متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الحلقة التاسعة
الكتاب : لقاء في المستشفى    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

***

مر اليوم الثاني دون أن تتحدث الجدة مع ورقاء في موضوع الخطبة ، وكانت ورقاء تبدو حزينة وقد عادت إلى البيت مرهقة وصعدت إلى غرفتها مبكرة ، وفي صباح اليوم الثاني حينما كانت تقف تنتظر الباص وقفت أمامها سيارة مرسيدس فارهة ونزل منها ماهر وهو يقول : صباح الخير يا ورقاء ، فرصة سعيدة أن أتمكن من ايصالك إلى الكلية.
فلم تغير ورقاء من وقفتها شيئاً وإنما أجابت بهدوء قائلة : كلا أشكرك يا أستاذ .
قال الماهر : تفضلي واركبي ، ارجوك .
قالت ورقاء : شكراً فأنني أنتظر .
قال : هل تنتظرين أحداً ؟
قالت : كلا بل أنني أنتظر الباص .


( 173 )

فضحك ماهر وقال باستغراب : تنتظرين الباص وتمتنعين عن ركوب سيارة مرسيدس .
قال هذا بافتخار واعتزاز زاد من احتقار ورقاء له ، فأدارت وجهها ناحية وهي تقول : أرجو أن لا تتعب نفسك بالتأخر فأنني سوف لن أركب .
قال : إن التعب في سبيلك راحة واعتبري السيارة سيارتك منذ الآن واركبي فيها دون مضايقة .
وهنا وصل الباص فأسرعت نحوه ورقاء وهي تقول : ها هو الباص قد وصل مع السلامة ، ثم ركبت الباص تاركة ماهر يتطلع إلى السيارة بإعجاب ويستغرب عزوف ورقاء عنها .
وقد أثرت هذه الحادثة في نفسية ورقاء فذهبت ذلك اليوم إلى معاد وهي في حالة نفسية سيئة وكان موعدها معها في البيت ولهذا ذهبت رأساً إلى هناك فوجدت معاد مشغولة بالتنظيف والترتيب ، فحاولت أن تشاركها العمل ، ولكن معاداً منعتها عن ذلك لأنها لاحظت عليها آثار الشحوب والارهاق ، وما أن انتهت من أعمالها حتى عرضت على ورقاء أن تجلس قليلاً تحت ظلال الأشجار ، فجلست ورقاء جلسة الحائر الكئيب .
فقالت لها معاد : ما لك يا ورقاء ؟


( 174 )

قالت ورقاء : أنني غير مرتاحة يا معاد .
قالت معاد : إن هذا واضح عليك يا ورقاء ، ولكن ألم نتفق أن تكوني أقوى من الألم ؟
قالت ورقاء : أنني قوية أمام المهمات والحمد لله ، ولكن المضايقات البسيطة تتعبني يا أختاه ، فأنا منذ مدة أعيش مع سلسلة احراجات ، إذ قد تقدم لخطبتي ابن عمي ـ أي ابن عم أبي ـ وقد ساندته جدتي إذ أنه في نظرها متكامل الجوانب : شاب جميل وغني ومثقف.
وسكتت ورقاء عند هذا . فتساءلت معاد باهتمام قائلة : ومتدين ؟
قالت ورقاء : كلا وهذا هو مصدر المضايقات التي أعانيها لأني وبطبيعة الحال قد رفضته نهائياً ولكن جدتي لا تفتأ تناقش الأمر بالشدة حيناً وباللين أخرى ، وهو ما زال يحاول مضايقتي وفرض وجوده عليّ وهذا هو ما يتعبني نفسياً ويجعلني أعيش في صراع مستمر .
وهنا عادت معاد تسأل في لهفة أيضاً قائلة : صراع ؟ مع من يا ورقاء ؟
قالت : صراع مع جدتي ومع مضايقاته هو .
قالت معاد : لقد خشيت أن يكون الصراع مع نفسك يا أختاه .


