متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
المبحث الثاني : ثمرة آراء الفقهاء في اشتراط الرشد
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

المبحث الثاني

1 ـ ثمرة آراء الفقهاء في اشتراط الرُشد

أ ـ ذهب الظاهريّة إلى أنّ ( المحجور عليه لا يخلو إمّا أن يبلغ عاقلاً سويّاً أمْ لا ، فإن بلغ عاقلاً دُفع إليه مالُه برفع الحَجْر عنه ، وإلاّ أُمسك عليه حتى يؤنَس منه العقل ) ( 32 ) .

وحدّد ابن حزم المراد بالعقل ، فقال : ( أمّا العقل الذي نراه رشداً ، فهو صلاح دينه وليس معرفته بكسب المال ) . وعليه ، فإنّ اختبار رشده يتمّ بتحقّق عدالته بعد البلوغ أو الإشهاد على عدالته .

ب ـ أمّا الزيديّة ، فإنّهم وإن فهموا أنّ الرشد هو العقل ، إلاّ أنّهم لم يصرّحوا بأنّ مصداقيّة تحقّق الرشد هي عدالة الشخص ( عدم ارتكابه المعاصي ) .

جـ ـ أمّا جمهور فقهاء الإماميّة والحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، فإنّهم يختبرون الرشد بإصلاح المال ، ويثبت الاختبار لقوله تعالى : ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ) [النساء : 6] ، وحدّدوا أنماط الاختبار ( بما يناسبه من التصرّفات ، كما لو يعرف منه جودة المعاملة وعدم المغابنة إن كان تاجراً ، أو المحافظة على ما يكتسب به ، والملازمة إن كان صانعاً وأشبـاه ذلـك ) ( 33 ) .

وكذلك بالنسبة للمرأة بما يناسب البيئة والمستوى الحضاري ، ( ويثبت الرشد في الرجال بشهادتهم وفي النساء بشهادتهنّ ) ( 34 ) .

وكلّ ما تقدّم من آراء لا يرى البلوغ وحده علامة على النضج ، ما لم يتحقّق الرشد بالاختبار أو الشهادة ، إلاّ ما ذهب إليه أبو حنيفة ( رحمه الله ) ، الذي سنرى رأيه في ما يأتي :

د ـ أمّا الحنفيّة ، فعندهم أنّ المراد بالرشد حقيقته قبل بلوغ سنّ الخامسة والعشرين ، وأمّا بعد ذلك ، فإنّ المراد بالرشد مظنّته ، وكأنّ أبا حنفية يرى أنّ


الصفحة 120

الرشد ، أي النضج في التصرّفات الماليّة حاصل غالباً في هذه السنّ ، وأنّ البلوغ هو حكمٌ وضعيّ لرفع الحَجْر ، فمَن بلغ هذه السنّ عنده دُفع إليه مالُه ؛ لأنّ السنّ وحدها مظنّة أو علامة على تحقّق الرُشد ، سواء علِم منه أمْ لم يعلمْ ، طالما أنّ الأحكام تُبنى على الغالب لا النادر .

واستدلّ له بأنّ مفردة الرُشد في الآية جاءت نكرة ، فالمراد منها ـ إذن ـ شيء من الرشد ، وهو حاصل في الأغلب ( 35 ) .

كما استدلّ له بحديث حبان بن منقذ ، إذ ذُكر فيه لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنّه يخدع في البيوع ، فجعل له رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الخيار ثلاثاً ، ولم يحجر عليه ( 36 ) .

وربّما قالوا : الصِغَر هو المؤثّر في منع التصرّف بالمال بدليل تأثيره في إسقاط التكاليف ، وإنّما اعتبر الصِغر لأنّه الذي يوجد فيه السفَه غالباً ؛ لذلك جعل البلوغ علامة وجوب التكليف وعلامة الرشد ( 37 ) . وعليه بُنيَ رأيٌ للحنفيّة : ( ألاّ يحجر على الحرّ البالغ العاقل السفيه ، وإن كان مبذّراً يُتلف مالَه في ما لا غرض فيه ولا مصلحة ؛ لأنّه مخاطب ، فلا يُحجَر عليه اعتباراً بالرشيد ، ولأنّ في الحَجْر عليه سلبٌ لآدميّته ، وهو أشدّ ضرراً من التبذير ، فلا يُتحمّل الضرر إلاّ لرفع الأدنى ، وقيل إنّه إذا كان في الحَجْر تأديب ـ أي رجاء تقويم السلوك ـ فلا فائدة منه بعد هذه السنّ ؛ لأنّه لا يتأدّب بعد هذا ظاهراً ) ( 38 ) .

