متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
10 ـ دَور الحاجة في النشاطات الاقتصاديّة
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

 

10 ـ دَور الحاجة في النشاطات الاقتصاديّة

ترتّب النظريّة الاقتصاديّة الوضعيّة ، على اختلاف مناهجها ومدارسها ، النشاطات الاقتصاديّة على النحو التالي : الإنتاج ، التبادل ، التوزيع ، الاستهلاك ، انطلاقاً مِن شيئيّة الحضارة التي انطلقت النظريّة منها .

أمّا النظريّة الاقتصاديّة الإسلاميّة ، فغالباً ما نراها تنطلق من التوزيع الوظيفي للثروة القوميّة ( مرحلة ما قبل الإنتـاج ) ، وهذا يختلف بطبيعة الحال عن التوزيع المذهبي لعوائد الإنتاج .

وعليه ، سنبدأ باستقراء أثر الحاجة في المفهوم الإسلامي ، كما يأتي :

التوزيع الوظيفيّ لمصادر الإنتاج

الإنتاج ـ التبادل ـ التوزيع المذهبي لعوائد الإنتاج ـ الاستهلاك .

أ ـ أثر الحاجة في التوزيع المذهبي للموارد الاقتصاديّة

( الحمى ، الإحياء ، الإقطاع ، النهي عن إجارة البيضاء ، فضل الماء ، الملكيّة ) .

سبق القول إنّ معيار اعتبار الحاجة هو أداؤها دور الإنماء العامّ للطاقات ، ويمكن أن نلمس ذلك في عدّة مُفردات في النظام الحقوقي الإسلامي .

ففي الإحياء ـ مثلاً ـ يضع الفقهاء شرطين لعدّ الأرض مَواتاً قابلاً لإجراء الإحياء عليها ، فالإماميّة يرون الموات : ( الذي لا ينتفع به لعطلته ؛ إمّا لانقطاع الماء عنه ، أو لاستيلاء الماء عليه ، أو غير ذلك من موانع الانتفاع ) ( 17 ) .

وأكّد المالكيّة والشافعيّة والحنابلة والظاهريّة والأباضيّة على لحاظ عدم الاختصاص ، فالأرض الموات عند الشافعيّ هي : ما لم يملكه أحد في الإسلام بعُرف ولا عمارة ( 18 ) .


الصفحة 59

وعند الغزالي ـ وهو من الشافعيّة ـ : كلّ منفكّ عن الاختصاص ( 19 ) . وعند الشافعي في ( الأمّ ) : ( الأرض المعطّلة عن الانتفاع والحيازة ، المجرّدة من الحقوق والاختصاصات العامّة ) . ونجد ذلك ـ بهما معاً ـ عند الحنفيّة والزيديّة ( 20 ) .

فالحاجة إلى الاستثمارات ـ إذاً ـ قائمة بالدرجة الأُولى على إلغاء عطلة الموارد ، ثُمّ عدم وجود علاقة اختصاصيّة لأحد عليها .

وحيث إنّ الحاجة مرتبطة بالظروف الاقتصاديّة السائدة ، فقد اعتمد الإماميّة وأبو حنيفة إذْنَ الإمام شرطاً في اكتساب الحقّ في ما ينتجه الاستثمار .

ثمّ تبدو مسألة الحاجة في اختلاف الفقهاء في صحّة إحياء حريم العامر ، فالكلّ مُتّفق على عدم صحّته لاحتمال التوسّع فيه .

والفقهاء ، وإن اختلفوا في ماهيّة الإحياء ، فقد أحال قسم منهم المسألة إلى العُرف ، فما عدّه العُرف إحياءً أصبح حقيقةً شرعيّةً ، الأمر الذي يعني أنّ الحاجة في الاستثمار هي المحدّدة للسياسة الاقتصاديّة ، فالمرجع في ماهيّة الإحياء إلى العُرف من غير خلاف ؛ لعدم النصّ على ذلك في الشرع واللُغة .

