متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
المبحث الثاني : الجرائم في مجال الإنتاج
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

المبحث الثاني : الجرائم في مجال الإنتاج

النمط الأوّل : المُسكرات

يدفع المشرّع الإسلاميّ أتباعه إلى العمل والإعمار دفعاً روحيّاً ومادّياً ؛ كونه يَعدّ ذلك عبادةً يرفعها أحياناً على الصلاة والصوم والحجّ ، ويؤسّس لها حقوقاً ماديّة مكتسبة ، مثل إباحة التصرّف بالمال ، وتحقّق مشروعيّة المِلكيّة ، وجواز انتقال الثروة إلى مَن يريد بالهبة والإرث .

وللإسلام وسائله المتعدّدة في تنمية الإنتاج ، لكنّه يقيّدها بالمباح شرعاً بضابط مؤدّاه : ( إنّ الجائز من الأعمال ما يحقّق هدف المنفعة الشاملة للمسلم ) ؛ ولأجله تعدّدت أنواع الكسْب غير المشروع تحت قاعدة دستوريّة قرآنيّة كبيرة في قوله تعالى : ( لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) [النساء : 29] .

والباطل ، كما ورد عند المفسّرين ، ضدّ الحقّ ، وهو المباح الجائز ، فتدخل فيه بأدلّة تفصيليّة الأعمال العقيمة ـ غير المنتجة ـ كالمقامرة والسحر


الصفحة 151

والكهانة واللهو والمُجون ( 22 ) وغيرها ، ويحرّم ما يضرّ مباشرة بالمجتمع ، مثل إنتاج الخمر وكلّ مُسكر .

فلا يصحّ إنتاج الخمر ؛ لِما ثبَت من النصّ والإجماع والعقل ، وما ترتّب عليه من حرمة في إنتاجه سرَت إلى تداوله في تحريم بيعه وشرائه لقوله تعالى : ( إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) [المائدة : 90] .

ويذهب المشرّع إلى أبعد من ذلك ، لا يقف عند تحريم إنتاجه وتداوله واستهلاكه ، فيرى الإماميّة ( 23 ) والشافعـيّ ( 24 ) ومالك ( 25 ) وأحمد ( 26 ) عدم صحّة توكيل المسلم للذمّي في إنتاجه وتداوله خلافاً لأبي حنيفة ( 27 ) .

ويرى الجمهور أنّ المسلم في هذه الحالة هو المُنتج الحقيقيّ بالتسبّب ، ولا اعتبار للمُباشرة ؛ لأنّ الحرمة مترتّبة على الضرر لا النجاسة ، ولأنّ اللعن قد ورد على المتعامل بها في السُنّة الشريفة ، ولأنّ الوكيل منتج للأصيل .. وإذا كان الأمر كذلك ، فإنّ الإجارة والجُعالة والمضاربة تدخل في هذا الحُكم .

 ولاحَقَ المشرّع ـ كما عرفت ـ ثمنه ، فمنَع منه في وجوه التصرّف كافّة ، فقد نقل أبو بصير ، عن الصادق ، عن آبائه ( عليهم السلام ) ، عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : أنّ ( الذي حرّم شربها حرّم ثمنها ) ( 28 ) ، وهذه قاعدة عامّة ، فقد نقل ابن إدريس حديث النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( إنّ الله إذا حرّم شيئاً حـرّم ثَمَنـه ) ( 29 ) .

وعموم القاعدة تقضي بوقف التصرّف في ثمن المحرّم ، ولا تقف عند عَين المحرّم ؛ وبذلك أفقد المشرّع هذه السلعة صفة المال المعتبر ، وسحب القيمة التبادليّة منها ، وحرّم الاستفادة منها أو من ثمنها ، ناهيك بأنّها أبعدها هي وثمنها عن مجال القُرُبات ، فقد حدّد الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في جواب لسائلٍ له عن التصرّف في ثمنه في الحجّ أو الجهاد ، قال : ( لم يعدل عند الله جناح بعوضة ، إنّ الله لا يقبل إلاّ الطيّب ) ( 30 ) .

