متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الحلقة السابعة
الكتاب : ذكريات على تلال مكة    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات
وسرنا نحمل امتعتنا يحدونا مساعد متعهدنا وهو يحمل بيده مكبرة للصوت يدنيها من فيه اكثر مما يجب فينبعث الصوت أجشا غير واضح الحروف . ولهذا فقد كنا نسير باتجاه مشرجة مكبرة الصوت غير فاهمات ما تعنيه تلك الحشرجة .. كانت كل واحدة منا تحمل بالاضافة الى امتعتها الخاصة ابريقا مملوءا بالماء لاننا كنا في طريقنا الى مزدلفة وأصل تحصيل الماء هناك يكاد ان يصبح معدوما ولهذا فقد اخطرنا من قبل المتعهد ان نحمل اباريقنا ملأى بدل ان نحملها فارغة !ومضينا نلف وندور بين الخيم والسيارات نبحث عن التي اعدت لنا فلا نتمكن ان نهتدي اليها لتشابه المواقف والمعالم وكانت ظلمة الليل تزحف نحو تلك البقاع بسرعة فتبعث في نفوسنا الرهبة والهيبة وتشعرنا بالخوف من الضلال في ذلك الليل الرهيب فنروح نحث الخط وراء مكبر الصوت لا نلتفت يمنة ولا يسرة لكي لا ننحرف عن الطريق ، وقد تجمعنا مع بعضنا وحرصنا ان لا نكون بعيدات كان صوت أحد مساعدي المتعهد يرتفع من ورائنا بين فينة وفينة وهو يقول ـ مزيدا من الانتباه الى الطريق ان الانحراف عن الخط يعنى الضلال ـ سيروا وراء الصوت الذي يحدوكم ـ .. نعم كان علينا ان نسير وراء الصوت الذي يحدونا وكان علينا ان نلم شملنا فلا نتفرق لكي لا نتعرض للضياع ولكن ألسنا دائما وابدا مدعوين لأن نسير وراء صوت الحق الذي يدعونا « والرسول يدعوكم لما يحييكم به » ..


( 347 )

نجتمع ونتقارب ونسير متكاتفين وراء صوت غير واضح الكلمات يخرج عن مثلنا لا يزيد عنا الا لقديم معرفته في الطريق ثم نصم آذاننا عن نداء الرسول .. هذا النداء الخالد الدائم في دعوته لنا للسير ورائه نحو الجنان .. مالنا نخشى الضلال لتحذير من انسان ولا نخشى التيه الذي يحدونا الى النار وقد حذرنا عن ذلك كل نبي أو وصي نبي ؟ وما لنا لا نلتفت يمنة ولا يسرة خشية ان تفتقد آثار الدليل ونروح خلال حياتنا العامة نتقلب يمينا وشمالا متجاهلين الامل الالهي الذي يقول « فاستقم كما امرت » .. وضلالنا هنا .. ما هي نتائجه يا ترى ؟ نحن مهما ضللنا او انحرفنا سوف نجد امامنا اناسا مثلنا لا تفرقهم عنا سوى الالوان او الجنسيات او الاخلاق والعادات .. اما ضلالنا عن مسيرة الحق فسوف يسلمنا الى ايدي ملائكة غلاظ شداد وسوف يعرضنا الى نار نورها ظلمة وشرابها الصديد وطعامها الزقوم .. فما أبعد الفرق بين الضلالين .. وما اجهلنا عندما نقتفي هذه الاثار ونتجاهل تلك الحقائق .
ووصلنا اخيرا الى موقف السيارات حيث سارت بنا نحو مزدلفة المشعر الحرام .
ووصلنا الى مزدلفة والليل يكاد ينتصف لالبعد في الطريق بل لازدحام في حركة المرور ومزدلفة ليست سوى ارض منبسطة قاحلة لا شجر فيها ولا ماء ولا شيء يعلو ارضها سوى الجبال حتى المخيمات التي تنتصب في منى وعرفات لم يكن في مزدلفة منها اثر والمزدلفة هي المشعر الحرام


( 348 )