واختلاف الفقهاء في مدى الحقّ المُكتسب الناتج من الإحياء دليل على عدّ الحاجة محلاً للموازنة بوصفها مقولة إنتاجيّـة ، فمنهم من يرى أنّ مُفردة ( له ) في الحديث : ( مَن أحيا أرضاً من المؤمنين فهي له ) ، تُفيد تمام الملك ، ومنهم من يراها مُعبّرة عن حقّ اختصاص متلازم مع الإعمار ، ولكلٍّ دليله ( 21 ) ملتزماً ، لقيام الحاجة إلى الاستثمارات ، محوراً هامّاً في تفضيل حكمٍ على آخر ، ومع تساوي الدليل صار بعض الباحثين ( 22 ) يرجّح رأي مَن يرى جواز سحب الحقّ مع التعمّد بتعطيله ، وهو رأي للأحناف ، وإن غلب على فقهاء المذهب ترجيح الرأي الذي يرى ارتباط الاختصاص بالمختصّ مع إعماره أو إهماله ( 23 ) ، والمالكيّة مع سحب الحقّ ، إلاّ أنّهم اشترطوا طول فترة الاندراس بما يُشعر بإعراض المُحيي الأوّل عن المورد ( 24 ) .


الصفحة 60

أمّا الإماميّة فأغلب مُجتهديهم على صحّة إحياء المُحيي الثاني ؛ لأنّ الإحياء يتمّ بإذن الإمام ، أمّا الحنابلة والظاهريّة والزيديّة ، فقد اعتمدوا حقوق المُحيي الأوّل ، فإن شغر ودثر حتى عاد كأوّل حالة ، فهو مِلك لمَن كان له ، فإن جهل أصحابه فالنظر فيه إلى الإمام ( 25 ) .

ويظهر دَور الحاجة في الإحياء من خلال ما يأتي :

1 ـ دعوة مفتوحة لجميع القادرين على تشغيل الموارد المعطّلة سدّاً للحاجة .

2 ـ تقليل فُرص الرَيع المُطلق لِما له مِن أثر على وتائر تصعيد الإنتاج والإنتاجيّة .

3 ـ اعتماد وحدة التشغيل المُثلى بربط مقولة الإحياء بالقدرة الذاتيّة لمَن يُمارس حقّه في اكتساب الاختصاص بالمـورد .

4 ـ مُساهمة واضحة في امتصاص فائض العمالة ؛ سدّاً لحاجة التوظّف التامّ لقوّة العمل .

5 ـ فتح الطريق أمام تغييرات هامّة على مستوى العَرض ، وإحداث تغييرات هامّة أيضاً في مستوى الطَلَب .

6 ـ مواجهة النموّ السكّاني بتوفير الأمن الغذائي من خلال الترخيص والإعانات .

7 ـ تصعيد وتائر التراكم من خلال مجانيّة أحد عناصر الإنتاج ، وهو الأرض ، وما ينطبق على الأرض ينسحب على ما في باطنها كالمعادن .

فقد أجاز بعض الفقهاء إحياء المعادن الباطنة ، ورتّبوا عليها ـ على اختلافٍ بينهم ـ الخُمس أو الصدقة لبيت المال ، بينما عدّها المالكيّة والإماميّة مِلكاً عامّاً يتصرّف به جميعاً الإمام لمصلحة المسلمين كافّة ، والباحثين المُتأخّرون على الرأي الثاني . ويظهر ضغط الحاجة الاجتماعيّة وراء الرأي الثاني جليّاً ؛ ذلك أنّ مصادر الطاقة أصبحت اليوم أهمّ احتياطيّ لمواجهة تطوّر الحاجات العامّة وأُسلوب سدادها .


الصفحة 61

وفي مقولة الإقطاع تجد أنّ ما يجوز إقطاعه إقطاع تمليك ، هو ما لم يُعمّر أصلاً ( الموات ) ، أو ما عُمّر في الجاهليّة ولم يبقَ له مالك . وما خرب بعد إعماره في الإسلام ، على اختلاف بين الفقهاء في ما إذا عُرف أربابه أم لم يُعرَفوا .

ويقطع إقطاع انتفاع ما كان في الصفايا ، أو ما لم يستغل من أرض الخراج ، أو ما لا وارث له .

وهذا يعني أنّ ما وضع في حكم إقطاع التمليك فيه حاجة فرديّة ، أمّا ما جعل في إقطاع الانتفاع ، فهو لسداد الحاجات العامّة لفرض الخراج عليه ؛ للمسوّغات والآثار التي سقناها في إحياء الأراضي الموات .