( 175 )

قالت ورقاء : كلا فإن الأمر عندي واضح لا يستوجب أي تفكير أو صراع .
قالت معاد : وهذا هو المأمول منك يا ورقاء ، ان عليك أن تتحملي بعض المضايقات إلى فترة قصيرة تتخلصين في مقابلها من مضايقات طويلة وطويلة جداً .
قالت ورقاء : تقصدين مضايقات الزواج من رجل غير متدين ؟
قالت معاد : نعم ، لأن تلك المضايقات تمد جذورها في الحياة الأولى والثانية وتؤثر على المستقبل القريب والبعيد .
قالت ورقاء : ولكن كيف يمكنني أن أقنع جدتي بوجهة نظري ؟.
قالت معاد : لا أحسب أنها سوف تقتنع بوجهة نظرك يا ورقاء لأنها تنظر إلى الموضوع بمنظارها الخاص ولهذا عليك أن تستدرجيها عاطفياً حتى تلين وتتنازل عند رغبتك .
قالت ورقاء : إنها شديدة لا تؤثر فيها العواطف ولكنني سوف أقاوم بأي شكل من الأشكال .
قالت معاد : ولكن ما الذي يدعوها إلى هذا الاصرار يا ترى ؟ وأي مكسب لها فيه .
فسكتت ورقاء ولم تعرف كيف تجيب لأنها كانت تخمن


( 176 )

أن من أهم أسباب إصرار جدتها هو إبعادها عن معاد ، ولكن هل كان يمكنها أن تقول لمعاد ذلك ، لهذا سكتت وبقيت ساكتة ، فعادت معاد تقول : لا شك أن هناك أسباباً تدعوها إلى هذا الاصرار ، فإن لكل شيء سبباً يا ورقاء .
وهنا أرادت ورقاء أن تبدل مجرى الحديث فقالت : نعم ونتيجة لهذا ( قاعدة أن لكل شيء سبباً ) يضطر منكرو الله تبارك وتعالى أن ينسبوا الخلق إلى المادة مع عجزها عن ذلك لأنهم لا يتمكنون أن يقولوا أن هذا الخلق وجد بدون سبب .
قالت معاد : نعم وهذا هو ما يشترك فيه الماديون والالهيون مع اختلاف السبب الذي يؤمنون به .
قالت ورقاء : وكيف ؟
قالت معاد : أقصد أننا نحن وهم نؤمن ـ :
أولاً : بأن الكون مخلوق أي حادث ، وأن هناك مؤثراً تنتهي إليه أسباب الوجود .
ثانياً : بأن وجود الكون حقيقة لا جدل فيها خلافاً للمثاليين الذين يشككون في وجود كل شيء .
ثالثاً : هي بإحساس الانسان بأنه يستند في وجوده إلى قوة أثرت في تحقيق هذا الوجود على اختلاف في تأويل هذه القوة .


( 177 )

وهنا قالت ورقاء : وهل أن الماديين يعترفون في كتبهم بهذه الحقائق ؟
قالت معاد : نعم ومثال ذلك ما جاء في كتاب ( نقد الفكر الديني ) قوله ( في الواقع علينا أن نعترف بكل تواضع بجهلنا حول ما يتعلق بمشكلة المصدر الأول للكون ).
قالت ورقاء : إذن فإن هذه حقائق يشترك فيها الماديون والالهيون ؟.
قالت معاد : نعم ولكن الماديين يرجعون السبب إلى المادة وحركتها ، والالهيون يرجعونه إلى الواحد القهار .
قالت ورقاء : ولكنهم كيف يدعون أزلية المادة مع ما ثبت من إمكان تغيرها والأزلي لا يمكن له أن يتغير ؟.
قالت معاد : نعم أن الأزلي لا يمكن له أن يتغير يا ورقاء ، لأن التغيير يحتاج إلى بداية وكل ما يحتاج إلى بداية معرض للنهاية .
قالت ورقاء : إذن فأن ما أثبتته الفيزياء من أن الذرات مركبة من عدة كهارب ودقائق وأنها من الممكن لها أن تتحلل أو تتجزأ إلى طاقات يثبت عدم أزلية المادة لأن الأزلي لا يقبل التركيب ؟
قالت معاد : ولكن هل تعلمين لماذا الأزلي لا يقبل التركيب ؟


( 178 )

