متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
المقام الثاني : في النهي المتعلق بالمعاملة
الكتاب : نهاية الافكار ج1 ـ 2    |    القسم : مكتبة علم الأصول


    واما المقام الثاني فالكلام فيه في النهى المتعلق بالمعاملة 

    وملخص الكلام فيه هو عدم اقتضاء مجرد النهى عنها للفساد ما لم يكن في مقام الارشاد إلى خلل فيها ، وذلك من جهة وضوح عدم الملازمة بين حرمة المعاملة ومبغوضيتها وبين فسادها وعدم ترتب النقل والانتقال ، حيث إنه بعد عدم توقف صحة المعاملة ومؤثريتها في النقل والانتقال على رجحانها أو عدم مبغوضيتها فقهرا يمكن صحة المعاملة ومؤثريتها في النقل والانتقال ولو مع كونها مبغوضة ومحرمة ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون النهى متعلقا بالسبب وهو العقد ، أو بالمسبب وهو النقل والانتقال ، أو بالتسبب إلى المسبب بالسبب ، فعلى جميع التقادير لا دلالة للنهي بما انه نهى مولوي على الفساد خصوصا على الأخيرين حيث إنه يمكن دعوى اقتضائهما للصحة نظرا إلى معلومية انه لولا ترتب المسبب وتحققه لما كان مجال للنهي عنه ، وحينئذ ينحصر وجه الفساد بما إذا كان للارشاد إلى خلل فيها. نعم لو كان النهى التحريمي عن لوازم المعاملة كالنهي عن اكل الثمن والمثمن والتصرف فيهما ففي مثل ذلك كان النهى مستلزما للفساد من جهة استلزام حرمة التصرف في العوضين لعدم نفوذ المعاملة والا ففي غير تلك الصورة لا اقتضاء للنهي التحريمي للفساد بوجه أصلا.
    واما توهم منافاة حرمة المعاملة ومبغوضيتها مع الجعل تأسيسا أو امضاء لما بيد العرف ، فمدفوع بمنع التنافي بينهما ، من جهة امكان ان تكون المعاملة ممضاة ومؤثرة في النقل والانتقال على تقدير تحققها ومع ذلك كانت محرمة. وحينئذ فلا يستلزم مجرد تخصيص الجواز التكليفي أو تقييده تخصيص دليل الجواز الوضعي المثبت لصحة المعاملة ، ولو كانا ثابتين بدليل واحد ، كما لو قلنا بان مثل عموم ( الناس مسلطون ) مثبت للجواز


(460)

الوضعي والتكليفي حيث إنه بدليل النهى يخصص عمومه من جهة الجواز التكليفي دونه من جهة الجواز الوضعي أيضا ، كما هو واضح. نعم لو كان قضية النهى هو مبغوضية المعاملة بشر أشر وجودها حتى بالقياس إلى حدودها الراجعة إلى الجعل والامضاء لكان لدعوى التنافي المزبور كمال مجال ، ولكن من الواضح عدم قابلية مثل هذا المعنى لتعلق النهى المولوي به ، فان المعاملة بهذا المعنى خارج عن تحت قدرة المكلف فعلا وتركا ، فلايمكن حينئذ تعلق النهى المولوي بها ، بل وانما القابل لتعلق النهى به انما هو التوصل إلى وجود المعاملة من ناحية سببه في ظرف تحقق أصل الجعل من الشارع ، لأنه هو الذي يكون تحت قدرته واختياره فعلا وتركا ، ومعلوم حينئذ ان مبغوضية المعاملة من تلك الجهة غير منافية مع إرادة الجعل والامضاء ، من جهة امكان ان تكون المعاملة مبغوضة ومحرمة ايجادها من المكلف ، ومع ذلك كانت صحيحة ومؤثرة فيما هو الأثر المقصود منها ، وهو النقل والانتقال ، نعم قد يكون النهى دالا على الارشاد إلى عدم الامضاء وعدم النفوذ في بعض الموارد ، ولكن ذلك أيضا بمقتضي بعض القرائن الخارجية كما في البيع الربوي مثلا وفي بيع المصحف بالكافر. وحينئذ فعلى ذلك لابد في قمام الحكم بفساد المعاملة من جهة النهى من احراز كونه في مقام الارشاد إلى عدم الجعل والامضاء والا فطبع النهى لايقتضي الا المولوي التحريمي الذي عرفت عدم اقتضائه للفساد.
    هذا إذا كان النهى متعلقا بعنوان المعاملة ، أو بالسبب ، أو بالتسبب بالسبب إلى وجود المعاملة.
    واما لو كان النهى متعلقا باجزاء السبب وشرائطه فيكون كما في العبادات محمولا على الارشاد لبيان الكيفية اللازمة في السبب وما هو المانع والمخل بالمعاملة ، الا ان الفرق بينهما وبين العبادات حينئذ كان في الأصل الجاري فيها عند الشك في مولوية النهى وارشاديته ، فإنه في العبادات يفصل بين صورة تعلق النهى بعنوان العبادة وبين صورة تعلقه باجزائه وشرائطه ، فكان الأصل في الأول عند الشك في المشروعية عدمها ، وفى الثاني المحتمل المانعية فيه كان الأصل هو البراءة عنها والصحة ، بخلافه في المعاملات ، فإنه على كل تقدير كان الأصل هو عدم المشروعية وعدم النفوذ نظرا إلى عدم جريان البراءة فيها حينئذ لا عقلا ولا نقلا حتى يصبح الحكم بنفوذ المعاملة وصحتها ، وذلك من جهة ان البراءة العقلية مجريها العقوبة ، ولا الزام في المعاملة حتى تنفى العقوبة المحتملة من جهة الشيء المشكوك المانعية والمخلية ، واما البراءة النقلية فمجريها الامتنان ، ولا امتنان


