متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الفصل التاسع
الكتاب : امرأتان و رجل    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات
تسلمت رحاب رسالة مصطفى وذهبت بعد قراءتها إلى غرفة حسنات حيث أخذت من بين كتبها الكتب الثلاث مع أنها لم تكن موجودة وانهمكت في مطالعتها بجد واستيعاب وقدمت إجازة مرضية لمدة اسبوع تفرغت خلالها لسبر الكتب الثلاث وأحست بعد الفراغ منها أنها أصبحت تؤمن بالله إيماناً مركزاً لا شك فيه ولا مراء ولكنها كانت لا تزال بحاجة إلى مزيد من المعرفة وكانت هناك أسئلة كثيرة ما زالت تعشعش في فكرها فجلست تكتب إلى مصطفى لتقول :
عزيزي مصطفى
كيف تقول أنك قد أتعبتني فيما كتبت مع أنك بدأت تكشف عن عيني غشاوة طالما حالت بيني وبين معرفة الطريق ،


( 386 )

وأسلمتني إلى التيه والضلال ، وها أنا ذي أطلب منك المزيد بعد أن قرأت الكتب التي ذكرتها وشعرت بالكثير من الراحة النفسية ، فهل تراك على استعداد لأن تكتب إلي من جديد وأن تذكر لي مزيداً من الحقائق التي ذكرتها سابقاً ؟ ثم أرجو أن تعلم بأنني بدأت أولد من جديد وأن حاجتي إلى مزيد من المعرفة حاجة الطفل الرضيع إلى الحليب ، ولعل في هذا ما يدفعك أو يشجعك على تحمل ما أكلفك به من جهد لم أكن لأستحقه منك ولكنني أرجوك أن لا تخذلني وأنا في أمس الحاجة إليك ـ أقصد إلى علمك ودرايتك ـ
حسنات
* * *

وصلت رسالة رحاب إلى مصطفى فقرأها بامعان ثم بادر إلى الكتابة لها لأنه كان على أبواب الامتحان فكتب يقول :

بسم الله الرحمن الرحيم

عزيزتي حسنات


( 387 )

السلام عليك ورحمة الله وبركاته
أكتب اليك متمنياً لك السعادة الكاملة في الدارين وقد ارتحت لرسالتك الأخيرة لما كانت تعبر به عن اجتيازك لمرحلة العبور ورحلتك الموفقة من الشك إلى اليقين ، فهنيئاً لك هذا الميلاد الجديد الذي أرجو أن يكون ميلاداً سعيداً وكل عام وأنتِ ومن معك بخير ، ولا تحسبي أنني متبرم بشيء مما تريدين بل على العكس من ذلك تماماً. فإن مما يسعدني أن يكون الله عز وجل قد اختارني لأقف إلى جوارك في محنتك بدينك وإيمانك فأكون سبباً لكشف الحقائق أمامك ، هذه الحقائق التي طمست معالمها الأفكار الهدامة فكنتِ أنت ضحية من ضحاياها وها أنت وقد استجبت لصوت الحق الذي يناديك ليأخذ بيدك من الظلمات إلى النور ولهذا فأنا راض ومقتنع بضرورة الكتابة اليك أكثر فأكثر وإن كنت أجد في الكتب التي ذكرتها لك رصيداً يغنيك عن كل سؤال ، أما وأنك ما زلت تريدين المزيد فهاك منه بعضاً وهذا البعض له ارتباط


( 388 )

بأجسامنا ، فهل سبق لك أن وقفتِ حائرة أمام النظام المعقد لأسلاك الهاتف ، وكيف أن مكالمة تنتقل عبر الأسلاك من مصر إلى لندن أو من العراق إلى واشنطن ؟ لا شك أنه أمر معقد جداً يبعث لمتأمله الحيرة ويدفعه إلى الاعجاب بالمصممين البارعين لهذا النظام ، ولكن لماذا لا يقف الانسان قليلاً أمام نظام أوسع من هذا النظام وأشد تعقيداً ، ألا وهو نظامنا العصبي ! ان ملايين الأخبار تجري على أسلاك نظامنا العصبي من جانب إلى آخر ، لا تتوقف ليلاً ولا نهاراً ، تقوم بمهمتها في توجيه القلب والتحكم في حركات الأعضاء ، وحينما كان لا بد لكل نظام من مركز فان مركز هذا النظام للمواصلات هو مخ الانسان وفيه يوجد ألف مليون خلية عصبية ، ومن هذه الخلايا تخرج أسلاك تنتشر في سائر جسم الانسان وهي ما يسمى بالأنسجة العصبية... وفيها في هذه الأنسجة يوجد نظام استقبال ، ونظام إرسال ، وبواسطتها نسمع ، ونتذوق ، ونرى ، ونقوم بشتى


