متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
فلسفة ( الطب ) في النظريات الغربية ونقدها
الكتاب : النظرية الإجتماعية في القرآن الكريم    |    القسم : مكتبة الثقافة العامة

فلسفة ( الطب ) في النظريات الغربية ونقدها

ولاشك ان للنظام الاجتماعي الانساني مصلحة حقيقية في انشاء نظام صحي متكامل لعلاج الامراض وللحفاظ على نظافة المجتمع من الاوبئة والامراض المعدية ، حتى يتم استثمار طاقات العمال الاصحاء بطريقة يكون مردودها الانتاجي متناسباً مع حجم قابليات ذلك النظام . وعلى هذا الاساس فان من مصلحة النظام الاجتماعي مثلاً ، تحديد : ( من هو المريض ؟ ) ، ومن مصلحة النظام الاجتماعي ايضاً معرفة من يصطنع المرض كي يجد مخرجاً يهرب فيه من اداء الواجبات الاجتماعية المناطة به.
وهذه الفكرة دعت ( تالكوت بارسنز ) ، وهو احد رواد النظرية التوفيقية ، الى القول بان المرض ليس ظاهرة بيولوجية فحسب ، بل انه ظاهرة اجتماعية ايضاً (1) . فالمجتمع الانساني لايتطور تطوراً طبيعياً مالم يقم الافراد جميعاً باداء ادوارهم الاجتماعية في كل الاوقات . فاذا تعرض احدهم لمرض من الامراض اصبح دوره الاجتماعي شاغراً لانه لايستطيع القيام بتأدية ذلك الدور المناط به اجتماعياً . والنتيجة ، اما ان يحال ذلك الدور الى فرد سليم من الناحية الصحية ، واما ان يبقى شاغراً دون شاغل يشغله . وهذا التبدل في الادوار الاجتماعية يسلط ضغطاً ويولد ارباكاً ضد الحركة
____________
(1) ( تالكوت بارسنز ) . بحوث في النظرية الاجتماعية . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1954 م.

( 166 )

الطبيعية للنظام الاجتماعي . وبما ان المرض عامل اجتماعي سلبي على الانسان ، فان نزوله بعضو من اعضاء النظام الاجتماعي يضع ذلك المجتمع وجهاً لوجه امام مسؤولياته في التعامل مع ذلك المريض . ولذلك فان الجهة التي تحدد المرض يجب ان تتمتع بشرعية قانونية يقرها النظام الاجتماعي ، حتى تستطيع تعويض الخسارة الاجتماعية التي يجلبها المرض على الفرد والعائلة والنظام الاقتصادي والاجتماعي بشكل عام.
ولكن هذه النظرية لاتخلو من مفارقات واخطاء ، فهي تصب جل اهتمامها على الامراض غير المزمنة كالانفلونزا وامراض الجهاز الهضمي والبولي ؛ وهذه امراض يتم علاجها في فترة قصيرة نسبياً ، ولكنها تهمل امراضاً مزمنة يصعب علاجها بفترة قصيرة كأمراض تضخم الانسجة ( السرطان ) ، وامراض نقص المناعة الحاد ، والامراض المؤدية الى فشل القلب في تأدية نشاطه الطبيعي ؛ حيث لايستطيع المريض في هذه الحالات المزمنة ايجاد شفاء عاجل لمرضه . وازدياد عدد الامراض المزمنة يؤدي الى استهلاك موارد النظام الاجتماعي ، بشكل لا يرتضيه النظام الرأسمالي لنفسه ؛ لان الفكرة الرأسمالية تستند بالاصل على الربح والخسارة . وأية خسارة تتجاوز الخطوط المرسومة لايحتملها النظام الاجتماعي.
أضف الى ذلك ان نظرية ( تالكوت بارسنز ) تركز على الطب العلاجي وتهمل فرضية الوقاية التي اشار الى بعض مواردها القرآن المجيد ، كما تناولنا ذلك في النظام الوقائي في الاسلام . ونضيف ثالثاً ، بان المجتمع الرأسمالي لو امتثل للمقولة المأثورة ( الوقاية خيرٌ من العلاج ) لانقذ حياة