(461)

في المقام في اثبات الصحة برفع المشكوك المانعية ، من جهة استلزامه لوجوب الوفاء الذي هو خلاف الامتنان في حقه. لايقال : ان ذلك كك في مثل دليل الرفع ونحوه مما كان مسوقا في مقا الامتنان لا في مثل دليل الحلية مما لايكون كك وحينئذ لولا دعوى اختصاصه بالحلية التكليفية لا بأس بدعوى جريانه واقتضائه لنفوذ المعاملة باجرائه في نفس المعاملة حيث إنه باقتران المعاملة بمشكوك المانعية والمخلية يشك في حليتها وضعا ونفوذها في النقل والانتقال فبدليل الحلية يثبت كونها حلالا وضعا ومؤثرا في النقل والانتقال ، فإنه يقال : نعم ولكنه من جهة اختصاصه بخصوص الحلية التكليفية غير جار في المعاملات حتى يقتضي صحة المعاملة ونفوذها ، ومن ذلك أيضا لم يتوهم أحد من الأصحاب جريان هذه الأدلة في أبواب المعاملات لاثبات الصحة فيها ، بل ومع الشك اطبقوا على جريان أصالة الفساد ومن المعلوم انه لايكون ذلك الا من جهة اختصاصه بالحلية التكليفية ، كما هو واضح.
    هذا كله حسب ما تقتضيه القواعد ، ولقد عرفت عدم اقتضاء النهى المولوي التحريمي للفساد مطلقا ، سواء بين تعلقه بالمسبب أو السبب أو بالتسبب به إلى المسبب ، وان المقتضى له انما هو النهى الارشادي.
    واما حسب النصوص الخاصة فقد يقال : بدلالتها على ملازمة النهى للفساد كالخبر المروي في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر عليه السلام قال : سئلته عن مملوك تزوج بغير اذن سيده فقال : عليه السلام ذاك إلى سيده ، ان شاء اجازه وان شاء فرق بينهما ، قلت : أصلحك الله ان الحكم بن عيينة ( عتيبة ) وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : ان أصل النكاح فاسد ولا تحل إجازة السيد له ، فقال عليه السلام : انه لم يعص الله سبحانه وانما عصى سيده ، فإذا إجازة فهو له جائز (1) بتقريب دلالة الرواية على أن النكاح لم يكن مما حرمه الله حتى يقع فاسدا ولا يصلحه إجازة السيد ، فتدل حينئذ على ملازمة النهى والمولوي للفساد في المعاملات ،
    ولكن فيه ان الظاهر من المعصية المنفية بقرينة المقابلة انما هو عدم كونه مما لم يمضه الله ولم يشرعه له كما كان ذلك هو المراد أيضا من معصية السيد حيث أريد منها عدم إجازة


1 ـ وسائل الشيعة ، ج 14 ص 523 الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث 1. والكافي ج 5 ص 478 الحديث 3.


