متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
7 ـ تأثير خطب أبي بكر على المجتمعين
الكتاب : السقيفة    |    القسم : مكتبة رد الشبهات
7 ـ تأثير خطب أبي بكر على المجتمعين

من المتيقن ان الرجال الذين سادوا الامم والجماعات فأحسنوا سيادتهم هم من ابرع الناس في علم الاجتماع وهم لا يشعرون . وإنما جبلوا على معرفة فطرية تشحذها التجارب التي تخلق في النفس الملكة على تطبيق النظريات عند الحاجة . وابو بكر وعمر هما من اولئك الناس الذين عرفوا خواص نفسية الجماعات وكيف يمكن التأثير عليها في الوقت المناسب كما دلت الحوادث المتكررة على ذلك .
ولا شك ان مميزات الجماعة المقصودة لعلماء الاجتماع كانت متوفرة ايضا هنا أتم من توفرها في اجتماع المسجد غب موت النبي الذي اشرنا إليه سابقا : فقد كان الاجتماع حافلا التجأ فيه سعد بن عبادة أن ينيب عنه ابنه أو بعض بني عمه في إلقاء كلامه ، فيرفع به صوته ليسمع المجتمعين . وقد اجتمعوا لغرض واحد حساس أعني تأمير من يخلف ذلك النبي العظيم ، ليكون على رأس هذه الامة الكبيرة القوية المستجدة ، وهم على ما هم عليه من الحال التي وصفناها من التوثب والشعور بالاستحقاق والتكتم .
وأظنك عرفت في البحث الاسبق ان الاجتماع الذي يتألف على هذا النحو كيف يطلع فيه قرن العاطفة ويأرز


( 127 )

رأس العقل والتفكير في المجتمعين فيصبح عرضة للتقلبات والانقلابات الفجائية ويقوى فيه سلطان المحاكاة والتقليد الاعمى . بل تظهر عليه الاعراض المتناقضة ، فبينا تجده قد يقوم بأعمال وحشية جبارة تدل على شجاعة افراده البالغة حدها تجده مرة اخرى يجبن من الصفير . وبينا تراه يأتي بأعمال صبيانية مضحكة تراه تارة اخرى يحكم التدبير والتنظيم . وما ذلك كله إلا من سجية المحاكاة الموجودة في كل انسان فتسود على المجتمع عندما يبطل حكم العقل وحينئذ يكون تابعا مسخرا لكل من يحسن تسخيره بالمؤثرات التي تهيمن على العاطفة كالمنوم تنويما مغناطيسيا .
ونحن إذا فهمنا جيدا هذه البديهيات عن روحية الجماعات ، ولاحظنا توفر شروط الجماعة الاجتماعية في جماعة السقيفة ، نفهم معنى تلك الاساليب التي اتبعها ابو بكر وصاحبه ـ كما سترى ـ للتأثير على المجتمعين يومئذ ونفهم سر تأثر جماعة الانصار وانقلابهم الفجائي على انفسهم ، فأخذ أبو بكر وعمر الامر من أيديهم باختيارهم . على انهما في جنب قوة الانصار واعتزازهم بجمعهم تلك الساعة لا يعدان شيئا ، وليس من المهاجرين معهما إلا أبو عبيدة بن الجراح كما سبق وسالم مولى أبي حذيفة على رواية . فاسمع الآن إلى الاساليب التي قلنا عنها :
لقد رأينا سابقا كيف حرش ابو بكر بين الانصار ، وأثار


( 128 )