أمّا صاحباه : أبو يوسف ومحمّد بن الحسن ، فقد خالفاه في هذه واستدلاّ بأنّ البالغ السفيه أَولى بالحَجْر من الصبيّ ؛ لأنّ الثابت في حقّ الصبيّ احتمال التبذير ، وفي حقّ البالغ السفيه حقيقة التبذير .

وقد نوقشت آراء أبي حنيفة وموافِقيه إبراهيم النخعي وابن سيرين ( 39 ) مناقشات عدّة ، انتهت كما لخّصها الدكتور زيدان بقوله : ( إنّ ظاهر الآية لا يساعده ؛ لأنّ دفع المال فيها معلّق على إيناس الرشد ، لا بلوغ سِنٍّ معيّنة ) ( 40 ) .

هـ ـ أمّا الشافعي ، والطوسي في رأيه في ( المبسوط ) و( الخلاف ) ومَن وافقهما مِن الإماميّة ، فإنّهم ضبطوا الرشد بجواز الشهادة ، أي العدالة ، واشتراط إصلاح المال ، على أنّ الشيخ الطوسي يرى العدالة حُسن الظاهر أو


الصفحة 121

مجرّد الإسلام مع عدم ظهور الفِسق ، وهما موجودان في الناس إلاّ النادر ، وعليه ، فالأصل عند الشيخ في المجهول الحال العدالة ، والأصل في أقواله وأفعاله الصحّة ( 41 ) .

2 ـ أدلّة آراء الفقهاء

أوّلاً : يستدلّ مَن يرى أنّ الرشد هو العقل بما يأتي :

1 ـ إنّ الآية مرتّبة على قوله تعالى : ( وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ ) [النساء : 5] ، وقد فُسّرت مفردة السفهاء بـ :

أ ـ النساء والصبيان بجامع عدم النُضج العقلي ، وهو رأي لابن عبّاس ، وسعيد ، والحسن ، والضحّاك ، وقتادة . ورواه أبو الجارود عن الباقر ( عليه السلام ) .

ب ـ وقيل : إنّه عامّ في كلّ سفيه من صبيّ أو مجنون ( 42 ) . وعليه ، فإنّ اشتراط البلوغ ـ في ما يخصّ علّة صِغَر السنّ إلى جنْب الرشد : أي النضج العقليّ في ما يخصّ المجنون أو السفيه .

2 ـ ما ذهب إليه مجاهد والشعبي من أنّه العقل .

ثانياً : واستدلّ مَن يرى أنّ الرشد هو الدين حسْب :

1 ـ مِن الكتاب بقوله تعالى : ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا  ) [النساء : 6] ، والفاسق موصوف بالغيّ لا بالرشد ، لقوله تعالى : ( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) [هود : 97] ، مع أنّه كان يُراعي مصالح الدنيا على الوجه المعتبر .

2 ـ وما روي عن الصادق ( عليه السلام ) ، عن آبائه ، عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنّه قال : ( شارب الخمر سفيه ) ، وليس من قائل إنّ بين شرب الخمر وغيره من المعاصي فارقاً ، ممّا يترتّب عليه أنّ مرتكب المعصية سفيه مطلقاً .

3 ـ قوله تعالى : ( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ) [البقرة : 256] ؛ حيث قابل القرآن الكريم مصطلح الضلالة بالرشد ، فمَن كان فاسقاً في دينه كان موصوفاً بالغيّ ، ومن وُصف به لا يوصف بالرشد ؛ لأنّهما صفتان متنافيتان لا يجوز اجتماعهما ، وهو مؤدّى دليل ابن حزم المتقدّم نقلاً عن المحلّي .


الصفحة 122

4 ـ استدلّ القائلون بأنّ الرشد هو الدِين : يُمنع غير المتفقّه في الدِين من الاتّجار بأسواق المسلمين ؛ فهو إذن : حَجْر جزئيّ على بالغٍ عاقلٍ يجيد المماكسة . كذلك استدلّوا بكراهة دفع المسلم أمواله للكافر مضاربة أو توكيلاً ؛ لكونه لا يصدق عليه لفظ المسلم بجامع ارتكابه المعصية .

ثالثاً : واستدلّ مَن يرى أنّ الرشد إصلاح المال وتثميره فقط بـ :

1 ـ إنّ المفهوم من الرشد عُرفاً إصلاح المال ؛ وحيث أنّ حقيقة المراد القطعيّ من النصّ ليس فيه حقيقة شرعيّة ، فإنّ العُرف محكّم في مثل هذه الحالات .

2 ـ إنّ الفسق أمرٌ شرعيٌّ مغاير للرشد من حيث هو ، فكيف يعتبر ما لا مدخليّة له في فهْمه ؟ ( 43 ) ، أي في مفهومه .