(462)

السيد له وعدم اعطائه السلطنة في النكاح في قبال اذنه بذلك ، فان مقتضي المولوية والعبدية هو عدم نفوذ تصرفات العبد في شيء الا بإجازة واذن من سيده ومولاه ، فكان المراد حينئذ من قوله عليه السلام : انه لم يعص الله سبحانه الخ ، هو ان النكاح ليس مما لم يشرعه الله في حقه بحسب أصل الشرع حتى يقع باطلا وانما كان عدم التشريع والامضاء من قبل سيده فإذا جاز ونحن نقول أيضا باستتباع مثل هذا النحو من المعصية للفساد بلا مجال لانكاره من أحد.
    ومما يؤيد ذلك بل يشهد عليه أيضا من عدم كون المراد من المعصية هو مخالفة النهى التحريمي قضية عدم انفكاك معصية السيد عن معصية الله من حيث وجوب اطاعته على العبد شرعا وجوبا تكليفيا كما في إطاعة الوالد ، فإنه لولا ما ذكرنا كان اللازم في المقام هو فساد النكاح المزبور مع أنه خلاف ما تضمنه الرواية من الحكم بالصحة. ومن هذه الجهة أيضا استدل بعضهم بهذه الرواية على عدم دلالة النهى التحريمي على الفساد بتقريب ما عرفت من الملازمة بين معصية السيد وبين معصية الله ، وان كان لا يخلو ذلك أيضا عن اشكال ، لامكان دعوى ان صحة النكاح ونفوذه بعد إجازة السيد انما هو من جهة ارتفاع معصية الله حسب تبعيتها لمعصية سيده عنه إجازة السيد له ، والا فقبل إجازة السيد له بمقتضى كونه عصيانا للنهي التكليفي لايكون النكاح صحيحا فعليا ومؤثرا في تحقق علقة الزوجية بل وانما غايته حينئذ كونه صحيحا شأنيا ، وعليه فلا مجال للاستدلال بهذه الرواية على عدم دلالة النهى التحريمي على الفساد هذا.
    ولئن قيل بان المقصود من اقتضاء النهى التكليفي للفساد وعدم صحة المعاملة انما هو فسادها وعدم صحتها ولو شأنا وحينئذ فبمقتضى الملازمة بين معصية السيد وبين معصية الله تكليفا تكون الرواية لا محالة حسب تضمنها للصحة دالة على عدم اقتضاء النهى التكليفي للفساد ، ومن ذلك لابد وأن يكون المراد من عصيان الله الموجب لفساد النكاح بعد عدم انفكاك معصية السيد عن معصية الله تبارك وتعالى هو العصيان الوضعي دون العصيان التكليفي ، نقول : بأنه كك إذا كان العصيان المتحقق في الفرض راجعا إليه سبحانه من جهة كونه مخالفة لتكليف من تكاليفه بحيث يستحق العقوبة من قبله ، وليس الامر كك بل العصيان في المقام انما هو راجع إلى مخالفته لمقتضي حق المولوية المجعول من قبله سبحانه لسيده ، من جهة ان مقتضي المولوية هو عدم جواز تصرف العبد في شيء الا


(463)

باذنه ورضاه ، فلايكون مثل هذا العصيان حينئذ راجعا سبحانه كعصيانه لتكاليفه كالصلاة والصوم ونحوهما ، حتى يوجب استحقاق العقوبة ويوجب فساد المعاملة. وحينئذ فلو ادعى أحد اقتضاء النهى المولوي التحريمي لفساد المعاملة لا مجال للاستدلال بالرواية المزبورة في القبال على عدم دلالة النهى التكليفي للفساد كما لايخفى ، فتأمل. نعم كما لا دلالة لها على عدم اقتضاء النهى للفساد لا دلالة لها أيضا على اقتضائه للفساد من جهة ما عرفت من ظهورها في إرادة العصيان الوضعي بمعنى عدم المشروعية ، فتدبر.
    ومن الاخبار التي استدل بها للفساد رواية ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال من طلق ثلاثا في مجلس فليس بشيء ، من خالف كتاب الله عز وجل رد إلى كتاب الله عز وجل (1) ، وبمضمونه أيضا روايات كثيرة (2) ولكن الجواب عنها يظهر مما سبق حيث إن مخالفة الطلاق ثلاثا في مجلس واحد لكتاب الله والسنة انما هي من جهة كونه مما ردع الله عنه ولم يشرعه في كتابه ، ونحن نقول بالفساد فيما كان من هذا القبيل.
    ثم إن المحكي عن أبي حنيفة والشيباني انما هو دلالة النهى التكليفي على الصحة ، وقد حكى عن الفخر موافقتهما في ذلك.
    وهو كك في المعاملات فيما لو كان النهى عنها بلحاظ الآثار ، من جهة وضوح اعتبار القدرة على المتعلق في النهى كما في الامر ، فإذا كانت المعاملة فاسدة من جهة النهى يلزم عدم كونها مقدورا للمكلف ، ومعه لايكاد يصح توجيه النهى إليه عن ايجادها وحينئذ فوجود النهى عن المعاملة بالفرض يقتضي كونها مقدورة له ، ومقدوريتها له تقضي صحتها وهو المطلوب ، هذا إذا كان النهى عن المعاملة بلحاظ المسبب أو بلحاظ التسبب بها إليه ، واما لو كان النهى عنها بلحاظ السبب فهو غير مقتض لصحتها وترتب الآثار عليها إذ لا يلزم من مجرد مقدورية السبب ترتب الأثر عليه ، كما هو واضح.
    واما في العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالركوع والسجود ونحوهما من الأمور الموضوعة لان تكون آلات للخضوع فكذلك أيضا فإنها كانت مقدورة وكانت مع النهى باقية على وصفها العبادي ، فيتمكن من الاتيان بها صحيحة مع النهى ، حيث كان صحتها عبارة أخرى عن تحقق ذواتها ، نعم غاية ما هناك هو عدم وقوعها مقربة له من جهة


