متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
3 ـ الموقف الدقيق
الكتاب : السقيفة    |    القسم : مكتبة رد الشبهات
3 ـ الموقف الدقيق

يظهر للمتتبع ان الامام كان يرى ـ عطفا على رأيه السابق ـ وجوب مناهضة القوم حتى يأخذ حقه منهم .
____________
(1) راجع شرح النهج ( 3 : 409 ) .
( 151 )

ويستشعر ذلك من سيرته معهم ومن كثير من أقواله التي منها قوله في الشقشقية عن حربه لاهل الجمل ومعاوية : « أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ؛ لالقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها » .
فانظر إلى موقع كلمته : « لسقيت آخرها بكأس أولها » ، فانه يريد أن يقول : ان زهدي بالدنيا يدعو إلى أن أترك حقي في المرة الاخيرة كما تركته في المرة الاولى ، ولكن الفرق كبير بين الحالين : ففي الاولى لم تقم علي الحجة في القتال لفقدان الناصر دون هذه المرة ، فلا يسعني ان اعرض عنها هذه المرة واسقيها بالكأس الذي سقيت به اولها يوم طويت عنها كشحا وصبرت على القذى .
وأصرح من ذلك ما كان يقوله : « لو وجدت اربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم » وهذا ما عده معاوية من ذنوبه ، وذلك فيما كتب إليه من قوله : « فمهما نسيت فلا أنسى قولك لابي سفيان لما حركك وهيجك لو وجدت اربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم ، فما يوم المسلمين منك بواحد » ، ولم ينكر امير المؤمنين عليه السلام هذا القول في جوابه على هذا الكتاب .
وفي التاريخ مقتطفات تؤيد ذلك ، كما في تأريخ


( 152 )

اليعقوبي : إن اصحابه الذين كانوا يجتمعون إليه طالبوه بمناهضة القوم وتعهدوا بالنصرة ، وكأنهم ظنوا ان قد بلغوا العدد المطلوب « 40 ذوي عزم » فقال لهم : اغدوا على هذا محلقي الرؤس ، وهو إنما يريد ان يريهم انهم لم يبلغوا المنزلة التي تقام بها الحجة ، فلم يعد عليه إلا ثلاثة نفر .
وإذا كان هذا رأيه في المناهضة للقوم يبلغ ـ يا سبحان الله ـ هذه الشدة والصرامة فماذا تراه صانعا ؟ لنتركه الآن يحدثنا هو عن نفسه وموقفه الدقيق ، إذ يقول من الشقشقية : « وطفت ارتئي بين أن أصول بيد جذاء أو اصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه » . ثم يبين لنا كيف ان يده جذاء من خطبة ثانية . « فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم على الموت » .
فهو إذن بين امرين لا ثالث لهما : اما المغامرة بما عنده من اهل بيته ، واما الرضوخ للامر الواقع ، اما الحالة الاولى ففيها خطر على الاسلام لا يتدارك فانه إذا قتل هو وآل بيته ارتفع الثقل الثاني من الارض « عترة الرسول » وافترق عن عديله القرآن الكريم وهناك الضلالة التي لا هداية معها ، وقد قال النبي : « لا تضلوا ما ان تمسكتم بهما أبدا » أو« لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » واما الحالة الثانية فان في الصبر على هضم حقوقه اضاعة لوصية النبي ، وتعطيل لنصبه اياه اماما وخليفة من بعده .


( 153 )

فأي الامرين هو اولى بالرعاية لحفظ بيضة الاسلام ؟
وأنى لنا ان نتحكم في ترجيح أحد الامرين ، ونعرف الامام واجبه في هذا الامر ؟ !
وما بالنا نذهب بعيدا ، فانا نعرف ما صنع الامام ، انه استسلم للقوم وبايع كما بايع الناس بالاخير ، وقد قرر الرأي الاخير بعد ان طفق يرتئي بين ان يصول بيد جذاء أو يصبر على طخية عمياء عندما قال : « فرأيت الصبر على هاتا احجى » فسدل دونها حينئذ ثوبا وطوى عنها كشحا .
على انه لا يضيع وجه الرأي على الناظر في هذا الامر ليعرف كيف كان الصبر أحجى ، لانه لو نهض في وجه القوم مع قلة الناصر وحسد العرب له وترات قريش عنده ، لكان المغلوب على أمره ، وعندئذ يصبح نسيا منسيا ، ولربما لا يحفظه التأريخ إلا باغيا بغى على الدين كأولئك اصحاب الردة ، فقتل « بسيف الاسلام » واضيع مع ذلك النص على خلافته . وقد رأيناه مع بقائه حيا وانتهاء الامر إليه بعد ذلك كيف غمط حقه وأعلن سبه وبقي الشك فيه إلى يوم الناس هذا !
وقد أشار إلى ذلك في كلامه لعمه العباس وابي سفيان لما طلبا بيعته ، إذ قال لهما : « أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح . . . ثم قال : ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه » .


