متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
النظريات الاجتماعية الغربية المتعلقة بالانحراف ونقدها
الكتاب : النظرية الإجتماعية في القرآن الكريم    |    القسم : مكتبة الثقافة العامة

النظريات الاجتماعية الغربية المتعلقة بالانحراف ونقدها

وهذه النظريات هي من أهم الافكار الاجتماعية التي انتجتها اوروبا الغربية وامريكا الشمالية في عصر التصنيع والنهضة العلمية . وهي اربع نظريات ؛ اولها : نظرية ( الانتقال الانحرافي ) ، وثانيها : نظرية ( القهر الاجتماعي ) ، وثالثها : نظرية ( الضبط الاجتماعي ) ، ورابعها : نظرية ( الالصاق الاجتماعي ) . فنظرية ( الانتقال الانحرافي ) تؤمن بأن الانحراف سلوك مكتسب ، حيث يتعلم الفرد الانحراف كما يتعلم الفرد الآخر السلوك الذي يرتضيه النظام الاجتماعي (1) . بمعنى ان الانحراف اذا ظهر في بيئة اجتماعية معينة فلابد له من الاستمرار والازدهار حتى يتعمق في التركيبة الثقافية والاجتماعية لتلك البيئة . وينتقل ذلك الطابع الانحرافي من فرد الى آخر ثم من جيل الى آخر دون ان يتغير الدافع الذي يؤدي الى ارتكاب الجريمة لدى الفرد . ولما كان الانسان يولد نقياً من بذرة الانحراف ، فان العوامل التي تساعده على تكوين شخصيته الاجرامية لابد وان تكون متسلسلة الحدوث خلال مسيرته التطورية من الطفولة وحتى البلوغ . بمعنى ان هذه العوامل مرتبطة قطعاً بالبيئة التي يعيشها الفرد خلال ادوار نموه المختلفة ، وأهمها على الاطلاق انفتاحه على المنحرفين عن طريق الصداقة والمودة.
وتتجاهل هذه النظرية جوهر المشكلة الانحرافية ، وهي ان الدافع
____________
(1) ( ادوين سوذرلائد ) . مبادئ علم الاجرام . فيلادلفيا : ليبنكوت ، 1939 م.

( 78 )

الرئيسي للانحراف هو عدم اشباع الحاجات الانسانية الاساسية للمنحرفين من قبل النظام الاجتماعي . فالانحراف عموماً لا يحتاج الى معلم ؛ فالسارق الجائع يعرف بالغريزة كيف يفعل فعلته ، والقاتل يعرف بالغريزة كيف يقتل ، والغاصب في مجتمع منحل يعرف كيف يتعامل مع ضحيته . وفي كل هذه الجرائم يكون الدافع والحاجة عاملين مهمين من عوامل ارتكاب الفعل نفسه . اضف الى ذلك : ان هذه النظرية تقصر عن التمييز ما بين الانحراف الاقتصادي والانحراف الاخلاقي والسياسي ، وتعجز عن تفسير ظهور الانحراف بين افراد الطبقة الرأسمالية الذين لايرتبطون بأية فئة منحرفة اجتماعياً.
ويعتقد ( اميلي ديركهايم ) مؤسس نظرية ( القهر الاجتماعي ) بأن الانحراف ظاهرة اجتماعية ناتجة عن القهر والتسلط الاجتماعي الذي يمارسه بعض الافراد ضد البعض الآخر (1) . فالفقر باعتباره انعكاساً صارخاً لانعدام العدالة الاجتماعية بين الطبقات ، يولد رفضاً للقيم والاخلاق الاجتماعية التي آمن بها الرعيل الاكبر من افراد النظام الاجتماعي . وما الانحراف الا صورة من صور ذلك الرفض الاجتماعي . والفرد الذي لا يصل الى تحقيق اهدافه عن طريق الوسائل المقررة اجتماعياً ، يسلك مسلكاً منحرفاً يؤدي به الى هدفه كالسرقة ، والرشوة ، والبيع الذي يحرمه القانون . وهنا يلعب القهر الاجتماعي دوراً في توليد ضغط لدى بعض الافراد كي ينحرفوا اجتماعياً.
____________
(1) ( اميلي ديركهايم ) . تقسيم العمل في المجتمع . جيلنكو ، الينوي : المطبعة الحرة ، 1964 م . الطبعة الاولى صدرت في عام 1893 م.

