متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الفصل الحادي عشر
الكتاب : امرأتان و رجل    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات
أعادت رحاب قراءة الرسالة مرات ومرات ثم ألقت برأسها على المنضدة التي أمامها واندفعت تبكي بحرقة وألم ومع كل دمعة كانت ترسم لها صورة مرعبة عن جريمتها وعن موقفها المحرج الذي زجت نفسها به فقد بدأت تحس بالواقع كما لم تكن تحس من قبل ، فهي الآن ليست تلك الرحاب التي أقدمت على الخطوة الأولى ، أنها إنسانية ثانية لا تمثل تلك إلا بالمظهر الخارجي ، وحتى هذا فقد تغير عما كانت عليه فقد أخذت تلتزم بارتداء الملابس المحتشمة وتركت المكياج ، ولهذا فهي الآن تتعذب وبضراوة ، واندفعت تبكي والرسالة إلى جانب رأسها على المنضدة وعلا نشيجها دون أن تحس حتى بلغ مسمع حسنات في غرفتها المجاورة فهالها أن تبكي رحاب هكذا وخشيت أن تكون قد أصيبت بنكسة تحيد بهاعن الطريق الذي بدأت تسير فيه فبادرت إليها وفتحت الباب دون استئذان إذ أن الكلفة كانت قد ارتفعت بينهما أخيراً وانحنت عليها تقبلها بحنان وهي تقول : رحاب ، رحاب ماذا بك يا أختاه ؟ رحاب أجيبيني لماذا كل هذا البكاء ؟ هل حدث لك مكروه قولي ؟ ولم تكن رحاب لتجيب فقد زاد وجود حسنات وحنانها من حرقة بكائها واستمرت حسنات تحاول أن ترفع رأسها وهي تقول : أرجوك يا رحاب ارحميني أنا على الأقل ألست أختك يا رحاب أنا لا أتمكن أن أراك تبكين أن دمعة واحدة من عينيك تحرق فؤادي فكيف بهذا البكاء ؟ رحاب رحاب وكانت حسنات تندفع مع كلماتها


( 406 )

العذاب جاهلة أنها تزيد من عذاب أختها المسكينة ... وتمكنت أخيراً من رفع رأسها عن المنضدة وإسناده إلى صدرها وأخذت تمسح دموعها برفق وتناغيها بأعذاب الكلمات وتهدىء عليها بحنان ، ثم لاحت لنظرها الرسالة ، وكانت كالعادة تحمل عنوان صديقة رحاب ولكنها خمنت أن لهذه مساساً في وضع رحاب النفسي . فقالت لعل هذه الرسالة قد حملت إليك أمراً تكرهينه يا رحاب ؟ ولكنني لا أظن أن صاحب هذا الخط الجميل يكتب الى الآخرين ما يؤذي ، يبدو أن صديقتك مذواقة في اختيار الصديقات.
وهنا اندفعت رحاب تقول في كلمات يقطعها النحيب : أنني مجرمة ، أنني ظالمة ، أنني لا أستحق حبك يا حسنات...
فحسبت حسنات أنها تريد أن تشير إلى ماضيها فقالت : دعيك من هذا يا أختاه فأنت الآن في طريقك إلى الكمال ولم يبق لك سوى خطوة واحدة تكونين بعدها خيراً مني يا رحاب لأن التائب عن الذنب كمن لا ذنب له فاندفعت رحاب تبكي من جديد ثم رفعت عينها نحو اختها بنظرة استرحام وقالت : وهل حقاً أن الله سوف يغفر لي يا حسنات ؟
قالت حسنات : نعم يا رحاب وقد قال نبينا ( صلى الله عليه وآله ) لو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب الله عليكم ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) أيضاً : التائب حبيب الله ، إذن فأن الله عز وجل لا يغفر لك فقط بل أنه يحبك أيضاً ، ويفرح بتوبتك كما جاء


( 407 )

عن الامام الصادق ( عليه السلام ) أن الله يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب كما يفرح أحدكم بضالته إذا وجدها ، والآية المباركة تقول أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فكيف تشكين برضاء الله تعالى عنك لو التزمت بجميع ما يأمر يا رحاب ؟
وكانت رحاب قد هدأت نسبياً وهي تستمع إلى كلام حسنات الهادىء الرصين وهي لا تفتأ تتطلع اليها كما يتطلع الغريق إلى منقذه وكأنها اندمجت مع كلام حسنات فغفلت عن وضعها الخاص وحراجته فقالت ورأسها ما زال على صدر حسنات : وما هي الخطوة التي تعنيها يا حسنات ؟
قالت حسنات ، وهي تمسح على رأس أختها وجبينها : إنها الحجاب يا رحاب ، ألم تقرأي معي في سورة النور آيات الحجاب ولا شك أنك تؤمنين بالقرآن الكريم كرسالة من السماء أتت لتنظم حياتنا وتهبنا السعادة في الدارين...
وكانت كلمات حسنات الأخيرة كفيلة بتحسيس رحاب بواقعها المؤلم من جديد ! نعم أنها الآن تؤمن أن القرآن رسالة السماء ولكن كيف تحقق لها هذا الايمان وعن أي طريق ؟ فهي لا تشك أن حسنات لو علمت لما تمكنت من النظر إليها بعد الآن ، ولكن حسنات كانت مستمرة بحديثها عن الحجاب ومصالحه الاجتماعية وحفاظه لكيان المرأة...
وشعرت رحاب أنها في حاجة إلى أن تعرف المزيد عن الحجاب ، فهي تريد أن تتحجب ولكنها لا تعرف كيف