إنّ هذا النمط من الملاحقة ـ بدءاً من تخصيص الموارد ؛ حيث يرى الفقهاء كراهة بيع العنب لمَن يعمله خمراً ، بين مانعٍ مطلقاً ، كما ورد عن الإمام أحمد وبعض الإماميّة ، وبين مشترطٍ عِلم البائع مقتضي للحرمة ؛ لأنّه أعانه


الصفحة 152

على الإثم عند آخَرين ـ يكشف عن أُسلوب المشرّع في غلق الأبواب أمام المخالفة ، من تخصيص الموارد لإنتاج السلعة المحرّمة إلى المال والنتائج في الاستهلاك والتوزيع .

أظهرت عمليّات استقراء العلماء لأوامر الشريعة الإسلاميّة ونواهيها ، أنّ أوامرها قد تعلّقت بها مصلحة أكيدة أو راجحة ، وأنّ ما نهَت عنه على وجه الإلزام قد انطوَت عليه مفسده أكيدة . ويلاحظ هنا أنّ المشرّع قد رتّب تحريمه للخمر والمُسكرات عموماً على إبعاد الضرر عن الإنسان ، وقد ثبت أنّها ـ أي الخمر والمسكرات عموماً ـ تخلُق وسطاً للجريمة ، وقد كشفت عن هذا التشخيص بعض الدراسات ، أُشيرُ إليها إجمالاً :

ففي مجال أضرارها على الشخصيّة ، ذهب العلماء إلى أنّ المُسكرات توجِد اضطرابات نفسيّة وعضويّة ، يمكن معها القول إنّها تدفع إلى ارتكاب أفعال جُرميّة .

وأُجريت دراسة أكّدت على وجود علاقة بين المخدّرات والجرائم .

وفي أخرى أُجريت في الولايات المتّحدة على عيّنة مقدارها ( 1889 ) مجرماً ، وُجد أنّهم من المُدمنين ، ولوحظ فيها أنّ جرائم السرقة كانت ( 845 ) ، وجرائم الغشّ ( 23 ) ، وتزييف العُملة ( 29 ) ، وحيازة الأموال المسروقة ( 37 ) .

وفي دراسة أخرى جرت عام ( 1971م ) تبيّن منها أنّ ( 38 ) مدمناً قد ارتكبوا ( 93% ) من جرائم الاعتداء على المال لذلك العام .

ولوحظ أنّ الاتّحاد السوفياتي حين خفض عام ( 1986م ) إنتاج المُسكرات بنسبة ( 38% ) ، نسبة إلى إنتاجه لعام ( 1985م ) ، وجد أنّ نسبة الجريمة انخفضت بمعدل ( 24% ) قياساً على نسبة الجرائم عام ( 1985م ) ( 31 ) . لذلك نهج المشرّع الإسلامي في تحريمه للمُسكرات عدّة وسائل :


الصفحة 153

1 ـ تحريمها نصّاً وظاهراً ، فصار ممّا عُلِم في الدِين بالضرورة ، ممّا قطع فيه باب التأويل .

2 ـ حرّم الوسائل المادّية المؤدّية إليها ، من تخصيص الموارد ، ومنع وحدات العمل ، وغلْق السوق .

3 ـ حرّم الأثمان المتولّدة منها في التصرّفات كافّة .

4 ـ أعطى لوليّ الأمر حقّ فرْض العقوبة على إنتاجها واستهلاكها . فقد نقل الصنعاني في ( سُبل السلام ) أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( إذا شرب فاجلدوه ، ثمّ إذا شرب فاجلدوه ، ثمّ إذا شرب في الثالثة فاجلدوه ، ثمّ إذا شرب في الرابعة فاضربوا عنُقه ) ( 32 ) .

