متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
فلسفة ( الدولة ) في النظريات الغربية ونقدها
الكتاب : النظرية الإجتماعية في القرآن الكريم    |    القسم : مكتبة الثقافة العامة

فلسفة ( الدولة ) في النظريات الغربية ونقدها

ان اول من ناقش فكرة دور الدولة في حفظ ورعاية مصالح الطبقة الغنية في المجتمع من انتفاضة الفقراء هو المفكر الفرنسي ( جان ـ جاك روسو ) في القرن الثامن عشر الميلادي (1) . فاعلن ان نشوء الدولة هو الذي عكر صفو النظام الاجتماعي ، وحطم العدالة الاجتماعية . ذلك انها انشئت لحماية الاغنياء من غضب الفقراء فحسب . فالانسان يولد حراً ، ولكنه يكبل من قبل الدولة بالقيود . فهذا الجهاز السياسي ـ اذن ـ لا يفرض العدالة بين افراد الطبقات ، وانما يحمي مصالح الطبقة القوية فقط.
وبعد قرن من الزمان ، جاء ( كارل ماركس ) بنظريته عن نشوء الدولة ، وبالخصوص في كتابه ( البيان الشيوعي ) المطبوع سنة 1848 م (2) ، والذي زعم فيه بأن جميع المجتمعات الانسانية ـ ما عدا البدائية منها ـ مقسمة من الناحية الطبقية الى طبقتين : الطبقة المسيطرة ، والطبقة المسيطر عليها . فالطبقة المسيطرة تستخدم كل المؤسسات الخاصة بالدولة لإحكام سيطرتها وقبضتها على الافراد ، حتى تبقى محتفظة بالمنافع والمغانم التي
____________
(1) ( جان ـ جاك روسو ) . العقد الاجتماعي . ميدلسكس ، انكلترا : بنكوين ، 1968 م . الطبعة الاولى عام 1762 م.
(2) ( كارل ماركس ) . كتابات مختارة في علم الاجتماع والفلسفة الاجتماعية . تحرير : تي . بي . بوتمور وماكيميلان روبل . بلاتيمور ، ميريلاند : بنكوين ، 1964 م . الطبعة الاولى عام 1848 م.

( 245 )

تدرها عليها عملية الحكم ؛ ولذلك فان الدولة بمؤسساتها المختلفة تخدم مصالح الطبقة المتحكمة ، ولا تهتم بحرمان وآلام الطبقة المستضعفة . فاين عدالة الدولة اذن ، اذا كانت تلك المؤسسة السياسية مجرد ( لجنة تنفيذية لحماية الطبقة الحاكمة ) ؟ واين عدالة الدولة ، اذا كانت مؤسساتها تدافع عن مصالح الطبقة الرأسمالية الحاكمة وتسمح لها بالتمتع بالثروة الفائضة التي انتجها العمال المستضعفون ؟
ولكن نظرية الصراع الاجتماعي واجهت مجابهة عنيفة ، من قبل النظرية التوفيقية التي قالت بان الدولة ضرورية للاجتماع الانساني ؛ ووظيفتها خطيرة في حفظ النظام الاجتماعي ، ورعاية مصالح الافراد عن طريق القانون (1) . والنظرية الاخيرة قامت على افكار ( توماس هوبس ) من مفكري القرن السابع عشر الميلادي ، الذي آمن بان الافراد يجب ان يقبلوا بالتضحية بحرياتهم مقابل تجنب الفوضى الناتجة عن عدم وجود الدولة (2) . وهذا العقد الاجتماعي بين الدولة والفرد هو الذي يحفظ النظام والحضارة في المجتمع الانساني.
وتذهب النظرية التوفيقية الى ان المجتمعات الريفية الصغيرة لاتحتاج الى قانون معقد لتنظيم حياتها اليومية ؛ على عكس المجتمعات الصناعية الكبرى ، التي تتطور فيها الحياة الاجتماعية والاقتصادية بشكل
____________
(1) ( تالكوت بارسنس ) . السياسة والتركيبة الاجتماعية . نيويورك : المطبعة الحرة ، 1959 م.
(2) ( توماس هوبس ) . الدولة . نيويورك : مطبعة الفنون الليبرالية ، 1958 م . الطبعة الاولى عام 1598 م.