( 389 )

أعمالنا ... هذا المخ هل تأملتِ كم يضم بين جوانبه من أسماء ، وأرقام ، وتصورات لأحداث طويلة ، وقصيرة ، وصور لوجوه لا تعد ولا تحصى ، يعرف بعضها ويجهل البعض الآخر ؟ فكيف وأين تختفي كل هذه الاسماء والارقام والأحداث والصور وحجم المخ كما تعلمين صغير ؟ أفتراها الطبيعة الغير ذات الشعور هي التي نظمت للمخ هذا النظام وجعلته مركزاً لانطلاق الأفكار والأعمال في جسم الانسان ؟ هل تعقلين هذا يا حسنات ؟ أو هل هناك عاقل يؤمن به حقاً دون رغبة منه في عناد أو مراء ؟ ثم هل تعلمين أن هناك الكثير من الآلات والمكائن هي في الواقع تقليد لما خلقه الله عز وجل فعدسة الكاميرا مثلاً ، هي كالشبكة الخارجية للعين ، والحجاب الحاجز هو يقوم مقام قزحية العين ، والفلم الذي يتأثر بالضوء في جهاز الكاميرا ما هو إلا تقليد شاشة العين ، التي توجد فيها خطوط وأشكال مخروطية ترى الأشكال وهي معكوسة ولكن ليس هناك من يجرؤ على القول أن


( 390 )

الكاميرا صنعت نفسها بنفسها ، وإن وجد يجرأ من يقول أن العين خلقت بدون خالق وان الصدفة وحدها هي التي نظمتها على هذا الشكل !! ثم هل تعلمين أن جامعة من جامعات موسكو قد ابتكرت آلة لقياس الذبذبات تحت الصوتية ومهمتها التقاط أخبار الفيضان والزلزال قبل حدوثها بساعات ، وقد استوحى العلماء فكرة هذه الآلة من سمكة قنديل البحر التي تسمى ( هلامي ) إذ أنها تستشعر بحدوث الفيضان والزلزال قبل حدوثها بساعات ، فقلد المهندسون أعضاءها التي هي من الحساسية بشكل يجعلها تتحسس حتى الذبذبات تحت الصوتية ؟ هذه أمثلة قصيرة ولك أن تراجعي كتاب مع الله في السماء وكتاب الطب محراب الايمان ، وكتاب طبائع الأحياء لتتعرفي على شيء مما خلق الله عز وجل ولك مني أصدق التمنيات والتحيات.

مصطفى


( 391 )

وصلت رسالة مصطفى إلى رحاب أسرع مما كانت تنتظر لأنه تعجل جوابها قبل بداية الامتحان ، فاستعارت من حسنات الكتب التي ذكرها فزادها ما قرأت إيماناً واطمئناناً ولكنها كانت لا تزال تحس أن هناك سؤالاً يلح عليها بين حين وحين ، فصممت أن تلقيه عليه كآخر سؤال فقد صممت أن تكشف له بعد ذلك الحقيقة وأن يكون اعترافها قبل نهاية السنة الدراسية وقبل عودته إلى الوطن ، ولهذا فقد بادرت إلى الكتابة فكتبت إليه تقول :

بسم الله الرحمن الرحيم

عزيزي مصطفى
ألف سلام وألف تحية راجية من الله عز وجل أن يحرسك بعينه التي لا تنام ويجعلك منار هدى وهداية....
لا شك أنك مشغول بالاستعداد للامتحان ولهذا فأنا استميحك العذر إذا الححت عليك بالأسئلة ولكنها قضية حياتية بالنسبة إليّ وأنت الذي بعثت الحياة في وجودي فمن حقي أن أستمد منك مقوماتها... وسؤالي اليوم هو أننا ما دمنا قد سلمنا


( 392 )

