متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ب ـ ائتوني بكتف ودواة
الكتاب : السقيفة    |    القسم : مكتبة رد الشبهات
ب ـ ائتوني بكتف ودواة :
قد شاهد النبي ( ص ) ما كان من أمر عرقلة بعث اسامة ، وهؤلاء القوم المتباطؤن لم ينفع معهم صعوده المنبر عاصبا رأسه في أشد حال لا تقله رجلاه مما به من لغوب ، مشددا عليهم النكير على مقالتهم في حق اسامة وتخلفهم عن البعث .
وهي اول حادثة من نوعها تمر على النبي في المدينة ، لا يطاع امره ويتجاهل حكوه ، ويتساهل في غضبه ، ثم لا يستطيع ان ينفذ هذا الامر وهو مصر على تنفيذه إلى آخر يوم من حياته إذ دخل عليه اسامة راجعا من الجرف فأمره بالسير غاديا .
لا شك ان مثل هذا الحادث يدعو إلى تدبير آخر سريع


( 85 )

لاتمام الامر لعلي ، ومنه يتأكد للنبي جليا ما عليه القوم من التواطؤ على عدم التقيد بالنص على علي . وهم إذا كانوا في حياته لا يطيعون أمره في هذا السبيل فكيف اذن بعد وفاته . فلم يجد بعد هذا خيرا من ان يكتب لهم كتابا فاصلا لا يضلون بعده ابدا ، لانه سيكون امرا ثابتا لا يقبل التأويل والنكران والتناسي ، لا كالكلام الذي لا يحفظ الا في الصدور وهي لا تسلم من دخل .
ما أعظمه من كتاب ؟
أهم لا يضلون بعده ابدا ؟
ما أعظمها من نعمة !
بالله أبالله أهكذا قال النبي ؟
نعم ! لما اشتد المرض به « يوم الخميس » وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب ، قال ( ص ) : « هلموا اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ابدا » .
فأية فرصة غالية هذه يجب ان يقتنصها الحاضرون لهم ولجيلهم وللاجيال اللاحقة حتى الابد ؟ وأية نعمة كبرى هذه لا تعادلها نعمة ! . . . أما كان على المسلمين ان يستغلوها اعظم غنيمة فيسرعوا إلى تلبية هذا الطلب ليخلد لهم الهدى ما بقوا ؟ فأي شيء كان يؤخرهم عن اقتناص هذه النعمة ؟
أو ليس عمر بن الخطاب حال دون هذا التدبير ، فأوهى


( 86 )

منه عقدته المحكمة ، فقال : « ان رسول الله قد غلبه الوجع ـ أو ليهجر ـ وعندكم القران وحسبنا كتاب الله » ! . فاختلف الحضور واكثروا اللغط والنقاش ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول : ما قال عمر .
فما ترى نبي الرحمة صانعا بعد هذا ؟ أيكتب الكتاب وهو في زعم بعضهم على حال مرض غالب « حاشا النبي الذي لا ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى » ، فكيف إذن يهتدون به ولا يضلون بعده ابدا ، وقد وقع فيه الخلاف من الآن ، وطعن بتلك الطعنة النجلاء التي لا سبر لها ولا غور . فلم يجد روحي فداه إلا ان ينهرهم وينبههم على خطأهم فقال : « قوموا . ولا ينبغي عند نبي نزاع » لتبقي هذه الحادثة حجة على مرور القرون .
حقا انها لرزية من أعظم الرزايا سببت كل ضلال وقع ويقع بعد النبي . وحق لابن عباس حبر الامة ان يبكي عند تذكرها حتى يخضب دمعه الحصباء ويقول : « ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ( ص ) وبين ان يكتب لهم ذلك الكتاب » .
وليفكر المفكر اي شيء كان يدعو عمر ليقول هذه المقالة القارصة في حق النبي المختار ، وما ضره لو كان يكتب هذا


( 87 )

الكتاب ليعصم الخلق عن الضلالة ابد الدهور وسجيس الليالي ؟
أكان لا يحب أن يبقي الخلق على هدى لا يضلون ؟
أم كان يعتقد حقيقة ان النبي ليهجر . ولكن لا يعتقد هذا الاعتقاد إلا من كان يجهل حقيقة النبي وما جاء به القرآن من الآيات التي ندد بها على المشركين . وليس ذلك عمر . وما باله لم يعتقد بهجر ابي بكر « وليس شأنه شأن النبي » لما أوصى بالخلافة ، وكان قد أغمى عليه اثناء تحرير الاستخلاف ، فأتم ذلك عثمان بالنص على عمر من دون علم ابي بكر ، خشية ان يدركه الموت قبل الوصية ، فأمضى ما كتبه عثمان لما استفاق .
أم ماذا ؟
ليتني أستطيع أن افهم غير انه علم بما سيكتبه النبي من النص على علي ، وقد سبق للنبي ان عبر مثل هذا التعبير في العترة يوم الغدير إذ ذكر الثقلين كتاب الله وعترته اهل بيته ووصفهما بأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، ثم قال : « لن تضلوا ان اتبعتموها » (1) أو على المشهور « لن تضلوا ما ان تمسكتم بهما ابدا » ففهم عمر من قوله : « لا تضلوا بعده ابدا » ماذا سيريد ان يكتب الرسول . ويشهد لتنبه عمر
____________
(1) مستدرك الحاكم ( 3 : 106 ) .
( 88 )