3 ـ إنّ الكافر لا يُحجَر عليه لكفره ، فالفاسق أَولى ( 44 ) .

4 ـ مع القول باشتراط العدالة في إطلاق التصرّف ، فإنّ ذلك يُعدّ موجباً لترك المعاملة والمناكحة وتعطيل المعيشة ، وهو مخالف لعمل الآية ( 45 ) ، بل الكتاب والسنّة ، بل في الأخبار ما يدلّ على جواز معاملة الفسّاق ، وقد ساق في ( المسالك ) قوله : إنّه لو اعتُبرت العدالة في الرشد لم يقُمْ للمسلمين سوق ، ولم ينتظم للعالَم حال ( 46 ) .

5 ـ وإذا كان قتادة اشترط العقل والدين ، فهو غير دالّ على العدالة أيضاً ، إذ يكفي في صلاح الدين حُسن الاعتقـاد ( 47 ) .

6 ـ يستدلّ أصحاب هذا المحور بأنّ المناط في الحَجْر مَن يسيء استخدام أمور المعاش ، لا أمور المعاد ؛ لقوله تعالى : ( وَلاَ تُؤْتُوا السّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً ) [النساء : 5] .

7 ـ ذهب ابن العربي إلى ( أنّ غرض حفْظ الدين وحفظ المال مختلف ؛ فغرض حفظ الدين الخوف من الله ، وغرض حفظ المال تدبير المعاش ، فلا يكون الحكم على عِلَلٍ مختلفة ) ( 48 ) .


الصفحة 123

8 ـ إنّ اعتبار الرشد إصلاح المال هو قول أغلب المفسّرين ، ومِن ثَمّ هو قول جمهور فقهاء المسلمين ، فلا عبرة بالشاذّ مقابل رأي الجمهور .

9 ـ استدلّ القرطبي بأنّ ورود لفظ الرشد في الآية نكرة في سياق الإثبات يدلّ على أنّ سبيلها الإطلاق ، والمطلق يتحقّق بأيّ فردٍ من أفراده ، فإذا صوّت العُرف على أنّ المراد إصلاح المال وليس العدالة ، توضّح المراد ( 49 ) .

رابعاً : أدلّة مَن يرى الرشد ( إصلاح المال ، وصلاح الدين ) : بأدلّة المحور الذي يرى الرشد هو الدين استدلّ مَن يراه إصلاح الدين والمال معاً ، في ما سبق من قولنا إنّه مذهب الشافعي والطوسي في ( التهذيب ) و( الخلاف ) ، ومَن وافقَهم .

واستدلّوا ـ إضافة إلى ذلك ـ بالاحتياط ، قال العاملي : ( وليست هذه الأدلّة بتلك المكانة من الضعف كما قد يُظنّ ؛ ولذا تردّد المحقّق في كتابيه : ( الشرائع ) و( المختصر ) فيهما ( 50 ) .

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

( 32 ) ابن حزم الظاهري ، ( م . س ) : 5/230 ، 8/286 .

( 33 ) العاملي ، ( م . س ) : 5/246 .

( 34 ) المصدر نفسه .

( 35 ) الميرغناني ، ( م . س ) : 3/285 .

( 36 ) ابن رشد ، ( م . س ) : 2/278 .

( 37 ) الجصّاص ، أحكام القرآن : 2/63 ، اُنظر : ابن رشد ، بداية المجتهد : 2/278 .

( 38 ) الميرغناني ، ( م . س ) : 3/280 ـ 282 .

( 39 ) الجصّاص ، ( م . س ) : 2/63 .

( 40 ) زيدان ( عبد الكريم ) ، ( م . س ) : 2/321 .

( * ) اُنظر : فرضيّة البحث .

( ** ) يفرّق علماء التربية الأوربيّون بين أنماط التربية ، فيجعلون تربية الأُسرة تربية غير مقصودة ، وتربية المدارس ومعاهد التعليم تربية مقصودة ، لكن الباحث يعتقد أنّ التربية الإسلاميّة في مراحلها كافّة تربية مقصودة .

( 41 ) العاملي ، ( م . س ) : 5/246 .

( 42 ) الطبرسي ، ( م . س ) : 3/ 13 و14 .

( 43 ) العاملي ، ( م . س ) : 5/246 .

( 44 ) المصدر نفسه .

( 45 ) المصدر نفسه .

( 46 ) المصدر نفسه .

( 47 ) السيوري ( المقداد ) ، كنز العرفان في فقه القرآن : 2 / 182 .

( 48 ) ابن العربي المالكي ، أحكام القرآن : 2/322 .

( 49 ) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن : 5/37 .

( 50 ) العاملي ، ( م . س ) : 5/246 .


الصفحة 124


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net