمة (ع) من بعده ـ ثابتة للفقهاء أيضاً. ماعدا الشؤون التي تخرج بدليل آخر. ونحن نخرجها بمقدار ما يدل الدليل.

الجزء الاساسي الباقي من الاشكال المذكور هو: أن جملة «العلماء ورثة الانبياء» وقعت ضمن فقرات يمكن أن تكون قرينة على أن المراد من الميراث الاحاديث. إذ في صحيحة القداح: "ان الانبياء لم يورِّثوا درهما ولا دينارا ولكن ورَّثوا العلم"، وفي رواية ابي البختري يقول بعد جملة لم يورثوا درهما ولا دينارا: "وانما أورثوا أحاديث من أحاديثهم" فهذه العبارة قرينة على ان ميراث الانبياء هي الاحاديث، وأنه لا يبقى منهم شيء آخر يكون قابلا للارث. وخصوصا أنه قد صدرت الجملة "بإنما" مما يدل على الحصر.

 وهذا الاشكال غير تام. إذ لو كان المراد أن النبي الأكرم (ص) لم يترك شيئا يورث سوى أحاديثه، فهذا خلاف ضرورة مذهبنا. إذ أن الرسول (ص) قد ترك أشياء تورث. ولا ترديد في أن الرسول (ص) كان له ولاية على الأمة، وأن أمر الولاية انتقل بعده إلى أمير المؤمنين (ع) ومن بعده للأئمة (ع) الواحد تلو الآخر. وكلمة "إنما" هنا حتما ليست للحصر، وفي الاساس ليس من المعلوم أن لها دلالة على الحصر.

هذا بالاضافة إلى عدم وجودها في صحيحة القداح، وهي وردت في رواية ابي البختري التي قلنا أنها ضعيفة السند.

فلنقرأ عبارة الصحيحة لنرى هل يمكن أن تكون فقراتها قرينة على أن ميراث الانبياء مختص بالاحاديث أم لا.

"من سلك طريقا يطلب فيه علما، سلك الله به طريقا إلى الجنة" هذه الجملة مدح للعلماء. ولا يتوهم أحد أن هذا الثناء يشمل كل عالم مهما كان وضعه. ارجعوا إلى الروايات الموجودة في الكافي حول أوصاف العلماء ووظائفهم[24] ليتضح لكم أن الإنسان لا يصير عالما ووريثا للانبياء بمجرد تحصيله لشيء من العلم، وانما له وظائف، مما يجعل المسألة أكثر تعقيدا.

"وان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم رضا به"، معنى "وضع الاجنحة" معلوم عند أهله[25] وليس محلا للبحث الآن. فهذا العمل من باب الاحترام وخفض الجناح والتواضع.

"وانه ليستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الارض، حتى الحوت في البحر".

وهذه الجملة تحتاج لشرح مفصل وهو خارج عن محل بحثنا الآن.

"وفضل العالم على العابد كفضل القمر على ساير النجوم ليلة البدر" ومعنى هذه الجملة أيضاً واضح.

"وان العلماء ورثة الانبياء" من بداية الرواية إلى هنا كان المقام مقام الثناء على العلماء، وبيان فضائلهم وأوصافهم. واحدى فضائلهم هي كونهم ورثة الانبياء. وإنما تكون وراثة الانبياء فضيلة لهم عندما تكون لهم ـ كالانبياء ـ ولاية وحاكمية على الناس، وتكون طاعتهم واجبة.

وأما كون ذيل الرواية يتضمن: "ان الانبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً" فلا يعني أن الأنبياء لا يورثون شيئاً غير العلم والحديث، وإنما هذه الجملة كناية عن أنهم ـ مع كونهم أولياء للأمور وحكاما على الناس ـ فهم رجال إلهيون وليسوا بماديين لكي يسعوا وراء جمع زخارف الدنيا. وإن أسلوب حكومة الأنبياء يختلف عن الحكومة الملكية والحكومات المتعارفة، التي تتحول بالنسبة إلى المتصدي لها مصدرا لجمع المال وتخزينه. لقد كان نمط حياة الرسول الأكرم (ص) في غاية البساطة. فلم يستفد من مقامه ومنصبه لصالح حياته المادية، لكي يخلِّف شيئا وراءه. وما يتركه حين يرحل هو: العلم الذي هو أشرف الاشياء، وخصوصا العلم الذي يكون من الله تعالى. وربما كان تخصيص "العلم" بالذكر في الرواية لهذا السبب. بناءاً على هذا لا يمكن القول: بما أن أوصاف العلماء قد ذكرت في هذه الرواية، وذكر فيها وراثة العلم وعدم توريث المال، فهي ظاهرة في أن العلماء إنما يورثون العلم والحديث بشكل منحصر.

في بعض الموارد ذُيِّل هذا الحديث بجملة "ما تركناه صدقةً" وهي ليست من الحديث، وقد أضيفت إليه لغاية سياسية. إذ أن هذا الحديث موجود في فقه العامة أيضاً[26]

غاية ما يمكن أن يقال هنا أنه مع احتمال كون هذه الفقرات قرينة، فنحن لا نستطيع التمسك باطلاق جملة "العلماء ورثة الانبياء" ونقول: كل ما كان للانبياء فهو للعلماء. لكن ليس صحيحا كون احتمال قرينية هذه الفقرات يوجب القول بظهور الرواية في أن العلماء إنما يرثون من الانبياء العلم فقط. ومن ثم تقع المعارضة بين هذه الرواية والروايات التي ذكرناها فيما سلف، والتي تدل على مطلبنا. وان هذه الرواية تهدم تلك المطالب. اذ لا يستفاد شيء كهذا من هذه الرواية.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net