متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الفصل السابع: في خاتمة الكتاب
الكتاب : مكارم الأخلاق    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

الفصل السابع 
( في خاتمة الكتاب )

    ولما افتتحت هذا الكتاب بخطبة أمير المؤمنين صلوات الله عليه تبركا بها ولانها حاوية لمجامع الاداب والاخلاق أردت أن أختتم بخطبته الموسومة بسمات المؤمنين المرموقة بصفات المتقين إذ هو خير إمام للمؤتمين وأنجع موعظة للمتقين. فاختتمت بذلك الكتاب فصار ختامه مسك.
    روي أن صاحبا له يقال له همام كان رجلا عابدا ، فقال له يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم ؟ فتثاقل علي ( عليه السلام ) عن جوابه ثم قال : يا همام اتق الله وأحسن فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، فلم يقنع همام بذلك القول حتى عزم عليه ، قال : فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله ثم قال : أما بعد ، فإن الله سبحان وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم ،


(476)

آمنا من معصيتهم ، لانه لا تضره معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه. فقسم بينهم معايشهم ، ووضعهم من الدنيا مواضعهم. فالمتقون فيها هم أهل الفضائل. منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع. غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم ، وقصروا أسماعهم على العلم النافع لهم ، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء.
    لولا الاجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم شوقا إلى الثواب ، وخوفا من العقاب. عظم الخالق في أنفسهم وصغر ما دونه في أعينهم ، فهم والجنة كمن قد رآها ، فهم فيها متنعمون ، وهم والنار كمن قد رآها ، فهم فيها معذبون.
    قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة ، وحاجتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، ومعونتهم في الاسلام عظيمة. وصبروا أياما قصيرة فأعقبتهم راحة طويلة وتجارة مربحة يسرها لهم رب كريم. أرادتهم الدنيا ولم يريدوها ، وطلبتهم فأعجزوها ، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أما الليل فصافون أقدامهم تالين لاجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا. يحزنون به أنفسهم ويستبشرون به دواء دائهم. فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا وتطلعت نفوسهم إليها شوقا وظنوا أنها نصب أعينهم. وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في اصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، يمجدون جبارا عظيما ، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلى الله في فكاك رقابهم. وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء. قد براهم الخوف بري القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض. ويقول : قد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم. لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير. فهم لانفسهم متهمون. ومن أعمالهم مشفقون إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بنفسي مني. اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون إنك أنت علام الغيوب وستار العيوب.
    فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين وحزما في لين وإيمانا في يقين وحرصا في علم وعلما في حلم وقصدا في غنى وخشوعا في عبادة وتجملا في فاقة وصبرا في شدة وطلبا في حلال ونشاطا في هدى وتحرجا عن طمع. يعمل الاعمال الصالحة وهو على وجل. يمسي وهمه الشكر ويصبح وهمه الذكر. يبيت حذرا ويصبح فرحا ، حذرا


(477)

لما حذر من الغفلة ، وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة. وإن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب. قرة عينه فيما لا يزول. وزهادته فيما لا يبقى. يمزج الحلم بالعلم ، والقول بالعمل. تراه قريبا أمله ، قليلا زلله ، خاشعا قلبه ، قانعة نفسه ، منزورا أكله ، سهلا أمره ، حريزا دينه ، ميتة شهوته ، مكظوما غيظه ، قليلا شره ، كثيرا ذكره ، صادقا قوله. الخير منه مأمول ، والشر منه مأمون. وإن كان في الغافلين كتب في الذاكرين. وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين. يعفو عمن ظلمه.
    ويعطي من حرمه. ويصل من قطعه. وبعيدا فحشه. لينا قوله. غائبا منكره.
    حاضرا معروفه. مقبلا خيره. مدبرا شره. في الزلازل وقور. وفي المكاره صبور.
    وفي الرخاء شكور. لا يحيف على من يبغض. ولا يأثم فيمن يحب. ولا يدعي ما ليس له ولا يجحد حقا هو عليه. يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه. ولا يضيع ما استحفظ.
    ولا ينسي ما ذكر. ولا يتنابز بالالقاب. ولا يضار بالجار. ولا يشمت بالمصائب.
    سريعا إلى الصلوات مؤديا للامانات. بطيئا عن المنكرات. يأمرون بالمعروف وينهى عن المنكر. لا يدخل في الباطل ولا تخرج من الحق. إن صمت لم يغمه صمته. وإن نطق لم يقل حظه. وإن ضحك لم يعل صوته قانع بالذي هو له. لا يحمح به الغيظ ولا يغلبه الهوى ولا يقهره الشح. يخالط الناس ليعلم. ويصمت ليسلم. ويسأل ليفهم. ويتجر ليغنم. ولا يعمل الخير ليفخر به. ولا يتكلم به لتتجبر به على من سواه. وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له. نفسه منه في غناء. والناس منه في راحة أتعب نفسه لاخرته ، وأراح الناس من نفسه. بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة.
    ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة. ليس تباعده تكبرا وعظمة ، ولا دنوه لمكر ولا خديعة.
    قال : فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها. فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أما والله لقد كنت أخافها عليه. ثم قال : هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها. فقال له قائل : فما بالك أنت يا أمير المؤمنين ؟ فقال ( عليه السلام ) : ويحك إن لكل أجل وقتا لن يعدوه وسببا لا يتجاوزه. فمهلا لا تعد لمثلها ، فإنما نفث الشيطان على لسانك.


    هذا آخر ما أردنا أن نجمعه من السير النبوية والاداب المروية وقد وفينا بما شرطناه نسأل الله أن يوفقنا للعمل بذلك خالصا لوجهه وموجبا لرضوانه ومغفرته وموصلا إلى جناته وكرامته بمنه وجوده وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net