( 246 )

سريع وفعال ، فيحتاج الافراد ـ عندئذٍ ـ الى نظام قانوني يساعدهم على حفظ ممتلكاتهم ورعاية مصالحهم المتشابكة مع مصالح الاخرين . فتقوم الدولة ـ حينئذٍ ـ بتحمل مسؤولية حفظ النظام عن طريق فرض القانون ، وتطويع الافراد بمختلف اتجاهاتهم وألوانهم لنفوذه وسلطته العليا التي تتجاوز كل السلطات الاخرى.
وتقوم الدولة أيضا بتوزيع الخيرات الاجتماعية على الافراد في المجتمع ؛ وامثلتها توزيع الدواء وقت انتشار الاوبئة ، وتوزيع الاسمدة على المزارعين ، واستثمار المعادن وتصنيعها حتى تتم الاستفادة منها . وعلى ضوء ذلك فان الدولة بتشريعها القوانين المتعلقة بتوزيع خيرات البلاد على الافراد ، ورعاية حقوقهم الشخصية من تعدي الآخرين عليها ، تقوم بحفظ الحقوق الاجتماعية العامة.
ولكن في معرض نقدنا لنظريتي ( الصراع الاجتماعي ) و( التوفيقية الغربية ) ، لابد لنا ان نقول ان تحليلي ( روسو ) و( ماركس ) لنشوء الدولة الرأسمالية ، مع انه ينصب على الجانب الوظيفي لتلك المؤسسة الاجتماعية ، ويحلل دور الدولة في حماية مصالح الطبقة الحاكمة ، ويفسر تطورها مع نشوء الطبقات الاجتماعية ؛ الا ان ( ماركس ) يفشل في ادراك حقيقة مهمة وهي ان للدولة وظائف اخرى ليست لها علاقة بصراع الطبقات . فالدولة على مساوئها الادارية والطبقية تنظم شؤون المواطنين لا في الاشراف على الانتاج فحسب ، بل في الاشراف على استثمار الثروة الاجتماعية ايضا . فمن الذي يبني الطرقات والجسور والمرافق العامة ؟ ومن الذي يحفظ النظام


( 247 )

والامن الاجتماعي للناس ؟ ومن الذي يقدم المعونة الغذائية والانسانية والطبية للافراد وقت الكوارث الطبيعية ؟ والجواب على هذه الاسئلة بالتأكيد ، هو الدولة بكل مؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والقضائية والعسكرية . وقد لاحظنا ان حفظ النظام في الانظمة الاشتراكية المندثرة لم يتحقق الا بالقبضة الحديدية للدولة ومؤسساتها المختلفة.
ولكن فشل نظرية الصراع في تقديم نظرية متكاملة حول الدولة والنظام السياسي يكمن في عدم تمييزها بين ضرورة وجود الدولة وبين عدالتها . فلا أحد يشك بأهمية وجود الدولة لحفظ النظام ، وتوزيع الثروات ، والتخطيط الاجتماعي والاقتصادي . ولكن القضية الحاسمة التي يتصارع حولها الفرقاء من شتى العقائد والافكار انما تتمثل بفكرة ( عدالة الدولة ) . فمن الذي يضمن عدالة توزيع الثروات على الافراد بحسب حاجاتهم ، دون الاكثرات لعقائدهم الدينية وأصولهم العرقية وألوان بشراتهم ؟ ومن ذا الذي يضمن عدالة الدولة في اشتراك جميع الافراد في الحكم والسلطة ؟ ومن ذا الذي يضمن عدالة الدولة في بناء اقتصادها على اساس التوزيع الجغرافي العادل لا على اساس التوزيع المذهبي او الطائفي الديني ؟ هنا تفشل النظرية التوفيقية في الاجابة على هذه الاسئلة ، وتعجز عن تحليل عدالة الدولة . ولا ريب ان الدولة الظالمة وتشريعة الغاب على صعيد واحد فيما يتعلق بالحقوق ، حيث تهمل في كليهما حقوق الافراد الاجتماعية المتعلقة بالضمان والرعاية والمساواة . فما قيمة القانون اذا كان يحمي الظالم دون المظلوم ؟ وما قيمة الخيرات اذا كانت توزع على اساس