وآمنا أن الله تبارك وتعالى هو خالق هذا الكون فمن خلق الله يا ترى ؟

حسنات

أبردت رحاب رسالتها إلى مصطفى وعادت إلى البيت فلم تجد حسنات فسألت عنها أمها فقالت أنها في غرفتها لم تبرحها منذ الظهر فخمنت رحاب أن حسنات غير مرتاحة نفسياً فعزّ عليها ذلك وذهبت تحوم حول غرفتها وهي مترددة بين الدخول وعدمه حتى صممت أن تدخل عليها مهما كلف الأمر فطرقت الباب بهدوء وأحست أنه مغلق من الداخل فنادت بهدوء أيضاً : حسنات ، حسنات . ففتحت حسنات الباب وهي تتصنع الابتسام. ولكن رحاب لاحظت آثار الدموع في عينيها فشعرت بطعنة دامية في فؤادها وهي تعرف أنها هي السبب في ذلك ، وكادت أن تنهار فتعترف لها بالحقيقة ، ولكنها جبنت فأوحت إلى نفسها أن حاجتها لمصطفى لم تنته بعد وأنها سوف تعترف بعد اقتناعها الكامل ، ولهذا فقد دخلت وجلست إلى جوارها ، ثم أخذت بيدها برفق وحنو بالعين وقالت : ما لي أراك حزينة يا حسنات ومن حقك أن تكوني أسعد الناس...
فسكتت حسنات ولم تجب ولكنها ارتاحت لحنو اختها وانعطافها نحوها وقد بدا ذلك عليها أيضاً إذ وضعت رأسها


( 393 )

على كتف رحاب وكأنها تريد أن تستند إليه ليحمل عنها ثقل الألم...
فعادت رحاب تقول وهي تبذل طاقة كبيرة في كبح جماح قلقها ، قالت : لا تحسبي أن هناك ما يستحق أن يقلقك يا حسنات فان الخير كل الخير هو الذي ينتظرك يا أختاه...
وهنا تنهدت حسنات ورفعت وجهها نحو أختها لتقول : كيف تقولين هذا يا رحاب ؟ ألا ترين أنني ومنذ سبعة أشهر مرتبطة شرعاً وعرفاً مع رجل لم أسمع منه كلمة ، ولم أعرف عنه خبراً ؟ الشيء الذي جعلني أتأكد أنه لم يكن راغباً بي وأنني فرضت عليه فرضاً ، ولم يبق على عودته إلا أسابيع فماذا سوف يحدث بعد أن يعود يا ترى ؟ أنني لا أريد أن أشكوه ولكنني أتألم وأفكر بمستقبل حياتي مع زوج حملت عليه تحميلاً...
كانت حسنات تتكلم وكل كلمة منها بمثابة شفرات حادة تقطع نياط قلب رحاب ، ولكنها تماسكت ورأت أن عليها أن تعمل شيئاً من أجل هذه الأخت المسكينة فقالت بنغمة حاولت أن تكون مشرقة : كلا ، كلا يا حسنات أنك غلطانة في طبيعة تفكيرك عن الموقف فان هذا الرجل الذي ارتبطت به شرعاً وعرفاً هو من أحسن الناس وأنبلهم وأليقهم بك يا عزيزتي...


( 394 )

قالت حسنات : أنني لا أنكر ذلك ولكن يبدو أنه لم يكن مقتنعاً باختياره لي...
قالت رحاب : أنه مقتنع تمام الاقتناع وليس لعدم اقتناعه أي دخل فيما تجدين كوني واثقة من هذا يا أختاه...
فتطلعت حسنات نحو اختها وسألتها بتعجب : من أين لك هذه الثقة يا رحاب ؟
فاحتارت رحاب بماذا تجيب ولكنها أجابت قائلة بإصرار : أنني أعرف وتأكدي مما اقول...
قالت : ومن أين عرفت ؟
وكادت رحاب أن تنهار فماذا عساها أن تقول ؟ من أين عرفت ؟ نعم من أين ؟ يا لدناءة الطريق الذي عرفت منه ذلك ، ولكنها تماسكت وقالت : يكفيك أن تعلمي بأنني متأكدة مما أقول وسوف أشرح لك ما أعرف بعد أيام قليلة أو أسابيع المهم أن تستعيدي ثقتك بزوجك المنتظر وتعودي إلى اشراقتك الباسمة للحياة ، أرجوك يا حسنات ... قالت هذا ونهضت لتطبع على جبين أختها قبلة أودعتها الكثير من الحب والحنان ، ثم قالت : أتعاهديني أن تعودي طبيعية يا حسنات عودي إلى عهدك بالرضا والسعادة وسوف ترين بأنني صادقة فيما أقول...
فابتسمت حسنات وقالت بوداعة : لقد وثقت بكلامك يا


( 395 )

اختي وإن كنت لا أعرف كيف أفسره ولكنني قد بدأت أطمئن من جديد...
فأخذت رحاب بيدها وأنهضتها قائلة : إذن هيا بنا إلى أمنا فهي تنتظر...

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net