الذي نزل فيه قول الله تعالى ( فاذا افضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) وافترشنا البطانيات التي كنا نحملها بالاضافة الى ما حمله المتعهد من فراش معنا وجلسنا لكي نستريح قبل المباشرة بجمع الحصى . وكنا حينما نتجه بأبصارنا لا نجد الا اشباح الناس وهم بين منحني لجمع الحصى على ضوء مصباح صغير في يده .. وبين سائل يتحسس الطريق نحو جماعته .. وكانت ملابس الاحرام البيضاء هي الوحيدة التي ترى في تلك الصحراء الواسعة ومن خلال سواد العتمة .. وهنا ينبغي لي ان اعترف بالعجز عن تصور ساعات مزدلفة وارضها وسمائها وروعتها وعطائها وهيبتها وجلالها فهي وكما عشتها في تجربتي الخاصة فوق التصوير والتمثيل .. ولا يمكن لانسان ان يفهمها الا اذا عاشها عن فهم وادراك .. وبعد ان أرحنا اجسامنا من تعب الطريق باشرنا بجمع الحصى لاجل رمي الجمرات وكان علينا ان نجمع تسعة واربعين حصاة والمستحب ان نضيف اليها احدى وعشرين واحدة اخرى من اجل احتمال عدم اصابة الرمي ومضينا ننحني نحو الارض نطلب الحصى . كانت الحصاة الواحدة اثمن لدينا من حبة اللؤلؤ لانها من مكملات حجنا وشروط صحته .. اما حبات اللؤلؤ فلم تكن لتجدينا شيئا في ذلك المجال . ان هذه الحصيات التي نلتقطها من المشعر الحرام لكي نرمي بها الجمرات في منى ليست سوى رمز لسلاح من الايمان لنرمي به الشر والعصيان


( 349 )

والخروج عن طاعة الخالق هذه المعاني التي ترمز اليها الجمارات .. ولهذا اراد التشريع الاسلامي ان يعلمنا باننا عن طريق الايمان وحده نتمكن ان نحارب الشر ونقابل الجور .. فالايمان هو الذي يتكفل بتسليحنا للمجابهة وتحصيننا ضد الانهيار ومن هذا نعرف الحكمة التي فرضت ان يكون الحصى من المشعر الحرام الداخل ضمن الارض المقدسة وكانت كل واحدة منا تحمل معها كيسا صغيرا من الخام اعد خصيصا لحفظ هذه الحصيات الثمينة فجمعنا المقدار المطلوب وحرصنا ان نغلق عليها الكيس بدقة واتقان . ثم اضطجعنا لننام قليلا فإن تواصل التعب من حقه ان يؤثر على التفاعل الكامل مع العبادة وكانت جنطتنا الصغيرة هي وسائدنا خلال النوم بعد ان افترشت كل واحدة منا نصف بطانيتها وتغطت بالنصف الثاني وأباريقنا الثمينة جدا الى جوار رؤوسنا واستيقظنا قبل الفجر بساعتين فجددنا الطهارة وتوجهنا للدعاء وكان أروع ما قرأناه خلال تلك الساعات هي المناجاة السفرية المنسوبة الى الامام امير المؤمنين (ع) ففي هدوة ذلك الليل الرهيب وفي فضاء ذلك الافق الرحيب ومع الظلمة التي لا يلون سوادها سوى مصباح يدوي صغير كان من الرائع جدا جدا ان يرتفع صوت خاشع ليقول :

الهي لئن جلت وجمـت خطيئتـي * فعفوك عن ذنبي أجـل وأوسـع
الهي ترى حالي وفقري وفاقتــي * وانت مناجاتي الخفيــة تسمـع


( 350 )

الهي لئـن خيبتنـي وطـردتنـي * فمن ذا الذي أرجــو ومن ذا يشفع
الهي فآنسـنـي بتلقيـن حجتـي * اذا كان لي في القبر مثوى ومضجع
الهي اقلنـي عثرتي وامح حوبتي * فإني مقــر خائــف متضــرع
الهي لإن أقصيتـنـي وأهنتنــي * فما حيلتي يا رب ام كيف أصنــع
الهي وهذا الخلق ما بيـن نائــم * ومنتـبـه في لـيـلـه يتضــرع
وكلهم يرجــو نوالـك راجيــا * لرحمتك العظمى وفي الخلد يطمـع