( 79 )

الا ان هذه النظرية فيها خلل واضح ، وهو تجاهلها للانحراف الناتج عن الاضطرابات العقلية والامراض النفسية ، وهو انحراف غير مرتبط بالقهر الاجتماعي . وتعجز هذه النظرية أيضاً عن تفسير ظاهرة الانحراف بين افراد الطبقة الرأسمالية الغنية ، ومصاديقها القتل والاعتداء والاغتصاب ، مع انهم يملكون كل وسائل الثروة والمنزلة الاجتماعية ، ومع ملاحظة انتفاء ظاهرة القهر الاجتماعي عنهم.
اما نظرية ( الالصاق الاجتماعي ) فهي تشير الى حقيقة مهمة تجعلها محور فكرتها الرئيسية ، وهي ان الانحراف الاجتماعي انما هو نتاج نجاح مجموعة من الافراد بالاشارة الى افراد آخرين بأنهم منحرفون (1) . وتستند فكرة النظرية على فرضية الصراع الاجتماعي بين الافراد ومحاولة اتهام بعضهم البعض بالحيود والزيغان عن المجرى العام للسلوك الاجتماعي . وتقسم الانحراف الى قسمين ؛ الاول : الانحراف المستور ، والثاني : الانحراف الظاهر . فعندما يتهم افرادٌ بالانحراف علناً ، فان الوضع النفسي والاجتماعي للمتهمين سوف يتبدل بالمقارنة فيما لو بقي الانحراف مستوراً . فاذا ألصقت تهمة السرقة بشخص مثلاً ، وتهمة الرشوة بشخص آخر ، وتهمة التجديف بثالث ، شعر هؤلاء الافراد بالاهانة الاجتماعية ؛ لأن الآثار المترتبة على انحرافهم تعني : اولاً : انزال العقوبات التي اقرها النظام الاجتماعي بهم . وثانياً : افتضاح امرهم امام الناس . وثالثاً : انعكاس ذلك الافتضاح على
____________
(1) ( هاورد بيكر ) . الخارجون : دراسات في علم اجتماع الانحراف . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1963 م . وايضاً : ( ادوين ليمرت ) . الانحراف الانساني ، المشاكل الاجتماعية ، والسيطرة الاجتماعية . انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1967 م.

( 80 )

معاملة بقية الافراد لهم . ولذلك فان الصفات القاسية التي يستخدمها النظام ضدهم كصفات السرقة والرشوة والتجديف انما وضعها في الواقع : النظام الاجتماعي والسياسي وألصقها بهؤلاء الافراد.
ولكن هذه النظرية بتشديدها على فكرة الالصاق ، تبرر بصورة غير مباشرة ظاهرة الانحراف المستور ؛ لان الانحراف اذا لم يلصق بفئة من الافراد فانه سيصبح سلوكاً طبيعياً . ولكن السارق في البيع والشراء يعد سارقاً بغض النظر عن الصاق التهمة به أو عدم الصاقها به . والمرتشي يعد مرتشياً ان الصقت التهمة به ام لا . والقاتل الذي لم تكشف جريمته يعتبر قاتلاً في كل الاحوال ، أالصقت التهمة به ام لم تلصق . وهذه النظرية تعطي الفرد مبرراً لاستمرار الانحراف ، فالمنحرف يجد عذراً بإلقاء سبب انحرافه على النظام الاجتماعي ، ولا يقيم لدافعه الذاتي نحو ارتكاب الجريمة وزناً . وهذا يتنافى مع الاصول العامة للتجريم التي تأخذ الدافع الذاتي والنية المسبقة بنظر الاعتبار.
ولعل نظرية ( الضبط الاجتماعي ) تعتبر من أقرب النظريات الغربية الى الواقع القرآني . فتعتقد هذه النظرية بأن الانحراف ظاهرة ناتجة عن فشل السيطرة الاجتماعية على الافراد (1) ؛ لان الانحراف يتناسب عكسياً مع العلاقة الاجتماعية بين الافراد . فالمجتمع المتماسك رحمياً يتضاءل فيه الانحراف ، على عكس المجتمع المنحل . ولو درسنا نسب انتحار الافراد في المجتمع الانساني للاحظنا انها اكثر انتشاراً في المجتمعات التي لاتهتم
____________
(1) ( اميلي ديركهايم ) . تقسيم العمل في المجتمع . جيلنكو ، الينوي : المطبعة الحرة ، 1964 م . وايضاً : ( ترافيس هيرشي ) . اسباب الجنوح . بيركلي ، كاليفورنيا : مطبعة جامعة كاليفورنيا ، 1969 م.