( 248 )

الغصب والظلم ؟ وما قيمة التخطيط اذا كان لا يصب في مصلحة الفرد والجماعة ؟ وما قيمة العلاقات الدولية اذا كانت لا تخدم الفرد في مجتمعه ؟ وهكذا تفشل النظريتان في تقديم تحليل مقبول لنظرية الدولة في نشر النظام والعدالة في ربوع النظام الاجتماعي والمساواة بين جميع الافراد دون استثناء.
وحتى ان الفكرة الديمقراطية القائمة على قاعدة ان السلطة ملك للافراد جميعاً (1) ، حيث يحق لهم المشاركة في القرار السياسي ، ويثبت لهم الحق في انتخاب المسؤولين ، لا تخلو من نواقص وهفوات ، شأنها في ذلك شأن بقية الافكار الغربية المعاصرة . فهذا الشكل من الحكم نظري بطبيعته ، لانه يستحيل ان يشارك كل مواطن صالح في كل قرار سياسي تتخذه الدولة ، علماً بان النظام الديمقرطي الامريكي الذي رفع لواء هذه الفكرة كان يحرم الزنوج والنساء ومن لا يمتلك قطعة ارض في القرن التاسع عشر الميلادى من حق الانتخاب (2) . ولاشك ان الديمقراطية المعاصرة تعني الديمقراطية التمثيلية ، حيث يقوم الناخبون بانتخاب افراد يمثلونهم في صنع القرار السياسي (3) . ولكن هذه الفكرة ايضاً تعرضت للكثير من النقد . وأهم نقد وجه لها هو ان الديمقراطية تصادر حقوق الاقليات ، لان طغيان الاغلبية واستئثارها بقواعد القوة السياسية يضع الاقلية في موضع خاسر . فالزنوج في الولايات المتحدة ، والهنود في بريطانيا ، والاتراك في المانيا ،
____________
(1) ( الكسيس دي توكفيل ) . الديمقراطية في امريكا . نيويورك : دبل دي ، 1975 م . الطبعة الاولى عام 1848 م.
(2) ( سيمورمارتن لبست ) . الرجل السياسي . نيويورك : دبل دي ، 1959 م.
(3) ( موريس دوفركر ) . الاحزاب السياسية . نيويورك : وايلي ، 1954 م.

( 249 )

والعرب في فرنسا تهدر حقوقهم الشرعية والقانونية بسبب تحكم الاكثرية الاوروبية البيضاء بالقوة السياسية.
ومع ان بريطانيا ، تعتبر نفسها مهد الديمقراطية السياسية الحديثة ومنشأ النظام الرأسمالي ، الا ان نظامها الطبقي يناقض معتقدات النظرية السياسية الزاعم بان الديمقراطية الملكية ارقى واكمل الانظمة السياسية (1) . فكيف تتحكم الطبقة الارستقراطية الثرية بمقاليد الامور السياسية لقرون ، مع ان الديمقراطية تستدعي اشتراك جميع الطبقات الاجتماعية في الحكم ؟ وكيف يحق للعائلة الحاكمة تملك اموال تتجاوز قيمتها ملكية اي عائلة بريطانية ، مع ان الديمقراطية الرأسمالية تستدعي مشاركة الجميع في جني الخيرات التي تدرها العملية الانتاجية ؟
ونستنتج اخيراً من عرض هذه النظريات والآراء ونقدها ، ضعف النظريات الاجتماعية التي صممها المفكرون من شتى المشارب الفكرية . ونلاحظ ـ بكل قوة ـ كمال النظرية السياسية القرآنية التي تعكس جوهر العدالة الاجتماعية ، وتعطي الحكم والسلطة معنىً اخلاقياً واطاراً تعبدياً يتمثل بمفهوم الاستخلاف في الارض الذي يعتبر من انصع صور التكليف الشرعي للافراد.
____________
(1) ( جيرهارد لنسكي ) . السلطة والامتيازات : نظرية في انعدام العدالة الاجتماعية . نيويورك : ماكرو ـ هيل ، 1966 م.

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net