... وحان وقت الصلاة فأديناها ودعونا لاخواننا من المؤمنين والمؤمنات .. ثم ارتفع اذان الصبح وكنا نلاحظ بوضوح الخيط الابيض وهو ينبلج من الخيط الخيط الاسود وهنا تبدو بوضوح الحقيقة العلمية التي ترمز اليها الآية المباركة « نولج الليل في النهار ونولج النهار في الليل » فإن الايلاج يعني التدخل التدريجي وهكذا هو الامر بانبثاق النهار عن الليل ودخول الليل على النهار ولهذا نجد الخط الابيض يلوح رويدا من وراء الافق الممتد . وكنا قد استصحبنا معنا بوصلة لتعيين القبلة ولهذا فقد اتجهنا نحو القبلة في ادعيتنا وصلواتنا وعلى هداها ايضا أدينا صلاة الصبح وبقينا ننتظر طلوع الشمس


( 351 )

لان التشريع لا يجيز للرجال مغادرة مزدلفة قبل ذلك . وهذا التشريع مما تختص به الشيعة دون الفرق الاخرى من المسلمين ولهذا كانت السيارات تمتلىء بالحجاج وتغادر المشعر عند منتصف الليل حرصا على سهولة السير وتلافي حرارة الشمس والتمكن من الوصول الى رمي الجمرات بسهولة .. وهنا أحب ان اقف امام هذه النقطة التي اجدها مهمة جدا بالنسبة لاعمال الحج وتنظيمه وتوفير الراحة لكل فرد مؤمن فالمرأة غير مجبرة شرعا على المكوث حتى الصباح كما حدثنا الرواة عن الامام جعفر الصادق (ع) : انه ارسل العلويات منذ الليل الى منى لكي يجتنبن مشقة الزحام ويوفر لهن المجال للرمي بسهولة . اذن فلماذا يفرض على كل امرأة ان تتحمل المصاعب التي تتولد عن التأخير من أجل الرجال وفي امكانها شرعا أن تؤدي واجبها وتأوي الى خيمتها في منى والشمس لم تشرق بعد ! نعم الا يجدر بالرجال ان يحرصوا على ذلك فيهيأ للنساء ركب خاص ينقلهن في الساعات الاخيرة من الليل الى منى ؟
وعلى كل حال فقد ركبنا السيارات وسارت بنا لا نقطع من الطريق نصف فرسخ الا وتقف نصف ساعة لانقطاع خط السير وكانت الشمس قد ارتفعت بحرارتها الكاوية والماء الذي معنا قد استنفذته الليلة الماضية وليس من السهولة بمكان ان يجتمع العطش والحر والتعب لولا احساس الانسان بأنه في طريقه الى عبادة وكان ذلك الصباح هو اليوم العاشر


( 352 )

من ذي الحجة الحرام . اي يوم العيد . عيد للروح التي بلغت مطلوبها من الحج ، وعيد للقلوب التي تعيش مفاهيم الحج ، وعيد للانسان الذي يشعر بالسعادة لانه وصل الى هذه البقاع وتمكن من العمل على ما يريده الله والا فإن اجسام الحجاج خلال ذلك اليوم تكون في قمة تعبها وجهدها وهي بعيدة عن العيد بالمفهوم السطحي الذي يتعارف عليه . ومن نظافة الجسم او جديد اللبس انه عيد بمفهوم العيد الصحيح عيد التكامل الروحي للانسان ... وارتفع النهار اكثر فاكثر والسيارة لا تتمكن ان تسير وكنا نجد الحجاج وهم يتركون ما يركبون لكي يقطعوا الطريق راجلين فوددنا لو تمكنا من السير ولكن ذلك كان يتطلب وجود دليل معنا ولم يكن في سيارتنا اي دليل اللهم عدى رجل واحد وكله المتعهد بمداراتنا ولكنه كان اعجز من ذلك بكثير وبعد لاي سمعنا صوت متعهدنا وهو يسألنا عن راحتنا في الطريق وكان قد وصل مع مجموعة الرجال فاقترحنا عليه ان يرسل معنا من يتكفل بايصالنا الى منى مشيا على الاقدام فهيأ لنا اثابه الله اثنين احدهما حاج من الحجاج والثاني احد المساعدين فنزلنا من السيارة وعرض على الباقيات النزول فامتنعن عن ذلك ولم تلتحق بنا سوى سيدتين منهن فأصبحنا بمجموعنا سبعة ورجلين . وسرنا وسط زحام الطريق يحدونا الامل في سرعة الوصول وقطعنا مسافة طويلة تخللتها الكثير من الصعوبات حتى وصلنا الى منى .. ومنى بلدة فيها البيوت