واختلف العلماء في جَلْده على مذهبين : جمهور الفقهاء والإماميّة على أنّه يُجلد ثمانين جَلدة ويُفسَّق ، ورأى الشافعي وأبو ثور وداود أربعين جلدة ويُفسّق ( 33 ) .

فالفسق محلّ اتّفاق ، وعمدة الفريق الأوّل ما أشار به أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى تحمّل الشارب حدّ الافتراء . أمّا الحكم بفسقه فواضح ؛ إذ إنّه مُواقع للكبائر ، ولا خلاف في زوال العدالة بمواقعتها ، وإذا ردّ الشارع ( عن منتج الخمر ومتداولة ومستهلكه ) شهادته ، أسقط عنه حقوق تولّي الأُمور العامّة ، وبالتالي يصوغ المشرّع العُرف ( الرأي العامّ ) زيادةً ما يرتّب على هذا النمط من المخالفات عقوبة أُخروية .

إذن ، فعقوبة دنيويّة مادّية بالجَلد ، وعقوبة اجتماعيّة بالتفسيق ، وعقوبة أُخرويّة بالنار ، وكلّ ذلك بعد التنفير والترغيب بالآخرة ، والإيصاء باحترام المتّقي وتوقيره ، وسدّ أبواب الوقوع في حبائل الشيطان .. ، فلم تبقَ العقوبة إلاّ لمَن لم يتّعظ ، ويقتحم بإصرار وعناد مجالات الحرمة ؛ الأمر الذي يخلّ بالنظام العامّ والآداب المرعيّة ، فتُوجّه له العقوبة حماية لنفسه ولأُسرته ومجتمعه ، فهل يا ترى ترقى نظريّةٌ في الأمن الاجتماعي إلى ما اتّخذ الإسلام من تدابير منع حصول الجريمة ... في النُظم الاجتماعيّة ؟


الصفحة 154

النمط الثاني : الغِش

دخل العالَم المعاصر اليوم في منافسة شديدة في أحكام الرقابة على الإنتاج ، وأنشأ أجهزة إداريّة وفنّية للمقاسات والسيطرة النوعيّة ؛ حماية  للمستهلك من غشّ المُنتجين ، وكلّما تقدّمت وسائل الرقابة فاقَتها وسائل التدليس والغشّ من المُنتجين . فما هو أُسلوب المذهبيّة الإسلاميّة في الوقاية من هذه الجريمة ؟

الأُصول المانعة :

ورد عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنّه قال : ( ليس من المسلمين مَن غشّهم ) ( 34 ) .

وعنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( ليس منّا مَن غشّ مسلماً أو ضرّه أو ما كره ) ( 35 ) .

وعنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( مَن غشّ الناس فليس بمسلم ) ( 36 ) .

روى هشام بن الحكم ـ رحمه الله ـ قال : كنت أبيع السابري في الظِلال ، فمرّ بي أبو الحسن ، فقال : ( يا هشام إنّ البيع في الظلال غشّ ، والغشّ لا يحلّ ) ( 37 ) ، ونقل الإجماع في تحريمه عيناً ومقدّمات .

وضابطه عند الفقهاء : ( ليس الأمر على المشتري ، وبيع المغشوش عليه مع جهله ) .

بل لقد ذهب العلاّمة إلى حرمته حتى إذا كان الإنتاج موجّهاً لغير المسلم ( 38 ) ، وقد اتّخذ المشرّع مجموعة من الوسائل لحماية المستهلك من الإنتاج المغشوش :

1 ـ الوسيلة العقائديّة : فقد تقدّمت النصوص في التنفير منها ، وتأكيد حرمتها والعقوبة الأُخرويّة عليها .