1 و2 ـ الوسائل ، ج 15 ص 313 ، الباب 29 من مقدمات الطلاق الحديث 8 و...


(464)

احتياج مثل هذا النحو من العبادة في مقربيتها إلى عدم كونها مبغوضة للمعبود له. واما ما كان منها عبادة من جهة قصد القربة المتوقفة عباديتها على الامر بها أو رجحانها فلا يلزم من النهى عنها صحتها ، بل في مثله يستحيل تعلق النهى بها يوصف كونها عبادة فعلا ، فالنهي حينئذ انما يكون متعلقا بذات الشيء بما له من الاجزاء والشرائط غير الوصف الناشي من قبل الامر به نعم لو أريد من الصحة حينئذ الصحة التي يدعيها القائل بالوضع للصحيح : من كون الشيء واجدا لجميع الاجزاء والشرائط وكونه وافيا بالغرض على تقدير الامر به ، لكان لدعواه كمال مجال ، ولكنه لا ينتج ما هو المطلوب من الصحة الفعلية ، كما هو واضح.
    بقى الكلام في النهى التشريعي ، في أنه هل يوجب فساد العبادة أو المعاملة أم لا ؟ ولتوضيح المرام ينبغي بيان حقيقة التشريع في الاحكام فنقول : ان حقيقة التشريع بعد أن كانت من سنخ البناء القلبي الذي هو من أفعال الجوانح دون الفعل الخارجي الذي هو من أفعال الجوارح فتارة في مقام التشريع يبنى الانسان على وجوب الشيء أو حرمته لكن لا بما انه من الدين ، نظير القوانين المجعولة من طرف السلطان بين الرعية وأخرى يبنى على وجوب شيء أو حرمته في الدين بما انه مشرع ، وذلك بان يدعى نفسه شارعا كالنبي صلى الله عليه وآله ثم في مقام شارعيته يجعل الشيء الفلاني واجبا أو حراما أو غير ذلك ، وثالثة يبني على وجوب شيء أو حرمته في الدين بما انه هو الحكم المنزل من الله سبحانه بتوسيط رسوله من دون ادعائه الشارعية لنفسه ، وعلى التقادير تارة يخبر أو يعمل على طبق تشريعه ، وأخرى لا يخبر ولا يفتى بذلك ولا كان له عمل على طبق ما شرعه ، كما لو كان تشريعه في حكم عمل غيره الذي هو أجنبي عنه ، ثم على التقدير الأخير تارة يكون تشريعه في أصل الحكم الشرعي وأخرى في تطبيقه على المصداق الخارجي ، فهذه صور متصورة في التشريع.
    وبعد ذلك نقول : اما القسم الأول فلا مجال لدعوى كونه قبيحا عقلا ومحرما شرعا فان مجرد البناء والالتزام على وجوب شيء لا بما انه من الدين والشرع لايقتضي كونه قبيحا عقلا ومحرما شرعا بوجه أصلا وان كان قد عمل على طبق ما شرعه فضلا عما لو لم يكن له عمل على طبقه.
    واما القسم الثاني فكذلك أيضا من حيث تشريعه وبنائه على وجوب شيء أو حرمته


(465)