( 353 )

الصغيرة والعمارات الكبيرة ومنها المحلات المتنوعة والمساجد المتعددة ولكنها بلدة صغيرة لا يمكن لها ان تستقبل عشرا من معشار هذا الحجيج ولهذا فقد انتشرت على شوارعها الخيم واتسع نطاق الخيمات من يمين البلد ومن شمالها الى حيث يرمي البصر وكان الدخول الى منى من خلال شارع يسمى بشارع العرب وهو طويل وعريض يمتد من بداية منى حتى نهايتها ..
وتتشعب منها جميع الشوارع الفرعية الاخرى ، وسرنا في هذا الشارع نفتش عن موقع خيمتنا الذي قيل انه بالقرب من البريد وغير بعيد ايضا عن الجمرات . وبعد ان ارهقنا السير طلب الرجلان منا أن نقف ليذهبا هما لاستطلاع الطريق فوقفنا الى جانب بائع مرطبات وكنا قد بلغنا القمة من العطش والظمأ والتعب فطلبنا منه ماء . فلم يلتفت نحونا وبعد ان كررنا الطلب مرات عديدة قال : لا يوجد عندنا ماء اشربوا بارد . مع ان الماء موجودا والثلج كان وافرا لديه . ولكن البارد كان من حقه ان يعرضه لربح اكثر . ومع اننا كنا نشكو من اعراض الزكام والسعال ولكننا اضطررنا الى شراء البارد لنروي به بعض ظمئنا بعد ان تعذر علينا شرب الماء . وامرنا لله الواحد القهار .
ووصلنا اخيرا الى الخيمة وكانت قد هيئت وفرشت منذ الليل فارتخينا قليلا وتناولنا وجبة صغيرة من الاكل ثم جددنا الطهارة وتوجهنا نحو رمي الجمرات ووقفنا امام جمرة العقبة


( 354 )

يتعدى الامتار الخمسة والستة » ويرتفع بمقدار مترين تقريبا وقد قام هذا النصب فوق هضبة ترتفع عن الأرض بما يقارب الثلاث امتار يحيطها سياج منخفض وعلى مقربة منه كان يبدو شامخا راسخا جبل العقبة حيث تمت بيعتا العقبة عندما كان النبي (ص) يجتمع في شعاب الجبل مع الانصار من الأوس والخزرج اثناء موسم الحج وكان الواجب على كل حاج ان يرمي في حصياته السبعة متعاقبة نحو هذا النصب المرتفع فوق الهضبة ولهذا كانت الآلاف من الأيدي تمتد لرمي حصاها الواحدة تلو الأخرى .. ومن العجيب ان لا تشتبه الحصوات على الرماة ولا يجهل الرامي مكان حصاته حتى يجدها تستقر في المكان المقصود أو يجدها قد هوت قبل ان تصل اليه فيعود ليرمي بدلا عنها واحدة . ولم يكن الرمي مزدحماً جدا لعدم وصول الكثير من الحجاج ولهذا تمكنا ان نصل الى مقربة السياج المحيط ورمينا حصياتنا بشكل هادىء ومطمئن والحمد لله .
وبعد ان انتهينا من الرمي كان علينا ان نعود .. والعودة تعرضنا لان نكون في مواجهة الرماة وذلك يعني ان نصبح معرضات للاصابة بالحصى التي ترمى من بعيد فتصيب تارة وتخطىء اخرى ومن الطريف أن بعض الحجاج كانوا يعقبون حصاهم بما لديهم من أحذية مخرقة او نفايات متفسخة ولهذا فقد كان علينا ان نشق طريقنا بين الصفوف ونحن منحنيات تجنبا ان نكون مرمى لما يرمى به ( الشيطان ) وما ان تخلصنا


