متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
6- التمحيص في طريق النصر
الكتاب : الوعد الصادق دلالات ودروس عن أنتصار حزب الله    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

6- التمحيص في طريق النصر:
ولا تكتمل هذه الجولة القرآنية في النصر وأسبابه وشروطه وعوائقه ومصدره، ما لم نتحدث عن (التمحيص) ...
فقد يمرّ النصر بطريق عسير، يثخن المؤمنين بالجروح، ويُحملّهُم العناء والعذاب، وتتساقط فيه الرؤوس والأيدي والأقدام، ولكن العاقبة تكون للمؤمنين، كما وعدهم الله، ولن يخلف الله وعده.

فقد دخل المؤمنون معركة (أحد) بعد (بدر)، ومسّهم في (أحد) قرح شديد، ولكنهم لم يشعروا يومئذ بالضعف والعجز والتراجع أمام قريش، ولم ينل ذلك من عزمهم وإرادتهم، ومقاومتهم، وصلابتهم، وعزتهم، واستعلائهم على الكافرين، ولم يصبهم بالوهن والضعف.

ولنقرأ هذه الآيات العجيبة التي نزلت على المسلمين يومئذ، بعد معركة (أحد)، والتحليل العجيب الذي تقدمه هذه الآيات لنكسة (أحد) المرّة، والآيات من آل عمران:
(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ، وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، آل عمران/ 139 - 142.

إنها آيات عجيبة نزلت بعد معركة (أحد)، تقدّم تفسيراً جديداً للصراع، والانتكاسة، والانتصار في الصراع، في صفوف المؤمنين، لم يعهده الناس من قبل.

وتبدأ الآيات بدعوة المؤمنين إلى الاستعلاء على أعدائهم، ونبذ الوهن والضعف، وتُحَسّسُهُم بالقوة والعزة، إن كانوا مؤمنين.

وإن الانتكاسة في ساحة القتال لا تنال من قوة المؤمنين، ولا تنال من عزتهم وإرادتهم وصلابتهم وإيمانهم وثقتهم بالله.
(وَلاَ تَهِنُوا، وَلاَ تَحْزَنُوا، وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ، إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
لا تضعفوا، ولا تحزنوا على ما فاتكم من النصر وما لحقكم من الانتكاسة في (أحد)، فان هذه الانتكاسة لا تغير نتيجة المعركة، إن هذه الانتكاسة حلقة من حلقات المسير إلى النصر، وتمحيص للمؤمنين قبل النصر، وأمّا العاقبة والنصر والفتح فهو لكم، انتم المؤمنون لا غير، وليس ينبغي ان تفُتّ هذه الحلقة من حلقات المسير في عضدكم، وتسلب منكم عزمكم وإرادتكم وصلابتكم، وتسلب منكم الإحساس بالعزة والاستعلاء.

ثم تخففّ عنهم وقع النكسة التي أصابتهم، والقروح التي مستهم في المعركة ... فهذه القروح قد أصابت اعداءهم من قبل، في (بدر) وفي (أحد) أيضاً، وهي من متطلّبات المعركة، التي لابد منها في كل معركة، ولا تخلوا عنها حرب، ولا تخصّ هذه القروح المؤمنين دون الكافرين.

(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ).
هذه طبيعة كل معركة، والإنسان اما أن يتجنب الصراع والقتال، ويتحمل الذل والهوان، أو يدخل في دائرة الصراع وقتال أئمة الشرك والظالمين، وإذا اختار الثاني فلابدّ ان يتحمل هذه القروح كما يتحملها اعداؤهم.

ثم تبين الآية حقيقة هامة في فهم التاريخ، وهي أن التاريخ يتحرك باتجاه سلطان الحق وزهوق الباطل.
(فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)، هود/ 49.
(أنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، الأنبياء/ 105.
(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)، القصص/ 5 .
ولكن الطريق إلى هذه الغاية صعبة وعسيرة ويمر بأيام من المحنة والعذاب والعناء، لابد من اجتيازها وتجاوزها.

(وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، آل عمران/ 140.
وهذه المداولة في الايام بين الحق والباطل، وبين الانتكاسة والانتصار، لابد منها لتحقيق هذه العاقبة التي يذكرها القرآن للمتقين، ولو كانت أيام المسلمين الأوائل كلها نشوات (بدر)، ولم يمرّوا بنكسات (أُحُد) لم يأتهم النصر والفتح العظيم الذي يخبرنا عنه الله تعالى (إذا جاء نصر الله والفتح).

إن هذا التداول للأيام بين الانتكاسة والانتصار، والصعود والنزول، ونشوات الانتصار ومرارات الانتكاسة، لابد منه في تحقيق إرادة الله تعالى في وراثة الصالحين وإمامتهم على وجه الأرض.

إن هذا التداول في الأيام لابد منها ليتم فرز الصالحين عن غيرهم وفرز الأقوياء عن ضعفاء الإيمان، والمؤمنين عن غيرهم، فلا يتم هذا الفرز في أيام العافية والرخاء، وإنما يتم في أيام العسر والشدة.

(وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ).
والله تعالى يعلم بالناس وقوتهم وضعفهم، وأبرارهم وشرارهم، والمؤمنين منهم والمنافقين، ولكن الله يريد بهذه الأيام أن يفرزهم ويستخلص الصالحين منهم من الفاسدين، والمؤمنين من المنافقين، ولا يتم ذلك الا بمثل هذا التداول والصعود النزول في الايام ...
(وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء)، وفي مثل هذا التداول للأيام بين (بدر) و(أُحُد) يتم اتخاذ الشهداء الذين يختارهم الله تعالى، أئمة وقادة للبشرية وشهداء عليهم، في هذه الأيام يتكوّن الذين اتخذهم الله شهداء على الناس، فلا يتكوّن الشهداء في أيام العافية والرخاء.

إن أيام العافية والرخاء لا تنتج الشهداء القيمين على مسيرة البشرية ... وهذا هو التمحيص الأفقي على سطح المجتمع، وفي هذا التمحيص يتم فرز الصالحين عن غيرهم، والمؤمنين عن المنافقين، وضعاف الإيمان عن أقويائهم.

وفي مقابل التمحيص الأفقي تمحيص آخر، عمودي، داخل نفوس المؤمنين، ففي نفوس المؤمنين خير وشر، وعقل وهوى، وضعف وقوة، ويقين وشك، وزهد وحب للدنيا، ولا يتخذهم الله شهداء، حتى يمحّص ما في نفوسهم، فيأخذ من نفوسهم الشك والضعف، والهوى والشر وحب الدنيا، لتخلص نفوسهم من الضعف والهوى، وعندئذ يتخذهم الله شهداء وأئمة على وجه الأرض، وهذا هو التمحيص العمودي داخل النفوس.

(وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ).
وهذا التمحيص الثاني هو التمحيص العمودي الذي اشرنا إليه.
ثم (ويَمَحَقَ الكافرين).
ومن عجب أنّ المحنة هي المحنة، والضرّاء هي الضرّاء، ولكنها (تمحيص) للمؤمنين، و(محق) للكافرين.
إن النار هي النار، ولكنها تصفّي الذهب وتنقّيه، وتحرق الخشب، ولا اختلاف في النار، وإنما الاختلاف في ما تتعرض للنار، فتحرق الخشبة وتصفي الذهب .
(وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ).
هذا كله في الدنيا، وهو الشطر الأول من حياة الإنسان، والشطر الزائل المحدود منها.

وإما في الآخرة، وهي الشطر الثاني من حياة الإنسان، والشطر الباقي والكبير ... فان الإنسان لا ينال الجنة في أيام اليسر والعافية، وإنما ينالها في أيام الضراء والبأساء، وفيما تتطلبه هذه الأيام من جهاد وصبر على الأذى ومسّ القروح والجروح.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، آل عمران/ 142.
إنه تصور ساذج وبسيط للجنة، وللأعمال الصالحة التي تدخل الإنسان الجنة، فلا يكاد ينالها الإنسان إلا بالصبر على الأذى ومسّ القروح ومقاومة الأعداء والإخلاص لله، والإقبال عليه تعالى ... ولا يتم ذلك كله إلاّ في أيام البأساء والضرّاء.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net