( 154 )

حقا ، لا ينهض في هذا الموقف إلا من لا يبالي إلا بالحرص على الملك ومطاولة الناس مهما كانت النتائج على الدين والصالح العام ، وأمير المؤمنين أحرص على الاسلام من ان يغرر به لامر يقول عنه : « انه ماء آجن ولقمة يغص بها آكلها » . ولا يساوي عنده نعله التي لاتسوى درهما ، إلا إذا كان يقيم حقا أو يدحض باطلا . ولذلك ، ينصح الناس في كلامه الذي أشرنا إليه مع العباس وابي سفيان ، وهما يحثانه على قبول البيعة ، فيقول : « شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة وعرجوا عن طريق المناظرة ، وضعوا عن تيجان المفاخرة » .
وكأنه في كلامه هذا يحس منهما إذ دعواه لهذا الامر الانفة من الخضوع لاخي تيم ، و( تيم ) على حد تعبير أبي سفيان أقل حي في قريش ، فهما ينظران إلى الامر من ناحيته القبلية ، والعصبية الجاهلية . أما فقهه هو فكما قال من كتاب له في جواب معاوية في خصوص هذا الامر : « وما على المسلم من غضاضة في ان يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه » ، وهو غير فقههما فان العباس مشى إليه أبو بكر وجماعة ليلا ، لما عرفوا موقفه ، فأطمع في الخلافة له ولولده ، بعد نقاش انتهي بالاعراض عن النزاع . واما ابو سفيان فقد نقل ابن أبي الحديد ( 1 : 30 ) وغيره ان عمر كلم ابا بكر فقال إن ابا سفيان قد قدم وانا لا نأمن شره ، فدفع له ما في يده فتركه ، وكان أبو سفيان قد بعث قبل وفاة النبي على الصدقات .


( 155 )

ثم لنفترض ثانيا أنه ما كان ليقتل لو ناهض القوم ولكن مع ذلك فالصبر على ترك حقه كان أحجى وأجدر لان منازعتهم كانت ـ لاشك ـ تجر إلى الفتنة وتبعث على الفرقة ، والاسلام بعد لم يتغلغل في نفوس العرب ولم يضرب جرانه في الجزيرة ، وقد أشرأبت الاعناق للانتقاض عليه .
فهو إذ وطن نفسه على ما هو أمر من طعم العلقم كما يقول بالتنازل عن حقه ، كان يخاف ويخشى ، ولكن لا على الحياة ـ وهو هو إبن أبي طالب في شجاعته واستهانته بالحياة ، الذي كان يقول : والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها ـ بل كان خوفه على الدين من التصدع وعلى جامعته من التفرق ، فسالم إبقاء لكلمة الاسلام واتقاء للخلاف والشقاق في صفوف المسلمين فيرتدوا جميعا على أعقابهم ، والمفروض ليس عنده القوة الكافية لاظهار كلمة الحق وإقامة السلطان .
وهو يشير إلى هذا الخوف فيما يقول في هذا الصدد من خطبته في النهج : « ما شككت في الحق مذ رأيته . لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه . اشفق من غلبة الجهال ودول الضلال . اليوم توافقنا على سبيل الحق والباطل من وثق بماء لم يظمأ » . فهو في هذه الكلمة يتأسى بموسى عليه السلام إذ رموه بالخيفة ولكن فرقا بين الخوف على الحياة والخوف من غلبة الباطل : وهذا أفضل تفسير لقوله تعالى : « فأوجس في نفسه خيفة » وفيه تبرئة لنبي الله من الوهن والشك وما أدق


( 156 )

معنى كلمة « من وثق بماء لم يظمأ » بعد تقديم قوله : « ما شككت في الحق مذ رأيته » وقد رأى الحق وهو إبن عشر سنين ! .
ويوضح لنا ذلك جوابه المشهور لابي سفيان لما جاءه مستفزا على أبي بكر وهو يقول : « فو الله لئن شئت لاملؤها خيلا ورجلا » وأنت تعرف ما قال له الامام أنه قال : « أنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة وأنك والله طالما بغيب للاسلام شرا لا حاجة لنا في نصيحتك » ما أعظم هذه الصرامة والصراحة منه لمن يريد أن يبذل نفسه وقومه في ظاهر الحال ناصرا ومعينا على خصومه وهو يشكو فقد الناصر . نعم أن الدين الذي بذل له مهجته كان عنده فوق جميع الاعتبارات ، وإن استهان به غيره ، وقد رأينا أبا سفيان كيف أسرع في الرجوع عن وعده ووعيده لما تركوا له ما في يده . وأمير المؤمنين قد صرح بغرضه هذا بعد ذلك في جوابه الذي أشرنا إليه عن كتاب معاوية كما في النهج والعقد الفريد إذ قال عن إبائه على أبي سفيان : « حتى كنت أنا الذي أبيت لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الاسلام » .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net