يقول أبو يوسف : ( فهي للإمام إن رأى يصيّرها عُشراً فعل أو عُشرَين فعل ، أو رأى أن يُصيّرها خراجاً فعل ، وذلك موسعاً عليه في أرض العراق خاصّة ) (26) ، أمّا مقياس المُفاضلة بين المستقطعين ، فيقوم على أساس الكفاءة من جهة ، والحاجة التي يقرّها الشرع من جهة أُخرى .

ثُمّ يخلص أبو يوسف إلى القول : ( ولا أرى أن تترك أرض لا مِلك لأحدٍ فيها ولا عمارة حتى يقطعها الإمام ، فإنّ ذلك أعمر للبلاد ) (27) .

ب ـ أثرُ الحاجةِ في الإنتاج

يرى الفقهاء أنّ ما يكتسب به ( ما يُنتج ) لا يخلو من أن يكون إمّا مُباحاً أو مكروهاً أو مُحرّماً ، فالمُحرّم كالأعيان النجسة : الخمرة ، والفقاع ، وكلّ مائع نجس ( غير القابل للطهارة ) ، والميتة ، والدم ، والخنزير ، وجلد الكلب .

وما حَرُم لتحريم ما قُصد منه : كهياكل العبادة ، وآلات اللهو والقمار ، وما لا يُنتفع به ، وما هو مُحرّم في نفسه كالسحر ، والكهانة .

أمّا ما يُكره ، فهو ممّا يُفضي إلى حرام أو مكروه غالباً ، أو ما يُكره لتطرّق الشُبهة ، وقد عُدّ ذلك كلّه مباحاً (28) .


الصفحة 62

وفي مجال التبادل نجد قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ( لعَن الله اليهود ، حُرّمت الشحوم عليهم فباعوها وأكلوا ثمنها ) ، مانعاً مِن جعل هذه الأصناف مادّة للتبادل . والحكمة المستفادة من عِلل الحُرمة أو الكراهة ـ في ما تقدّم ـ تتمثّل في أنّ هذه الأصناف لا تسهم في الإنماء العام للطاقات البشريّة .

ذلك أنّ نظرة الاقتصادي الإسلاميّ للسلع المُجازة ، إنتاجاً وتبادلاً ، تتمثّل في ما ينطبق عليه لفظ القرآن ( الطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ ) [الأعراف : 32] بما يحمل هذا المعنى مِن الحُسن والنقاء والنفع العام ، أي ما يؤدّي استعمالها إلى تحسين المنفعة الشاملة للمستهلك ، وبالطبع سيكون ذلك مؤثّراً على نوعيّة السِلع ، وعلى قيمها التبادليّة ، وما يعبّر عن تلك القيم ( الأسعار ) .

يقول الشيخ الأنصاري في ( المكاسب ) : ( إنّ الحرمة تظهر في كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه ، أو وجه من وجوه الفساد ، وكلّ مَبيع ملهوّ به ، وكل منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير الله ، أو يقوى به الكفر والشِرك ، أو يوهن به الحقّ ) (29) .

وإذا حرم شيء ما ، أو اكتسب شيءٍ ما حُكمه الكراهة ، سرى هذا الحكم إلى الإجارة فيه ؛ لقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( إنّ الله عزّ وجلّ إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه ) (30) .

ومعنى حرمة الثمن : حرمة النقل والانتقال وترتّب الأثر .

وهكذا تمنع السلعة غير المساهِمة بتحسين الطاقات العامّة للإنماء من تخصيص الموارد ، أي أنّ الاعتبارات العقائديّة تدخل في إنتاج السِلع ، بما يعود على المجتمع بالإيراد العام .

ويتّضح ممّا تقدّم أنّ تركيب السِلع في الاقتصاد الإسلامي ، من منظور الرعيّة ، يرتبط ارتباطاً مُباشراً بالحاجة المشروعة من منظور نوعيّة السِلع .

جـ ـ دور الحاجة في نَمط التوزيع

تتّخذ عمليّة التوزيع الأساسيّة ونمطها بافتراض رأسماليّة المنافسة الحرّة شكل الملكيّة الخاصّة ، حيث يجري تقسيم القيمة الجديدة المُنتجة


الصفحة 63

إلى قسمين : أجور وربح ، يُغطّي الأوّل الكفاف ، بينما يستحوذ مالك وسائل الإنتاج الرأسماليّ على ما يزيد على الكفاف بشكل ربح .