عواطف الاوس على الخزرج . وقد صادف منهم نفوسا متهيئة الوثبة على سعد . حتى استمالهم إلى جانبه وهم يشعرون أو لا يشعرون . في حين انهم يعلمون ان الامر إذا كان للانصار وان تولاه رئيس الخزرج فهو إلى حيازتهم أقرب والى سلطانهم أدنى . ولكن للعاطفة هنا سلطانها القاهر على النفس لا يقف في وجهها أي سور محكم من المنطق والتفكير .
ولنفحص الآن « خطبته » التي واجههم بها في أول الملاقاة وقال عنها عمر : « ما شيء كان زورته في الطريق إلا اتى به أو بأحسن منه » فانه ذكر فيها أولا ما للمهاجرين من فضل وسابقة في الاسلام بأنهم أول من عبدالله في الارض وآمن بالله وبالرسول وانهم اولياؤه وعشيرته واحق اناس بهذا الامر « أي الخلافة » من بعده . وأن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ، وانهم لا ينازعهم في ذلك إلا ظالم . . . ! ثم خاطب الانصار فلم يغمط حقهم وسابقهم وجهادهم ، لكن . . . لكن من غير استحقاق لهذا الامر ، وإذا استحقوا شيئا فانما هي « الوزارة » . . ولغيرهم . . . « الامارة » ، فقال :
ـ « . . . وأنتم يا معشر الانصار من لا ينكر فضلكم في الدين ولا سابقتكم العظيمة في الاسلام . رضيكم الله انصارا لدينه ولرسوله وجعل اليكم هجرته ، وفيكم جلة أزواجه


( 129 )

وأصحابه ، فليس بعد المهاجرين الاولين عندنا بمنزلتكم ، فنحن الامراء وأنتم الوزراء » (1) .
وفي هذا البيان الشيء المدهش من اطفاء نار عواطفهم المتأججة ضد المهاجرين ، واشباع نهمة نفوسهم الفخورة المتطاولة بفضلهم ، وجهادهم ونصرتهم ، وتقريبها إلى المهاجرين للاعتراف بفضلهم عليهم ، لانه ليس اقوى على تخدير أعصاب الجماعة الهائجة من الذهاب مع تيار روحهم المندفعين بها ، فأعطى لهم ما يسألون بلسان حالهم من الاعتراف بالفضل والجهاد وكل فخر يشعرون به متطاولين .
حقا لقد صدق وصدقوا ، فان لهم الفضل الذي لا ينكر ، ولكنهم أخطأوا بزعمهم ان لهم بذلك حق الامارة ، وهنا نجد أبا بكر يريد أن يحولهم عن هذا الزعم ، فيحذر أن يخدش عواطفهم بما ينقص منزلتهم ويحط من مقامهم ، فعدل عن التصريح بكلمة الخطأ أو ما ينسق عليها من معناها ، واتبع اسلوبا آخر من البيان وانه لمن السحر المأثور فلم يزد على كلمة : « فليس بعد المهاجرين الاولين عندنا بمنزلتكم فنحن الامراء وأنتم والوزراء » . وفيها تنبيه على خطأهم من طرف خفي من دون التجاء إلى الكلمة التي بها تجرح عواطفهم وتثير الحزازات مع الثناء عليهم في نفس الوقت ثم اثبات الوزارة لهم .
____________
(1) الطبري ( 3 : 208 ) .
( 130 )

وإذا أردت التدقيق في هذه الكلمة ترى الشيء الاعجب : فهو الآن يريد أن يفضل المهاجرين الاولين « الاولين بالخصوص ! » عليهم ، ليثبت لهم استحقاق الخلافة ، ولو كان وضعهما في طرفين وفضل المهاجرين لاثار ذلك بحفيظتهم وحرش بين خصمين متطاولين من القديم ، فعدل عن منطوق مقصوده والتاف إليهم من طريق تفضيل الانصار أنفسهم على الناس والقى في الطريق كلمة « بعد المهاجرين الاولين » ، فتضاهر انه يريد ان يقول : ليس أحد بمنزلة الانصار . وأن مقصوده ليس غير ، وإنما استثنى المهاجرين كأمر ثابت مقرر لا يتطرق إليه الشك وليس محلا للنقاش لا لانه المقصود في البيان .
وهنا إذ تهدأ تلك النفوس الجامحة في الجماعة راضية بما قيل لها وفق شعورها تتفكك أوصالها وترجع من حيث جاءت كأنما حصل لها كل ما تصبو إليه . وهذا من انحطاط نفسية الجماعات ، فلا تشعر بالنتيجة التي يراد أخذها منها وان خالفت تفكيرها عند التأمل ، لان عادة الجماعة في الافكار ان تقبلها جملة أو تردها جملة ، ولا طاقة لها على التأمل والتفكيك بين الافكار ولا صبر لها على التمييز .
مضافا إلى ان الوعد بجعلهم الوزراء لا يفتاتون بمشورة ولا تقضي الامراء دونهم الامور يطمن من رغباتهم واطماعهم ، ويذهب بخوفهم من الاستبداد عليهم وأخذ الثأر منهم ،