( 355 )

من منطقة الزحام حتى وجدنا عددنا قد نقص واحدة . فكدر ذلك علينا فرحتنا باتمام مهمة الرمي وتلفتنا يمنة ويسرة نبحث عنها بعيون حائرة وسط هذه الجموع الغفيرة العدد المتباينة اللون واللغة ثم حاولنا ان نفتش فمنعنا الدليل الذي كان معنا عن ذلك وذهب هو يفتش عنها وسط المجاميع وكنا نحن نساء قافلة اليعقوبي لدينا ما يميزنا عن الآخرين وهو قطعة قماش خضراء كتب عليها اسم المتعهد واسم المطوف . ومع ان صاحبنا المساعد لم يكن يعرف القراءة والكتابة ولكنه كان يشخصنا من طبيعة لون القطعة وصورة كتابتها فذهب لكي يجدها تقف في جانب من الجوانب وعاد يصحبها وهو يشعر بالانتصار لعثوره عليها بسهولة والحقيقة وحفاظا على الواقع نسجل شكرنا لهذا الانسان الذي استشعر مسؤولية حمايتنا لبضع ساعات هي من الصعوبة بمكان مع انه اجير لدى المتعهد لا اكثر ولا اقل أثابه الله على ذلك ووفقه للهداية في طريق الخير .. ولم نتمكن ان نعرف عنه سوى انه سائق سيارة استصحبه المتعهد مع سيارته الى مكة وانه ينادى بأبي حيدر . وعلى كل حال فقد عدنا نحو الخيمة لنجد ان الركب لم يصل بعد وكان الظهر قد حان فأدينا صلاتنا ثم وكلنا من يذبح الهدي بدلا عنا لتعذر ذلك بالنسبة لنا واوصيناه ان يحتسب ثلثها نيابة عن صديق كان قد وكلنا باحتسابه وثلثها الثاني نيابة عن فقير كنا قد طلبنا اذنه في ذلك قبال مقدار من المال والثلث الثالث نيابة عنا ثم توجهنا للنوم لأن اعراضا للحمى والزكام كانت قد بدأت تتفشى بيننا شديدة عند بعضنا وخفيفة عند الآخريات ، وبعد الظهر بقليل وصلت بعض طلائع الركب وعصرا وصلت وجبة منه . وبعد أن عرفنا باكتمال الهدي كان علينا ان نقصر ونحل احرامنا . وفعلا فقد قصرنا وبذلك تحللنا من شروط الاحرام عدى الطيب والنساء فإن ذلك لا يصح الا بعد طواف الحج .
ونمنا ليلتنا تلك في منى وذهب مجموعة من الحاج بعد منتصف تلك الليلة نحو مكة المكرمة لاداء طواف الحج ولكن انحراف صحتنا خلال تلك الليلة منعنا عن الالتحاق بهم .. وفي صبيحة اليوم الثاني كان علينا ان نرمي الجمرات الثلاث الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى ... وموقع الجمرات ليس ببعيد عن مخيمنا والطريق الذي يفصل بيننا وبينه واضح المعالم مستقيم الشوارع .
وهذه من اكبر النعم التي من الله بها علينا .. ولهذا فقد توجهنا صباح اليوم الحادي عشر للرمي وحدنا وكان الرمي مزدحما جدا والناظر اليه عن بعد لا يجد سوى رؤوس مرفوعة وأيد ممتدة وحصى تنهال كالمطر على الجمرات ، منظر رهيب يومي بالكثير .. ووصلنا الى مقربة من الجمرة الصغرى فوقفنا ننتظر لحظة مناسبة نتمكن خلالها ان نلج هذه الجموع نعم هذه الجموع التي جاءت تؤكد على الجانب السلبي من العبادة . فهي عندما طافت حول البيت وسعت بين الصفا


( 357 )