ويُشكّل العمل أساس التوزيع الاشتراكي ، بافتراض اشتراكيّة ناضجة ، حيث يجري التقسيم وفق المبدأ الآتي : ( مِن كلٍّ حسَب طاقته ، ولكلّ حسب حاجته ) ، في المرحلة الأُولى للاشتراكيّة ، ثُمّ في المرحلة العُليا مِن الاشتراكيّة يصبح العمل أداة لتسديد جميع أنواع الحاجات .

أمّا في المذهب الاقتصادي الإسلامي ، فإنّ العمل والحاجة هُما أساس التوزيع ، وإنّ حدّ الكفاية هو المُجسّد لمكافأة المسلم على عمله من جهة ، ومدى التزام المجتمع الإسلامي ومسؤوليّته التوزيعيّة نحوه مِن جهة أُخرى .

ويعتمد حدّ الكفاية في تحديد مقدار العطاء من حيث إنّه المقدار الذي يجعل المقاتل يستغني به عن التماس مادّة تقطعه عن حماية البيضة (31) .

ولتقدير الكفاية رقمياً كانت المعايير التالية تؤخذ في الاعتبار (32) .

1 ـ عدد الأفراد المُعالين من قِبل المقاتل .

2 ـ عدد الخيل والظهور التي يضعها المقاتل في خدمة الجيش .

3 ـ مستوى أسعار السِلع والخدمات الضروريّة لإعاشة المقاتل وإعاشة عائلته .

ولمّا كان مقدار الكفاية يُقاس بالسِلع والخدمات اللازمة في حياة المجاهد وأفراد عائلته وخَيله ، صار من اللازم أن يقوم الديوان بإعادة النظر في مقداره من عام إلى عام ، فإن زادت أسعار السلع والخدمات زاد العطاء ، وإن نقصت الأسعار نقص ، ورُدّ إلى ردّ الموضع الذي يحلّه في الغلاء والرخص ، فتقدّر كفايته في نقصه وكسوته لِعامِه ، فيكون هذا المقدار في عطائه ، ثُمّ تُعرَض حالة كلّ عام ، فإن زادت زاد راتبه وإن نقصت نقص (33) .

ومن منظور تقسيم السِلع إلى الضروري والحاجي والتحسينيّ ، فإنّ الضروريّات داخلة أصلاً في حدّ الكفاية ، وإنّ الحاجي هو تحسين لحدّ


الصفحة 64

الكفاية ، أو إنّه إحلال حدّ كفاية جديد محلّ القديم يتّصف بتوزيع الكمّ والكيف في عدد السِلع والخدمات الداخلة في حدّ الكفاية ونوعيّتها .

 أمّا التحسينيّ ، فهو الاستمرار في إدخال سِلع وخدمات لم تكن قد دخلت الكفاية في مرحلة سابقة ، شريطة ألاّ تبلغ مستوى الترف البذخي والإسراف ؛ لأنّ في ذلك خروجاً على أحكام الشريعة الإسلاميّة وتأطيرها لنمط الاستهلاك .

وبقدر علاقة وليّ الأمر ـ الدولة أو الإمام ـ بحدّ الكفاية وضرورة توفيره ، فإنّ وليّ الأمر مُلزَم بالضروريّات ، إمّا عن طريق الإعالة الثابتة لمواطن الدولة الإسلاميّة ، أو عن طريق إيجاد فُرص العمل له .

أمّا الحاجي والتحسيني ، فهما متروكان لإبداعات الأفراد خلال ممارستهم لمهمّة الاستخلاف ، وبخاصّة في قطاع استخلاف الأفراد .

وتظلّ سِلع الترف والبذخ موضوعاً تكافحه السياسة الاقتصاديّة للدولة الإسلاميّة ، من حيث إنّها غريبة عن سلوك الفرد المسلم في عباداته ومعاملاته .

إنّ دَور الحاجة وتحرّكها ، من الضروري إلى التحسيني عِبر الحاجي ، مردّه إلى المفهوم الحركي للحاجة في الاقتصاد الإسلامي ، فتطوّر الاقتصاد وزيادة المداخيل والإيفاء بواجبات المهمّة الاستخلافيّة في عمارة الأرض ، وتطوير معطياتها النباتيّة والحيوانيّة والمعدنيّة ، أُمور تدفع بالحاجات الاقتصاديّة الإسلاميّة إلى التوسّع ، أُفقيّاً وعموديّاً ، بشكل مستمرّ يستجيب للإرادة الإلهيّة في أنّ نِعَم الله لا تُحصى .