لأننا حينما نقول أن الأزلي لا يقبل التركيب نقصد أننا لو سألنا عن هذا المركب كيف وجد ، وهل كان مركباً في الأزل ام أن أجزاءه ركبت بالتدريج ، وهل حدث هذا أولاً أم وجدت أجزاؤه قبله ، فماذا سوف يكون الجواب ؟
قالت ورقاء : هبيهم يقولون أن أجزاءه قد حدثت قبله ؟
قالت معاد : إذن فأن معنى ذلك أنه حادث وليس أزلياً لأن أجزاءه سبقته في الحدوث وهيأت الأسباب لحدوثه .
قالت ورقاء : وإذا قالوا أن حدوثه كان مواكباً لحدوث أجزائه أي أنه وأجزاءه حدثا معاً ومرة واحدة ؟
قالت معاد : عند ذلك نقول لهم : أليس من الممكن أن تتجزأ عنه هذه الأجزاء أو تنفصل عن طريق التحول أو التطور ، كما تحلل الماء إلى الاوكسجين وهايدروجين وكما انتقل الهايدروجين إلى اليورانيوم ، وهذا أمر محتمل الحدوث لأن كل مركب معرض للانحلال ثم للفناء نتيجة تحلل مركباته وعند هذا نعود لنكرر القاعدة الثابتة التي تقول أن كل ما يجوز فناؤه تستحيل أزليته .
قالت ورقاء : وما هي القاعدة التي تستخلص منها هذه النتيجة ( نتيجة أن ما يجوز فناؤه تستحيل أزليته ؟ ).
قالت معاد : لأنه إذا كان أزلياً فأن معنى الأزلي هو أن وجوده لم يفتقر إلى علة أو سبب لأنه هوعلة ذاته بمعنى من


( 179 )

المعاني ، ولهذا فهو لن يتعرض أيضاً لعلة تحول بينه وبين علة وجوده فتسبب فناءه ، على خلاف الذي يفتقر إلى علة لايجاده ، فهو متى ما افتقد تلك العلة تعرض للفناء ، ولعلك تعلمين أن العلم أثبت أخيراً إمكان تجزئة الذرة .
قالت ورقاء : إذن فإن الذرات أي المادة التي ينادي بها الماديون ويقولون أنها الأصل الأول للحياة ، هذه الذرات يمكن تجزئتها لأنها مركبة والمركب ليس مستحيل التجزئة ؟
قالت معاد : وبالتالي فهو ليس أزلياً إذ أنه معرض للفناء عند افتقاد عناصره لأنه محتاج إلى علة لوجوده وتلك العلة هي الحفاظ على أجزائه ، والأزلي لا يحتاج إلى علة لوجوده .
قالت ورقاء : ثم أليس أن في النظرية العلمية التي ثبتت أخيراً ( نظرية الانتقال الحراري المستمر من طاقة حرارية عالية إلى طاقة حرارية أقل حرارة ) دليل على عدم أزلية الكون ؟.
قالت معاد : طبعاً لأن مجرد الايمان بوجود تغيير في مستويات الطاقة الحرارية في الكون يجعلنا نعرف أن الكون غير أزلي ، إذ لو كان أزلياً لتساوت الحرارة في كل أجزائه منذ أمد طويل جداً ولتعذرت الحياة نهائياً منذ ملايين السنين.
وقالت ورقاء : وكذلك في ما أثبته العلم من اتساع الكون ، والنسب التي أعطاها لذلك لدليل على عدم أزلية الكون ، إذ أنه لو كان أزلياً وهو على هذه النسب من الاتساع


( 180 )

لأصبحت المسافات بين الكواكب لا نهائية لأنها تتسع منذ الأزل ، إذن فهو مخلوق .
قالت معاد : وخالقه غير مخلوق وهو أزلي غير معرض للفناء كالمادة ألا وهو الله تبارك وتعالى .
قالت ورقاء : يؤسفني أن عليّ أن أذهب الآن وسوف انقطع عنك خلال الأسبوع القادم لأن الامتحانات قد بدأت اليوم وأريد أن أتفرع للدراسة .
قالت معاد : أتمنى لك الموفقية يا أختاه وسوف أنتظرك بعد أسبوع إن شاء الله .

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net