( 167 )

الملايين من الافراد الذين يموتون بسبب مخالفتهم هذه القاعدة الصحية . ففي العقد الاخير من القرن العشرين يموت في الولايات المتحدة بسبب عادة سيئة واحدة يمكن الوقاية منها ـ وهي التدخين وما يترتب عليها من امراض ، كسرطان الرئة والفم والبلعوم ـ اكثر من 350 الف فرد سنوياً (1) . ويكلف هؤلاء النظام الصحي الامريكي ، من ادوية وعناية طبية قبل موتهم مبلغاً يقدر باكثر من عشرين بليون دولار (2) . ولكن لو طبق نظام الوقاية لوفر على ذلك المجتمع هذا المبلغ الكبير من المال ، وأرجع قسماً من هؤلاء الى اعمالهم وانتاجهم.
اما نظرية الصراع الاجتماعي ، فانها اعتبرت المعافاة الصحية مصدراً من مصادر القوة الاجتماعية التي اهتم بها الرأسماليون (3) . ولما كان المجتمع الرأسمالي مبنياً على المنافسة الاقتصادية ، فان المنافسة للسيطرة على النظام الصحي تحمل معها كل معاني المنافسة الاقتصادية ، لان النظام الصحي يدر على الطبقة الرأسمالية مقداراً هائلاً من الثروة ؛ ناهيك عن اندماج قادة النظام الصحي في العملية الرأسمالية ، وخصوصاً عمليات الاستثمار وما يصحبها من قدرة على تحويل القوة الاقتصادية الى قوة سياسية . واذا كان توزيع الثروة في المجتمع الرأسمالي محصوراً في الطبقة الرأسمالية القوية ، فان النظام الصحي ـ بكل ما يجلبه من خيرات سيكون حتماً ـ في قبضة اليد
____________
(1) ( وليام كوكرهام ) . علم الاجتماع الطبي . نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1986 م.
(2) ( ديفيد ميكانيك ) . قراءات في علم الاجتماع الطبي . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1980 م.
(3) ( هاورد ويتكن ) . المرض الثاني : تناقضات العناية الصحية الرأسمالية . شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو ، 1986 م.

( 168 )

الرأسمالية ؛ لان هذا النظام الصحي يمثل الطرف المنتصر في عملية الصراع الاجتماعي.
ولكن النظرية تتجاهل دور المؤسسة الصحية في التعامل مع الامراض على مستوى جميع الطبقات الاجتماعية . فتلك المؤسسة هي التي تقوم بتلقيح جميع الافراد باللقاحات الطبية قبل انتشار الاوبئة ، وهي التي تقوم بتنظيم قوانين الصحة العامة كتعقيم الحليب ضد الجراثيم ، وتنقية مياه الشرب ، وفحص الطعام المطبوخ في المطاعم العامة ، والسيطرة على الحشرات الناقلة للامراض كالبعوض والذباب والقمل . وهذه الانشطة الصحية لاتختص بطبقة دون اخرى بل تشمل كل الطبقات الاجتماعية الفقيرة والغنية.
وفي ختام هذا الفصل لابد ان نؤكد على فشل النظريات الغربية في التعامل مع المرض والنظام الحياتي والاجتماعي للفرد . ولايبقى لنا لمعالجة هذا الامر الا النظرية القرآنية التي تتعامل مع جسم الانسان عن طريقي الوقاية والغذاء ، فنقول :
ان التقدم العلمي المعاصر في الطب ، لم يقلل عدد الامراض التي يعاني منها المجتمع الغربي الرأسمالي ؛ حتى ان ( النظرية الجرثومية ) التي أبهرت العالم في القرن التاسع عشر لم يعد لها رصيد امام امراض الحضارة الرأسمالية الحديثة مثل السرطان ، وامراض القلب ، وانتفاخ الرئة ، والشلل ، وامراض نقص المناعة المكتسبة . بل أصبح النظام الصحي الرأسمالي بكل تقدمه العلمي الجبار عاجزاً عن علاج هذه الامراض الحديثة لان هذه