( 131 )

ويسدل على ما حاولوه ستارا كثيفا من النسيان . وبعبارة أصح ، يأخذ أثره الوقتي وتلهو الجماعة عن صدق الوفاء ولا تحتاج إلى التدليل عليه ، ولا يكلف قائله إلا الوعد وبهرجة الكلام .
وهناك كلمتان أخريان في تلك العبارة التي حللناها لا يفوتنا أن نتعرف اليهما والى ما فيهما من معنى أخاذ
الاولى ـ كلمة ( الاولين ) ـ فأبعدهم بها عن شعور الخصومة الموجودة للمهاجرين عامة . والمهاجرون والانصار حزبان متطاولان وقد كان تنافسهما أمرا واضحا للعيان في زمن الرسول وبعده حتى قال لهم النبي يوما : « ما بال دعوى اهل الجاهلية » ، وذلك عندما قال الانصاري : « يا للانصار ! » وقال المهاجري : « يا للمهاجرين ـ » فأقبل جمع من الجيشين وشهروا السلاح حتى كاد ان تكون فتنة عظيمة ، في قصة مشهورة (1) ـ فتجد ابا بكر بتخصيص المهاجرين بالاولين كيف اتقى شعور الانصار بخصومتهم لعامة المهاجرين ، وهم لا ينكرون ما للاولين من فضل وقد سبقوهم إلى الاسلام وعبادة الرحمن على انه بهذا التخصيص قرب نفسه وصاحبيه إلى هذا الامر .
الثانية : كلمة ( عندنا ) ـ فانظر إلى ما فيها من قوة
____________
(1) راجع البخاري ( 2 : 165 و3 : 126 ) .
( 132 )

سحرية إذ رفع بها عن مقام القرن المنازع للانصار ، وأخرجها عن الحزبين : الانصار والمهاجرين ، ونصب نفسه بها كحكم بينهما يفضل هذا على ذاك ثم يختار لهم ما فيه الصلاح . وهذا له الاثر البليغ في اخماد نار عاطفة التعصب عليه ، ويعطيه ايضا منزلة في نفوسهم هي أعلى وأرفع تجعل له نفوذ الحكم المستشار والزعيم للفريقين وعلى العكس فيما لو نصب نفسه مزاحما لهم مطالبا بحق يعود له ولحزبه . وشأن الجماهير انها لا تنتظر الدليل على الدعاوي البراقة المبهرجة . لان التصوير ولو بالالفاظ له الحكم الفصل على نفسياتها .
فارجع الآن إلى تلك العبارة ودققها ! وهي جعجعة تسحن الجماعات من غير طحن ، وإلا فمن المقصود بضمير ( عندنا ) يتكلم عنه ابو بكر غير جماعة المهاجرين وهو منهم ، وعلى تقديره فمن الذي خوله ان يمثل المهاجرين بشخصه ؟ . . . ولكنه جرد من نفسه « ومعه غيره » حكما مفضلا ، عنده المهاجرون أفضل من الانصار وليس بمنزلة الانصار أحد بعدهم .
فلا نعجب بعد عرفاننا هذه الاساليب التي لها القوة السحرية على الجماعات ان يأخذ ابو بكر بناصية الحال ، ويستهوي المجتمعين لينظروا إليه بقلوبهم لا بعقولهم ، فيصرفهم كيف يريد . فانتظر نتيجة تأثيره عليهم .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net