( 408 )

ولماذا ؟ ولهذا فقد اعتدلت في جلستها وأخذت تستمع إلى حسنات بكل هدوء ثم قالت : إذن فان الحجاب ليس عادة دخيلة على الاسلام من الفرس ؟
فقالت حسنات : كلا يا رحاب فان آية الحجاب نزلت قبل أن يفتح المسلمون فارس وقبل أن يحدث بينهم أي تماس وتعارف ، ثم أن الحجاب الذي فرضه الاسلام يختلف عن الحجاب الذي كان متبعاً عند الفرس من قبل فهو بتعبير أصح ستر وليس حجاباً بالمعنى الذي يحجب المرأة عن الحياة كما كان يحجبها الفرس القدماء ويمكنك أن تطمئني إلى صحة كلامي بمراجعة سورة النور وآيات الحجاب وتقفي عند الآية المباركة التي تقول : ( قل للمؤمنين يغضو من أبصارهم ) إلى أن تقول : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) فلماذا هذا الأمر بالغض من البصر إذا كان في الستر الذي فرضه الاسلام عزلاً للمرأة عن الحياة ؟ ان الغض من بصر الرجل يعني امكان وجود المرأة إلى جواره والغض من بصر المرأة يعني امكان وجود الرجل إلى جوارها ، ولكن ولأجل الحيلولة دون إثارة مشاعر اطلاقها يعني الفوضى الجنسية والاجتماعية وحبسها يعني الكبت والحرمان اللذين يجران إلى العديد من الأمراض النفسية والعصبية لأجل صيانة هذه الغرائز من الاثارة المستمرة مع ما عرفناه من إمكان أن يعيش كل من المرأة والرجل إلى جوار بعضهما في المجتمع ، أمر الاسلام بالستر كتنظيم وقائي للمرأة والرجل سواء بسواء ، ألا ترين


( 409 )

أن أكثر الويلات والمشاكل الاجتماعية نشأت من نتيجة الاختلاط المطلق بين الجنسين.
وهنا سكتت حسنات تنتظر من أختها الجواب وكانت رحاب تستمع إليها بكل هدوء ، فلما سكتت بادرتها قائلة : لقد كنت أسمع أن الحجاب في الاسلام هو صورة عن أفكار الرهبنة والتقشف وترك الملاذ ، وبما أن المرأة هي من أهم متع الحياة بالنسبة للرجل فرض عليها الحجاب تمشياً مع باقي الفروض القاسية التي يضعها أو يفرضها على نفسه في الحياة...
قالت حسنات : يؤسفني أن تكوني قد سمعت أشياء شوهت أمامك مفهوم الحجاب مثل هذه الناحية التي ذكرتيها مع أن الاسلام لم يدع في يوم من الأيام إلى أفكار الرهبنة وترك ملاذ الحياة بل على العكس من ذلك تماماً فقد أبصر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الدين المتعة ، والمتعة التي عناها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) هي التمتع بملاذ الحياة التي خلقها الله لعباده ، وقال الامام أمير المؤمنين عليه السلام : ان الله جميل يحب الجمال ، وقال الامام الصادق ( عليه السلام ) وهو يخاطب أصحابه ما نعني :
أن الله قد أنعم عليكم فلا تخفوا نعمه ، فقالوا وكيف ذلك يا ابن رسول الله فقال ( عليه السلام ) ينبغي أن يكون لباس الواحد منكم


( 410 )

نظيفاً وريحه طيباً وجداره أبيضاً وداره مضيئة فان في ذلك توسعه في الرزق وقد شكون ثلاث من النساء إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أزواجهن ، فقالت احداهن أن زوجي لا يأكل اللحم وقالت الثانية أن زوجي يبتعد عن الطيب ، وقالت الثالثة أن زوجي يبتعد عن النساء ، فظهر الألم على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وخرج من بيته إلى المسجد وصعد المنبر وقال : لقد بلغني أن بعض أصحابي ترك اللحم والطيب والنساء وها آناذا أكل اللحم واستعمل الطيب وأتمتع في النساء.
أيما أحداً عرض عن منهجي هذا فو ليس مني ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرجل شعره وينظر في حب الماء بدلاً عن المرآة قبل أن يخرج إلى أصحابه ويقول : أن الله يحب من العبد أن يبدو أمام اصحابه بشكل جميل ، فهل تجدين في هذه الأمثلة ما يشير إلى تبني الاسلام لفكرة الرهبنة وترك ملاذ الحياة فكيف يمكن أن ننسب الحجاب في الاسلام إلى هذه الغاية ؟ والاسلام كما ترين يحارب فكرة الرهبنة ويعارضها وسوف أعطيك كتاب العفاف بين السلب والايجاب لزين الدين لتتعرفي أكثر فأكثر على فوائد الحجاب ومضار السفور ، وقد اعددت لك مفاجأة لا بأس أن أخبرك بها الآن وهي أنني