د ـ دَور الحاجة في نمط الاستهلاك الإسلامي

الحاجة في الفكر الاقتصادي الإسلامي ، من زاوية التحديد أو الإطلاق ، نجدها محدودة بضوابط فنّية وشرعيّة ، والمحدّدات الفنّية هي نفسها السارية في الاقتصادات الوضعيّة ؛ لأنّ المسألة تتعلّق بحياة الإنسان في مُجتمع إنساني في مرحلة حضاريّة واحدة من التطوّر الاقتصادي ، ولأنّ تلك سُنن الله في الكون .


الصفحة 65

أمّا المحدّدات الشرعيّة (34) ، فهي أُسلوب المذهبيّة الاقتصاديّة الإسلاميّة في إقرار حاجات اقتصاديّة ، وحظْر أُخـرى ، والحياد قبالة ثالثة ، ومِن الجمع بين المحدّدات يتكامل الموقف من محدوديّة الحاجة ، أي أنّه بزوال المحدّدات الفنّية ، أي في حالة اكتمال عمليّات التنمية ، وتصعيد وتائر الدخل الفردي الحقيقي ، نكون أمام حاجات مُتّسعة ومتنوّعة ، وحاجات جديدة تبدأ بالظهور والتكوّن .

إنّ المحدّدات الشرعيّة الكمّية والنوعيّة للحاجات والسِلع تعمل على تنظيم الحاجة وتأطيرها نوعيّاً ، ولكنّها لا توقف تطوّرها في حجم ثابت .

إنّ القيَم العقائديّة والفكريّة حين تُلغي الخمر والميسر ـ مثلاً ـ بوصفهما من السلع غير المشروعة ، تكون لديها حاجات روحية وثقافيّة بنّاءة لا يراها الفكر الاقتصادي الوضعي ، إضافةً إلى مفهوم العقائديّة الإسلاميّة الخاص في السِلع غير المحدودة التي تلبّي حاجات مادّية مشروعة .

فالتحديد الشرعي ليس تحديداً مادّياً معوّقاً في اتّساع سلّة السلع الاستهلاكيّة ، وإنّما هو تنظيم للحاجة ؛ استناداً إلى علّة يجعلها المُشرّع الإسلامي المعيار في الفصل والتمييز بين الحاجات المشروعة والحاجات المحظورة .

إنّ دَور الحاجة في نمط الاستهلاك الإسلامي مؤطّر ـ كما نعتقد ـ بالمطالب الأربعة التالية :

1 ـ كونها الحاجة الأساس التي يبني عليها الهيكل الإنتاجي للسِلع والخدمات وأولويّاته ( السلع النمطيّة القياسيّة ) ، والسِلع القابلة للتنويع ، أي البدائل ذات الطلب المُشترك .

2 ـ ومِن خلال الجمع بين مفهوم الحاجة الإسلاميّة والهيكل الإنتاجيّ لها يُصار إلى فهْم هدف المُستهلك المُسلم وسلوكيّته ، أي يُصار إلى بناء نظريّة سلوك المُستهلك الإسلامي في ضوء الجهاز المفاهيمي الإسلامي وضمنه ؛ لأنّ المسألة ـ أصلاً ـ مسألة عقائديّة نابعة من أحكام الشريعة الإسلاميّة وتأطيرها للحاجة .


الصفحة 66

3 ـ إنّ المحدّدات الفنّية والشرعيّة للحاجة الإسلاميّة تشكّل أحد الأُسس في تدخّل الدولة الإسلاميّة في الحياة الاقتصاديّة وتخطيطها ؛ لذلك فإنّ الأمر النسبيّ في محدوديّة الحاجة يرتبط في السياسة الاقتصادية للدولة الإسلاميّة بمتغيّرات نسبية هي :

أ ـ انعدام ظاهرة تعطيل الطاقات الإنتاجيّة ؛ لأنّ مهمّة عمارة الأرض ، من حيث إنّها موضوع الاستخلاف ، هي مهمّة عباديّة تجعل العمل تكليفاً إلهياً لا بدّ من الإتيان به دائماً وأبداً ، وأنّ التأثير المُتبادل بين الإنسان والبيئة والنشاط الاقتصادي مهمّة مستمرّة دائمية بديمومة الإنسانيّة والنسل البشريّ ، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .

ب ـ تغيّر مستويات الدخل صعوداً أو هبوطاً ، الأمر الذي يجعل حدّ الكفاية مقداراً متحرّكاً مَرِناً ، يجرّ وراءه اتّساع سلّة السِلع والخدمات الداخلة فيها أو ضمورها .

جـ ـ قدرة الفكر الإسلامي على تحليل المستجدّات ، واستنباط الأحكام المتلائمة مع تطوّر الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة في إطار الثوابت ( القرآن الكريم ، والسنّة الشريفة ) ، وفي ضوء آراء الفقهاء وأئمّة المسلمين ومذاهبهم في مجال نمط الاستهلاك الإسلامي .

4 ـ تلعب الحاجة الإسلاميّة دور حلقة الربط بين الجعل الشرعي بإنماء الطاقات البشريّة ، وبين التخطيط للحياة الاقتصاديّة في عمارة الأرض ؛ فكون الحاجة الاقتصاديّة الإسلاميّة غير محدودة يمكن الاستدلال عليه من المُنطلقات الأساسيّة التالية :

أ ـ إنّ الهدف المركزيّ للنشاط الإنساني هو عمارة الأرض ، من حيث إنّها سلسلة من عمليّات مستمرّة في علاقات تأثير مُتبادل بين الإنسان والحيوان والمعدن .

ب ـ إنّ عمارة الأرض تستهلك في الممارسة طاقات وموارد اقتصاديّة مادّية وبشريّة ؛ فالواجب تجديدها وإنماؤها ، وإيجاد البدائل والمصادر البديلة بشكل دائم ومُستمرّ .

 

ــــــــــــــــ

(17) المُحقق الحلّي ، شرائع الإسلام .

(18) الداماد ، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ، موطّأ الإمام مالك ، تحقيـق محمّد فؤاد عبد الباقي ، ص : 743 ، الحديث رقم 2 ، اُنظر : ابن حزم ، المُحلّى ، ص : 232 ، الحديث رقم 8 .

(19) الغزالي ، الوجيز في فقه الشافعي : 1/145 .

(20) اُنظر : الإمام الشافعي ، الأمّ ، تحقيق محمّد زهدي النجّار ، ص : 41 ، الحديث رقم 4 ، دار المعرفة ـ بيروت .

(21) اُنظر في ذلك : الكاساني ، بدائع الصنائع : 1/198 ، أبو يوسف ، الخراج ، الشيخ الطوسي ، المبسوط .

(22) اُنظر : سيّد قُطب ، العدالة الاجتماعية ، ص : 121 ، الحديث رقم 6 ، العربي (محمّد عبد الله) ، استثمار المال ، بحث في المؤتمر الأوّل للأزهر ، ص : 128 .

عودة ( عبد القادر ) ، المال والحكم ، (م . س) ، ص : 37 .

الحسب ( فاضل ) ، في الفكر الاقتصاديّ ، ص : 36 .

(23) الرملي ، الفتاوى الخيريّة ، المطبعة العثمانيّة : 2/185 .

(24) الصاوي ( أحمد بن محمّد ) ، بُلغة السالك : 2/374 ، ط2 .

(25) ابن حَزم ، المُحلّى : 8/270 .

(26) أبو يوسف (م . س) ، ص : 58 ، اُنظر أيضاً : الفرّاء ، الأحكام السلطانيّة ، ص : 65 .

(27) المصدر نفسه ، ص : 61 .

(28) المحقّق الحلّي ، (م . س) ، ص : 2 ، الحديث رقم 4 .

(29) الشيخ الأنصاري ( مرتضى ) ، المكاسب : 1/10 .

(30) مسند الإمام أحمد ، شرح أحمد محمد شاكر ، دار المعارف .

(31) البلد أو الأُمّة .

(32) نقلاً عن الحسب ( فاضل ) ، الماوردي في نظريّة الإدارة الإسلاميّة العامّة ، عمان ، المنظمّة العربيّة للعلوم الإداريّة ، ص : 56 .

(33) الحسب ( فاضل ) ، (م . ن) ، نقلاً عن الماوردي في أحكامه السلطانيّة ، المكتبة المعموديّة التجاريّة  ـ مصر .

(34) كاظم ( عبد الأمير ) ، (م . س) ، ص : 326 .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net