والمروة اكدت على طبيعة مسيرتها في الحياة وانها تنطلق من الله لتعود اليه وذلك هو الجانب الايجابي جانب الطاعة الكاملة والانصياع التام للخالق جل وعلى .. وهنا . هنا ، عليها ان تؤكد على الجانب السلبي من العبادة فهناك رسمت عبادتها كلمات الاطاعة .. الانقياد .. وهنا ترسم عبادتها كلمات رفض المعصية ورمي ما يعكر مسيرة الانقياد .. انه الجانب السلبي ، فلا يكفي في مفهوم التوحيد الخالص ان يعبد الانسان ربه ويعبد معه سواه وليس من علامات العبادة الصادقة ان يطيع الانسان خالقه ثم لا يرفض ما يتعارض مع أمر الخالق ولهذا اشتملت اعمال الحج على الجانبين السلبي والايجابي .. ثم هذا الاصرار على الرمي لايام ثلاثة وبحصوات سبع لكل مرة من المرات . ان هذا الاصرار هو بمثابة التأكيد والتشديد على رفض ما هو باطل ومحاربة كل ما يرمز الى الشر من قريب او بعيد . انها عهود ومواثيق تعبر عنها هذه الحصيات . وترمز اليها هذه الجمرات ولا يفوتنا ملاحظة الانسجام بين عدد اشواط الطواف والسعي وبين عدد الحصى لكل رمية وعدد ادوار الرمي . فالعدد في جميع ذلك لا يتعدى السبعة وهذه حكمة نتمكن ان نفهم بها الموازنة التي ينبغي ان يحتفظ بها الانسان في نفسه . نعم الموازنة بين مستوى تقبل المعروف ومستوى رفض المنكر : انه تشريع كامل متجانس النواحي والاطراف ولكن مما يدمي القلب ان نجد اكثر متلقي هذا التشريع غير واعين لحكمته وشموله الواسع .


( 358 )

لو كانت هذه الايدي التي تمتد لترمي هذا النصب الحجري .. لو كانت تمتد دائما وابدا لترمي كل ما يرمز الى معصية الخالق اذن لما كان للشر مقر على الارض . ولكن ..
ووجدنا اخيرا منفذا تغلغلنا خلاله مقتربات نحو الجمرة ومن رحمة الله وعنايته بنا ان تمكنا من الوصول الى أقرب نقطة حيث أدينا واجبنا بسهولة وعدنا بسهولة ايضا . وكذلك كان الحال في رمي الجمرتين فالحمد لله رب العالمين ..
وبقينا ننتظر لكي نعود الى مكة لاداء طواف الحج وبما ان المبيت واجب في منى فكان علينا أحد أمرين .. اما ان نذهب عصراً ونعود قبل منتصف الليل وأما أن ننتظر حلول منتصف الليل ثم نخرج بعد ذلك وقد اخترنا الشق الثاني فنمنا في بداية الليل ساعة او ساعتين ثم استيقظنا بعد منتصف الليل بقليل فجددنا الطهارة وخرجنا بصحبة شقيق المتعهد وخمس من نساء القافلة ورجلين من رجالهن .. واستأجر لنا صاحبنا سيارة اوصلتنا الى باب الحرم المكي ( باب سعود ) كان الطريق خاليا هادئا تنساب السيارة فيه انسيابا مريحا وكنا نشعر بالغبطة كلما اقتربنا من مكة .. فقد كنا على موعد مع ساعات عبادة وعطاء .. ودخلنا الحرم وكان لهيبته اكبر الاثر في نفوسنا وكأننا ندخله للمرة الاولى .. وهذا من خصائص ذلك الحرم الطاهر فهو لا يفقد في نفوس داخليه هيبته وروعته مهما تكررت الزيارات وتلاحقت المشاهدات .