( 169 )

الامراض الخطيرة التي يعاني منها الفرد الغربي تقاوم وتتحدى الطب الحديث بكل قواه ومؤسساته وإمكانياته الكبيرة . وعلاج امراض السرطان والقلب والقرحة تكلف مالاً اوفر ، وتتطلب وقتاً اطول . ومن المؤكد ان امراض الحضارة الحديثة تبقى ما بقيت الحضارة الرأسمالية تستثمر الارض بشكل جنوني لاعتصار اقصى قدر ممكن من الخيرات . فمصانع الحديد والصلب والكيميائيات ومصانع الذرة تلوث البيئة الانسانية ، مسببة امراضاً بشرية لم يعرف لها الانسان القديم اسماً ولاشكلاً . بل ان هذه الحضارة جلبت للانسانية امراضاً واوجاعاً لم تأت بها اية حضارة انسانية اخرى على مر التاريخ.
ان امراض القلب ـ مثلاً ـ تعتبر من امراض الحضارة الحديثة . وسببها ؛ اولاً : كثرة تناول اللحوم الحمراء وهي لحوم الغنم والبقر والخنزير الحاوية على نسبة عالية من الشحوم الحيوانية ؛ وثانياً : ان شره الافراد في المجتمع الرأسمالي لتناول هذه اللحوم لا يحدها حد طبي او قانوني ، لان اختيار الطعام مسألة متعلقة بالحرية الشخصية ، التي هي اساس المبدأ الرأسمالي . فلا يحق لأية جهة طبيةٍ التدخل قانونياً لتنظيم حرية الافراد الشخصية . ولذلك فان امراض القلب التي تؤدي الى الوفاة ، تعتبر من اكثر الامراض انتشاراً في الولايات المتحدة في القرن العشرين (1) . ولكن آية قرآنية واحدة تستطيع ان تقضي على هذه المشكلة الصحية الخطيرة بكل بساطة . هذه الآية تدعو الى الاعتدال في الاكل والشرب وبضمنها
____________
(1) ( ري ايلنك ) . دراسة قومية حول الانظمة الصحية . نيوجرسي : الكتب التجارية ، 1980 م.

( 170 )

الاعتدال في أكل اللحوم ، فتقول : ( وكلوا واشربوا ولاتسرفوا انه لايحب المسرفين ) (1) . وكل من يشذ عن هذه القاعدة يدخل في متاهات الادمان والاضطراب الصحي التي تؤدي الى الموت.
والخلاصة ، ان المؤسسة الطبية الراسمالية تساعد على تخفيف آلام العديد من الامراض ، ولكنها لاتستطيع محو نتائجها المتوقعة التي تؤدي في النهاية الى الوفاة . ولانشك ان الطبقة الرأسمالية المتحكمة تعلم ان الوقاية وتحسين نوعية الغذاء أسلم وأرخص الطرق لتكامل المجتمع الانساني صحياً : الا انها لاتريد تغيير نظامها الصحي ، لان الوقاية وتحسين نوعية الغذاء لاتدر عليها ارباحاً هائلة كما يدرها النظام الصحي القائم اليوم . اضف الى ذلك ان انصار الفكرة الرأسمالية متمسكون بالمبدأ الرأسمالي الذي يترك للفرد حرية تقرير المصير ـ فيما يتعلق باشباع الشهوات الفردية ـ حتى لو كانت اضرار ممارسة تلك الشهوات ـ طبياً ـ واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
____________
(1) الاعراف : 31.

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net