نعم انما يكون المحرم في هذا القسم هو حيث ادعائه الشارعية لنفسه ، حيث إنه من أكبر المعاصي وكان العقل أيضا مستقلا بقبحه.
    كما أنه لاينبغي الاشكال أيضا في قبح القسم الثالث وحرمته إذ كان فضوليا في امر المولى وكان اخباره بذلك أيضا افتراء عليه. نعم يبقى الكلام حينئذ في أن حكم العقل بالقبح في المقام هل هو بنحو يستتبع حكمه أيضا باستحقاق العقوبة كما في حكمه بقبح المعصية لكونها ظلما على المولى. حتى لايكون المورد قابلا للحكم المولوي الشرعي ، أو انه بنحو لا يستتبع للحكم باستحقاق العقوبة كما في حكمه بقبح الظلم حتى يكون المورد قابلا للحكم المولوي الشرعي وكان المجال أيضا لاستكشاف الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة بناء على تماميتها ؟ وفي مثله لايبعد دعوى كونه من قبيل الثاني إذ نقول : بان التشريع وان كان نحو ظلم على المولى لكونه تصرفا في سلطانه بحيث يستقل العقل بقبحه ، الا انه لايكون بمثابة يستتبع الحكم باستحقاق العقوبة كما في العصيان ، بل هو من هذه الجهة نظير الظلم على النفس الذي يحكم العقل فيه بالقبح من دون حكمه باستحقاق العقوبة عليه ، وعليه فكان كمال المجال لدعوى كونه محكوما بالحرمة المولوية الشرعية بمقتضي الملازمة ، ولكن حيث إن روح التشريع وحقيقته من سنخ البناء آت القلبية من غير دخل فيه للاخبار أو الفتوى على طبقه بل ولا للفعل الخارجي الجوارحي ، بشهادة تعلق التشريع بحكم فعل الغير كالتشريع في ايجاب الصلاة والصوم على الحائض والنفساء ، فلا جرم ما هو المحرم بالحرمة التشريعية أيضا لايكون الا نفس البناء القلبي الذي هو من فعل الجوانح دون العمل الخارجي أو الافتاء بشيء ، كما هو واضح.
    وحينئذ فما أفيد من حرمة الافتاء والعمل الخارجي بالحرمة التشريعية أيضا بتخيل ان التشريع عبارة عن الفعل الصادر عن البناء المزبور كان الفعل هو الافتاء بشيء أو العمل الخارجي دون نفس البناء القلبي مجردا عن العمل والافتاء ودون الفعل الخارجي مجردا عن كون نشوه عن البناء المزبور ، وان الفعل الناشي عن البناء القلبي هو مصداق التشريع المحرم ، منظور فيه ، لما عرفت من أن روح التشريع وحقيقته ليس الا عبارة عن نفس البناء القلبي ، وان العمل والافتاء كالاخبار به خارج عن حقيقة التشريع ، حيث كان مرجع الافتاء إلى كونه اظهارا وابرازا لذلك البناء القلبي كالاخبار ، ومرجع العمل إلى كونه امتثالا لما شرعه بحسب بنائه على الوجوب أو الحرمة ،


(466)