( 359 )

وبدأنا نطوف .. وكان طوافنا هذا اسهل من طوافنا الاول بكثير وذلك لقلة الزحام وهدوء الطواف ولهذا فقد ادينا طوافنا بسهولة لم نكن نتوقعها مطلقا وخرجنا من الطواف لنتجه نحو الصلاة . ووقفنا نصلي في أقرب نقطة من مقام نبي الله ابراهيم وبعد ذلك كان علينا ان نذهب نحو المسعى فاسترحنا قليلا ثم سمينا باسم الله وتوجهنا نحو الصفا والمروة وبدأنا نقطع الاشواط هناك جيئة وذهابا .. وكان صاحبنا يحمل بيده علما اخضرا وهو يسير امامنا لكي لا نضل عنه .. ولكن المجال لم يكن يدعو الى ذلك ولم يكن هناك اي خطر للضلال او لم يكن للضلال اي خطر . وعلى كل حال . فقد سرنا داعيات مرة وساكنات اخرى حتى انهينا اشواطنا السبعة والحمد لله فهل انتهت اعمال الحج بهذا يا ترى . كلا فقد كان علينا ان نطوف طواف النساء . ولولا طواف النساء هو طواف حول الكعبة الشريفة فيه من القرب والخشوع الشيء الكثير لولا هذا لكان غير مرغوب فيه لأن وجوبه يأتي بعد ان يكون الحاج قد صرف من الطاقات اكثرها . ولكن الشعور بالقرب من تلك البقعة المباركة لابد وان يتغلب في نفس الحاج على كل تعب ونصب وطفنا طواف النساء .. وكان الطواف قد ازدحم عن طوافنا الاول نسبيا ولكن وعلى كل حال لم يكن بالشكل المتعب جدا ثم ادينا صلاة الطواف الواجبة وبذلك انهينا جميع اعمال الحج .. عدى رمي الجمرات لليوم الثالث ..


( 360 )

اي شعور من الشكر والامتنان لله الواحد القهار يشعره الحاج عندما ينتهي من نطق آخر كلمة في تشهده من الصلاة ؟ لقد أحسست بالضعة والعجز الكامل عن التمكن من شكر الله على هذه النعمة فسجدنا سجدة الشكر .. ولكن شكرنا لله يحتاج الى شكر .. وذهب صاحبنا بعد الصلاة ليأتي لنا بكوز من ماء زمزم فيا لعذوبة ذلك الماء المالح !! عذوبة معنوية تنسي الشارب مرارته الحسية .
وكنا نحس بمزيد الحاجة الى الماء فشربنا حتى ارتوينا وغسلنا وجوهنا ثم حمدنا الله من جديد .. ولا يسعني هنا الا ان اسجل كلمة شكر لصاحبنا شقيق المتعهد ذلك فقد عاملنا معاملة جيدة ووفر لنا في تلك الساعات جميع ما تمكن عليه من أسباب الراحة فأسأل الله تعالى ان يجزيه عنا خير الجزاء .. وللقارئ ان يتصور مدى حاجتنا في ذلك الوقت الى الراحة وهي لاتتم الا بالعودة نحو منى والطريق كان مهددا بالازدحام كلما قرب انتهاء الليل ولكن كان علينا ان ننتظر فإن احد الحجاج الذي صحبنا في منى كان قد انفصل عنا بالطواف والسعي هو وزوجته وكان علينا ان ننتظره لكي نعود معا .. هكذا قال صاحبنا المتعهد .. وحفاظا على آداب المصاحبة فقد خضعنا للامر الواقع وجلسنا ننتظر . وطالت المدة دون ان يتفضل صاحبنا فيمر علينا مرور الكرام حتى يئس متعهدنا من عودته واعتقد انه قد عاد بزوجته الى منى فخرجنا نسحب اقدامنا في الارض سحبا لشدة التعب والسهر


( 361 )

وهيأ لنا صاحبنا سيارة نقلتنا الى مدخل منى حيث تعذر عليها ان تستمر لكثرة الزحام فنزلنا لنمشي ذلك الطريق الطويل ونحن متعبات مرهقات نعسانات مريضات .. ولكن .. واخيرا وصلنا الى الخيمة والشمس لم تشرق بعد فحمدنا الله على السلامة .. ووجدنا حاجتنا ( زوجة الحاج الفاضل ) تغط في نومة عميقة ثم استيقظت لكي تقول ( لماذا تأخرتم ؟ ) !!
وكنا في حاجة ماسة الى النوم فنمنا قريرات العين لتمكننا من اداء الواجب بالشكل الصحيح .. واستيقظنا بعد ساعتين لتناول افطارنا وكنا قد استعدنا بعض قوانا والحمد لله .

***

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net