( 81 )

بعلاقات القربى والعشيرة وصلة الرحم . وعلى هذا الاساس آمنت هذه النظرية بان افراد المجتمع المتماسك من ناحية العلاقات الرحمية والانسانية أكثر طاعة للقانون وأكثر اتباعاً للقيم التي يؤمن بها من افراد المجتمع المتحلل في علاقات افراده الاجتماعية . وبالجملة ، فان الافراد الذين تربطهم الاواصر الاجتماعية المتينة ، وينغمسون في اعمالهم ونشاطاتهم ، ويستثمرون في المجتمع اموالهم واولادهم ، ويطبقون ـ بكل ايمان ـ احكام دينهم ؛ فهؤلاء تتضاءل عندهم فرص الانحراف الاجتماعي ، وتزداد من خلال سلوكهم فرص الاستقرار والثبات على الخط الاجتماعي السليم.
وهذه النظرية تعكس ـ بشكل جزئي ـ بعض المفاهيم القرآنية التي تتعامل مع العلاقات الاجتماعية وتأثيراتها الايجابية في ضبط سلوك الافراد ، كصلة الرحم : ( والذين يصلون ما أمر الله به ان يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) (1) ، ( يسألونك ماذا ينفقون ؟ قل ما أنفقتم من خيرٍ فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خيرٍ فان الله به عليم ) (2) ، واكرام الجار : ( ... والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب ) (3) ، والنهي عن الظلم : ( ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً ) (4) . وحرمة اذى المؤمنين : ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً واثماً مبيناً ) (5) ،
____________
(1) الرعد : 21.
(2) البقرة : 215.
(3) النساء : 36.
(4) الفرقان : 19.
(5) الاحزاب : 58.

( 82 )

والنهي عن احتقار الناس : ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى ان يكونوا خيراً منهم ، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ، ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تنابزوا بالالقاب ، بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ، ومن لم يتب فاولئك هم الظالمون ) (1) ، واصلاح ذات البين : ( انما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين اخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون ) (2) ، والتعاون على الخير : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ) (3).
ومع كل هذه الاقتباسات ـ التي اقتبسها ( اميلي ديركهايم ) لتصميم نظريته الخاصة بالضبط الاجتماعي من المفاهيم القرآنية ـ تبقى تلك النظرية عاجزة عن عرض الصورة الاجتماعية الشاملة للانحراف وطرق معالجته . فديركهايم لم يتناول معالجة الانحراف بين الافراد الذين تتوفر فيهم جميع عناصر منع الانحراف الاجتماعي ، كالطبقات الرأسمالية في الدول الصناعية ، وبابوية القرون الوسطى في اوروبا ، والتجار الاثرياء في الانظمة الحرة مع انهم يتمتعون بأفضل الصلات العائلية والعشائرية ، ويمارسون أفضل الهوايات الفكرية والبدنية ويستثمرون اموالهم في العقارات والمزارع والمصانع ، ويعتقدون بدياناتهم المختلفة.
والخلاصة : ان هذه النظريات الاجتماعية الغربية الاربع تفشل في تفسير ظاهرة الانحراف والتجريم بالصورة الدقيقة الشاملة المستوعبة لكل
____________
(1) الحجرات : 11.
(2) الحجرات : 10.
(3) المائدة : 2.

( 83 )

مفردات الواقع الاجتماعي . فهذه النظريات ـ منفصلةً ـ لا تستطيع تفسير جرائم المقامرة ، وانحراف الاحداث ، وتعاطي المخدرات ، والتحايل في دفع حقوق الفقراء ... وكل نظرية من هذه النظريات تنظر للجرييمة بشكل تجزيئي محدود ولا تنهض بمستوى النظرة الكلية للمشكلة الانحرافية بحيث تستوعب كل مفردات وتشكيلات الاجرام الفردي والجماعي في المجتمع الانساني.

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net