وعليه فلايكاد يوجب حرمة التشريع حرمة الافتاء والعمل الخارجي الجوانحي ، حتى يوجب فساده إذا كان عبارة ، ولو مع فرض انكشاف مشروعية المأتي به واقعا وتبين كون ما بنى على وجوبه أو جزئيته باعتقاد حرمته وما نعيته واجبا شرعا وجزء للمأمور به واقعا وفرض كون تشريعه في تطبيق المأمور به على المصداق لا في مقام الامر الشرعي.
    ومن ذلك البيان ظهر أيضا بطلان ما أفيد بان ذات العمل وان لم يكن قبيحا ومبغوضا حينئذ الا انه من حيث صدوره من المكلف كان قبيحا ومبغوضا ، ومعه لايكون قابلا للتقرب به ، وجه البطلان يظهر ما سبق من كون المحرم هو البناء القلبي الذي هو من فعل الجوانح وخروج العمل بقول مطلق عن موضوع التشريع المحرم ، كيف ومع الغض عن ذلك نقول : بان ما هو القبيح حينئذ انما كان حيث إضافة العمل إلى الفاعل دون نفسه ، وفي مثله لا بأس بالتقرب بذات العمل بعد فرض كونه راجحا واقعا وكون تشريعه أيضا في تطبيق ما هو المأمور به على المصداق الخارجي لا في ناحية الامر الشرعي فتأمل ، وعلى فرض سراية القبح والمبغوضية إلى ذات العمل ولو بدعوى اتحاد الوجود والايجاد وكون الاختلاف بينهما بالاعتبار ، نقول انه وان كان يلزمه حينئذ فساد العبادة ، لكن يلزمه أيضا المصير إلى الفساد في المعاملة أيضا بناء على ما سلكه القائل المزبور من اقتضاء النهى عن المعاملة لفسادها ، من جهة اقتضاء النهى لخروج المعاملة عن حيطة قدرة المكلف وسلطانه ، إذ حينئذ بمقتضي هذا النهى التشريعي يخرج العمل عن حيطة قدرته وسلطانه بنحو كان له الفعل والترك ، ومع خروجه عن حيطة قدرته وكونه أجنبيا عنه لا جرم يبطل المعاملة ، فلايصح حينئذ التفكيك بين العبادات والمعاملات في اقتضاء النهى التشريعي للفساد ، هكذا افاده الأستاذ دام ظله في بحثه.
    ولكن أقول : بان التأمل في كلمات القائل المزبور يقتضي عدم ورود هذا الاشكال عليه حيث إنه قدس سره انما يدعى خروج النقل أو العمل عن حيطة قدرة المكلف وسلطانه بالنهي أو الامر فيما لو كان النهى أو الامر متعلقا بالشيء بمعناه الاسم المصدري لا مطلقا ولو كان المنهى عنه هو الشيء بمعناه المصدري ، وعليه فإذا كان المنهى عنه في المقام على ما صرح به في التقرير حيث إضافة اصدار العمل من المكلف بهذا العنوان لا نفس الصادر فلايكون فيه جهة مبغوضية أصلا ، فلا جرم يلزمه الالتزام بعد الفساد في المعاملة ، واما التزامه بالفساد في العبادات فإنما هو من جهة اعتباره في


(467)

صحة العبادة رجحان العمل في نفسه وعدم اتصافه بالقبح الفاعلي ، فحيث ان الفعل المشرع به في المقام يصدر عنه مبغوضا وقبيحا بالقبح الفاعلي ولم يكن قابلا للتقرب من هذه الجهة التزم فيها بالفساد ، هذا.
    ولكن الذي يهون الامر هو فساد أصل هذا المبني لما تقدم من أن ما هو القبيح والمبغوض انما كان هو البناء القلبي لأنه حقيقة التشريع ، وروحه وان الافتاء وكذا العمل على طبق هذا البناء فخارج عن حقيقة التشريع ، وفي مثله لايكاد سراية الحرمة والمبغوضية منه إلى نفس العمل بوجه أصلا ، ولو بحيث إضافة اصداره من الفاعل. وعلى ذلك نقول : بأنه لو شرع وبنى على وجوب شيء أو جزئيته أو شرطيته في العبادة جهلا أو معتقدا بالخلاف ، وعمل أيضا على طبق ما شرع جزء أو شرطا أو مانعا ، فتبين بعد ، كون المشرع به مطابقا للواقع بحيث لم يقع منه اخلال في عمله بما هو الواجب والمأمور به في حقه ، فلا جرم تصح عبادته ما لم يكن هناك اخلال بالقربة من جهة الامر ، بان كان تمام داعيه على الاتيان هو الامر الشرعي الحقيقي وكان تشريعه ممحضا في تطبيق المأمور به على المأتي ، والا فتبطل من جهة اخلال بالتقرب ، هذا ذا تبين كون العمل المشرع به مطابقا للواقع.
    واما تبين الخلاف ففيه صور : فعلى فرض مانعية الجزء أو الشرط المشرع به في الواقع فلا محالة تبطل العبادة لمكان ايجاد المانع فيها ، كما أنه كك أيضا فيما لو بنى على مانعية شيء للصلاة ولم يأت به فتبين كونه جزء أو شرطا في الواقع فإنه تبطل العبادة في هذا الفرض أيضا لمكان النقيصة ، واما على فرض عدم جزئية ما بنى على جزئيته أو شرطيته واقعا فيبنى البطلان وعدمه على مبطلية الزيادة.
    وعلى أي حال فمجرد التشريع في العبادة لايقتضي البطلان ، بل الفساد والبطلان لابد وأن يكون من جهة أخرى كمحذور الزيادة أو النقيصة أو غير ذلك ، هذا في العبادات ، وهكذا في المعاملات فيدور الفساد فيها مدار الاخلال خارجا بما هو المعتبر فيها شرطا أو شطرا أو مانعا ، وهو واضح.


(468)

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net