لذلك قوله : « حسبنا كتاب الله » إذ فهم ان غرض النبي ان يقرن الثقلين احدهما بالآخر فكأنه قال : يكفينا واحد منهما وهو الكتاب ولا حاجة لنا بالآخر ، وإلا فما كان معنى لقوله حسبنا . . . وهو يدعي هجر النبي « ص » .
فكانت هذه المقالة من عمر والمقالة بمشهد النبي للحيلولة دون الكتاب لعلي ، اقداما جريئا جاء في وقته المناسب له قبل أن تفوت الفرصة . ولا يشبهه أي موقف آخر منه على كثرة مواقفه في اتمام البيعة لابي بكر ، كما سنرى في انكاره موت النبي وموقفه في السقيفة وبعدها فانه هو الذي شيد (1) بيعت ابي بكر وكافح المخالفين . ولولاه لم يثبت لابي بكر امر ولا قامت له قائمة : فقد كسر سيف الزبير ، ودفع في صدر مقداد ، ووطأ سعد بن عبادة وقال : اقتلوه فانه صاحب فتنة ، حطم انف الحباب بن المنذر ، وتوعد من لجأ إلى بيت فاطمة عليها السلام وكان بيده عسيب نحل (2) بعد خروجهم من السقيفة يدعو الناس إلى البيعة . . .
ولا يستطيع الباحث ان ينكر من عمر بن الخطاب تمالؤه على علي بن أبي طالب ويقظته فيما يخص استخلافه . وكذلك جماعته الذين شاهدنا منهم التعاضد والتكانف في اكثر
____________
(1) راجع شرح ابن ابي الحديد ( 1 : 58 ) .
(2) راجع كنز العمال ( ج 3 رقم 2346 و2363 ) .

( 89 )

الحوادث كأبي بكر وأبي عبيدة وسالم مولى حذيفة ومعاذ بن جبل واضرابهم . وكذا علي نفسه ظاهر عليه جليا ميله عن هؤلاء في جميع مواقفه معهم حتى انه لم يبايع ابا بكر حتى ماتت فاطمة فبايع مقهورا ، ولم يدخل في حرب قط على عهد الخلفاء الثلاثة ، وهو هو ابن بجدتها وقطب رحاها . وكان يتهم عمر انه لم يشد أزر ابي بكر إلا ليجعلها له بعده فقال له مرة : « احلب حلبا لك شطره اشدد له اليوم أمره ليرده عليك غدا » (1) وقد صدقت فيه مقالته فاستخلف من قبل ابي بكر .
وهل يخفى على أحد ما كان في القلوب من تنافر ؟ ويكفي شاهدا أن نسمع المحاورة التي دارت بين عمر بن الخطاب وابن عباس كما رواها ابن عباس (2) .
عمر « لابن عباس » : أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد ؟
ابن عباس : « وهو يكره أن يجيبه » ان لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني .
ـ : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة ، فتبجحوا
____________
(1) السياسة والامامة : باب امامة ابي بكر . وشرح النهج ( 2 : 5 ) .
(2) الطبري ( 5 : 31 ) وابن الاثير ( 3 : 31 ) وشرح النهج ( 2 : 18 ) .

( 90 )

على قومكم بجحا بجحا ، فاختارت قريش لانفسها فأصابت ووفقت .
ـ : يا أمير المؤمنين إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت .
ـ : تلكم : ـ : اما قولك : « اختارت قريش لانفسها فأصابت ووفقت » فلو ان قريشا اختارت لانفسها حيث اختار الله عزوجل لها لكان الصواب بيدها غير مردود ومحسود . واما قولك : « انهم كرهوا ان تكون لنا النبوة والخلافة » فان الله عزوجل وصف قوما بالكراهية فقال : « ذلك بأنهم كرهوا ما انزل الله فأحبط اعمالهم » .
ـ : هيهات ! والله يا إبن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره ان افرك عنها فتزيل منزلتك مني .
ـ : وما هي ؟ فان كانت حقا فما ينبغي ان تزيل منزلت منك وان كنت باطلا فمثلي اماط الباطل عن نفسه .
ـ بلغني انك تقول انما صرفوها حسدا وظلما .
ـ : اما قولك : ( ظلما ) فقد تبين للجاهل والحليم . واما قولك ( حسدا ) فإن إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون .
ـ : هيهات ! ابت ـ والله ـ قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدا ما يحول وضغنا وغشا ما يزول .