( 411 )

قد أعددت بدلة حجاب كاملة لكي أقدمها لكِ عند أول بادرة رغبة وأرجو أن لا يكون انتظاري طويلاً لتلك البادرة ، وكانت رحاب قد استعادت وضعها النفسي الطبيعي فحاولت حسنات أن تتحدث معها بعض أحاديث خارجية ثم قامت لتنصرف إلى غرفتها ولاحظت رحاب أنها ألقت نظرة ثانية على المظروف الملقى على المنضدة قل أن تخرج...
عادت حسنات إلى غرفتها وألقت بنفسها على الكرسي هناك وتمتمت تقول : أجدني أكاد أعرف هذا الخط الذي على الظرف أنه ليس غريباً علي تماماً !! آه أنه يشبه خط مصطفى ، نعم خطه في الاهداء الذي رأيته على الكتاب الذي كان قد أهداه لزينب ، نعم لقد تذكرت الان وقد اعارتني إياه وظني أنه ما زال بين كتبي ، قالت هذا ونهضت تفتش بين كتبها حتى وجدته كان كتاب ( الشيطان يحكم ) لمصطفى محمود ففتحته وألقت على الاهداء نظرة فاحصة ثم تهاوت على الكرسي قائلة : يا لله ، أنه نفس الخط ، أو أنه يشبهه إلى حد بعيد ، ولكن كيف حدث هذا وما هي علاقة مصطفى بصديقة رحاب ؟! كلا لا شك أنني غلطانه فلعل هناك الكثير من الخطوط تتشابه وتتقارب ولكن ما معنى هذا يا ترى ؟ لعل لهذا علاقة مع بكاء رحاب « لعلها عرفت عن مصطفى شيئاً غير مريح » ولكنني لا أريد أن أشك باستقامة مصطفى فلماذا أفتح أمامي أبواب تصورات خاطئة ؟ نعم لماذا ؟ قالت هذا ثم


( 412 )

أخذت كتاباً تحاول أن تقرأ فيه ولكن تفكيرها كان غير قادر على استيعاب ما تقرأ فقد كان فكرها يقفز بين حين وحين إلى الرسالة والاهداء وتشابه الخطين ولهذا فقد حاولت أن تنام ففشلت في محاولتها هذه أيضاً فلم يسعها إلا أن تستلم للتفكير...
وبعد مضي ساعات لم تبرح خلالها غرفتها دخلت عليها رحاب ففرحت لقدومها عساها تبتعد معها عن أفكارها القاسية ، أما رحاب فقد وقفت أمامها تقول : أنني أطلب منك شيئاً يا حسنات...
فردت حسنات باندفاع : قولي ما تريدين يا رحاب.
قالت : أريد أبراد الحجاب التي أعددتها لي فقد صممت أن أتحجب منذ اليوم...
فأشرق وجه حسنات بالفرحة رغم وضعها النفسي السيء ونهضت فقبلت رحاب اولاً ثم ذهبت إلى خزانتها فاستخرجت منها زي الحجاب الكامل الذي كانت قد أعدته لرحاب وقدمته اليها بكل فرح وسعادة ، فأخذته رحاب شاكرة وقالت : أرجو أن لا أتخلى عنه بعد اليوم أبداً ، كما وأرجو أن لا تتخلي عني يا حسنات بعد اليوم أيضاً...
فاستغربت حسنات كلام أختها وقالت : أنا أتخلى عنك يا رحاب ! وكيف يخطر لك ذلك إن هذا لن يحدث أبداً مهما كان...


( 413 )

قالت رحاب : مهما كان ومهما عرفتِ عن ماضي يا حسنات ؟
قالت حسنات في ثبات وتصميم : نعم مهما كان ومهما عرفت عن ماضيك ما دمت أنتِ الآن نقية طاهرة...
قالت رحاب : حتى ولو كنت قد أسئت اليك من قبل ؟
قالت حسنات : حتى هذا فان مجرد فرحي بحجابك تعدل عندي كل أساءة ماضية ثم أنك أختي وحبيبتي فكيف تحسبينني أحقد عليك يا رحاب ؟
قالت رحاب : أتمنى هذا منك وان كنت لا استحقه يا حسنات وعلى كل حال فألف شكر لك يا أختاه ، ثم استدارت وخرجت من الغرفة وهي تجهش في البكاء وتركت حسنات في حيرة من أمرها وأمر أختها وأمر الرسالة والاهداء.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net