( 91 )

ـ : مهلا ! لا تصف قلوب قوم اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بالحسد والغش ، فان قلب رسول الله من بني هاشم .
ـ : اليك عني ؟

* * *

نقلنا هذه المحاورة بطولها لانها تجلي كثيرا من الغوامض في بحثنا ، فهي تكشف لنا :
( اولا ) ـ عما في نفوس الطرفين من نزوان بغضاء كامنة يستطير شرارها . وهذا ما أردنا استكشافه الآن وسقنا لاجله المحاورة .
و( ثانيا ) ـ عن ان القوم كانوا قد تعمدوا منع الامر عن آل البيت ، وان منعهم كان عاطفيا كراهة اجتماع النبوة والخلافة فيهم خشية تبجحهم ، وقد فسر ابن عباس هذه الخشية بالحسد وانها من الظلم . واستشعر الالم الكامن من تأكيد هذه الكلمة ( بجحا بجحا ) .
و( ثالثا ) ـ عن ان الامامة انما هي باختيار الله ، وأن الخلافة في آل البيت مما انزله الله ، وليست تابعة لا ختيار قريش وكراهتهم .


( 92 )

و ( رابعا ) ـ عن ان ظلمهم لآل البيت بأخذها منهم مشهور يعرفه كل احد .
وهذان الامران الاخيران صرح بهما ابن عباس على شدة تحفظه واتقائه غضب عمر الذي لم يسلم منه بالاخير . ولم يرد عليه عمر الرد الذي يكذب هذا التصريح اكثر من الطعن فيه وفي بني هاشم ثم الزجر له بقوله : « اليك عني » . وهذا الزجر ينطق صريحا بالعجز عن الجواب ، فختمت به المحاورة .
والغرض من كل ذلك ان اقدام عمر الجرئ ، على نسبة الهجر إلى النبي المعصوم ، وعلى دعوى ان كتاب الله وحده كاف للناس بلا حاجة إلى شيء آخر على عكس تصريح النبي ، لا يستغرب منه ما دام القصد منع الامر عن علي . وقد اتضح ان بينهما مالا يستطيع التأريخ نكرانه والتمويه فيه .
واما اعتذار بعض الناس عنه بأنه ظهر له ان الامر ليس للوجوب فهو اعتذار بارد لا يقره العلم . فمن اين ظهر ذلك ؟ أمن قول النبي « لا تضلوا بعده أبدا » ـ وهل هناك أمر اعظم مصلحة في الحكم الشرعي تجعله للوجوب من هداية الخلق اجمعين إلى أبد الدهور ـ أم من وقوع النزاع وغضب النبي وزجرهم بالانصراف . وإذا كان قد فهم الاستحباب فلماذا يرده بأشنع كلمة لا يواجه بمثلها الرجل العادي من


( 93 )

الناس لا سيما عند المرض ، أعني كلمة الهجر والهذيان ، مهما لطفت العبارة بتحويلها إلى كلمة « قد غلبه الوجع » . ثم أي معنى حينئذ لقوله : « حسبنا كتاب الله » ، وهو رد على النبي وتدخل في مصلحة الحكم واساسه ، وكان يغنيه ان يقول لا يجب علينا امتثال الامر .

* * *

والخلاصة إن الكتاب الذي أراد أن يكتبه النبي ( ص ) من نفس وصفه له : « لا تضلوا بعده أبدا » ومن نفس رد عمر « حسبنا كتاب الله » ومن قرائن الاحوال المحيطة بالقصة بعد سبق توقف البعث عن الذهاب نعرف ان المقصود منه النص على خليفته من بعده وهو علي بن ابي طالب ، لا سيما ان كل خلاف بين المسلمين وكل ضلال وقع ويقع في الامة هو ناشيء من الخلاف في أمر الخلافة فهو أس كل ضلالة . ولو تركوا النبي يكتب التصريح بالخلافة من بعده لما كان مجال للشك والخلاف الا بالخروج رأسا عن الاسلام .
وليس بالبعيد انه ( ص ) امتنع عن التصريح شفاها أو كتبا بعد هذه القصة بالنص على خليفته لئلا يأخذ اللجاج بالبعض إلى الخروج على الاسلام ، فتكون المصيبة أعظم على الاسلام والمسلمين وهذا ما حدا بعلي عليه السلام إلى المجاراة والمماشاة ، فلذا قال في خطبته الشقشقية : « فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء . . .


( 94 )

فرأيت ان الصبر على هاتا أحجى . . . » . وسيأتي في الفصل الرابع الكلام عن موقفه مع الخلفاء تفصيلا .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net