2 ـ الوسيلة الوقائيّة : فقد ظهر في التطبيقات الإسلاميّة جهاز الحُسبة ، الذي بملاحظة لوائحه نجد أنّ ما يقابل اليوم جهاز الرقابة الاقتصاديّة ، ومن أبرز مهامّه في إدارة اقتصاديّات المجتمع تطبيقه لمعايير المقاسات والسيطرة


الصفحة 155

النوعيّة ؛ لذا فإخلال المنتج بالسلعة يعدّ من المُنكر الذي يُحاسب عليه ، فتعزير المحتسب وإشهاره للغاشّ .. حماية للمجتمع ووقاية لمَن يفكّر في أن يغشّ في الإنتاج ، وتمييزاً للسوق الإسلاميّة من بقيّة الأسواق بأنّها سوق السلع النافعة للمستهلك نفعاً شاملاً . إنّ مراجعةً لصلاحيات المحتسب نجدها تتدرّج من التعزير الخفيف إلى إشهار السلاح ، مروراً بالنفي عن البلد وحرمان المنتج من العمل ، أو سلب الامتيازات الصناعيّة .

لقد ذكر ابن تيميّة أنّ عمَر نفى صبيغ بن عسل إلى البصرة ، وكذلك نفى نصر بن حجاج إليها أيضاً ( 39 ) .

وقد أفتت طائفة من الفقهاء بإتلاف المغشوش ، مثل الثياب التي نُسجت نَسجاً رديئاً ( 40 ) ، وإذا عرفنا أنّ الاحتساب أمر عامّ للناس وولاية خاصّة للمحتسب ، فإنّ نظام الحُسبة يرصد المخالفة ويقي من الوقوع فيها ، ويتلافى حصول ضرر بها ساعة ظهورها ، كما أنّها من الأنظمة التي تتميّز بسرعة الفصل وإيقاع العلاج بلا تراكم زمنيّ أو سلعي .

3 ـ التكاليف الفرديّة : أوجب الفقه الإسلامي على البائع إعلام المشتري بالعيب الخفيّ ، فإن كان قد غشّ في بيعه مع وصف مفقود ، كان فيه خيار التدليس ، وإن كان من قبيل مزج غير المراد ، كان للمستهلك خيار العيب ، وإذا أخفى الأدنى في الأعلى كان له تبعيض الصفقة ، وينقص من الثمن بمقدار الزائد غير المرغوب ( 41 ) . وهذا الحقّ القانونيّ لحماية المستهلك يجعل الإنتاج غير المرغوب قابل للردّ ، وبذلك يغلق المشرّع أمامه أبواب التسويق .

النمط الثالث : تعطيل الموارد

ثَمّة منطلقات أساسيّة يتسالم عليها الفكر الاقتصادي ، ومنها أنّ التنمية تشكّل الحصيلة النهائيّة لمدى فاعليّة أيّ نظام اقتصادي .

وأوّل شروط التنمية الاستخدام الرشيد للموارد ، والتخصيص التنموي لاستخدامها .


الصفحة 156

لذلك فإهمال الموارد أو تعطيلها ، أو استخدامها بصورة غير رشيدة يُعطّل الإنماء ، وبه ترتفع معدّلات العجز ، لا سيّما مع زيادة السكّان التي ينتج عنها نقص المدخولات قبالة زيادة الإنفاق . فالاستخدام الكامل للموارد هدف الاقتصادات كلّها ، وهو يتوقّف على سلوك الأفراد والمنشآت ، وتدفع إليه مجموعة اعتبارات ، منها فنّية ، مثل حجم الطلب أو نوعه ، ودافعيّة الفرد لها قد تكون لأسباب مادّية ( زيادة الربحيّة ) .

إنّ الإسلام بجعله لها عبادة يجعل لها دافعيّة أُخرى ، فلقد حدّد المشرّع أنّ من أسباب المِلك التامّ الاستيلاء على المال المباح بوصفه سبباً فعليّاً لا عقديّاً على الأرض الموات ، والمعادن غير المستغلّة والغابات والصّيد ... إلخ ، فإنّ المكلّف يجب عليه لتحقّق اكتساب ملكيّة هذا المباح تعميره واستخدامه استخداماً رشيداً .

فإذا أحيا شخص أرضاً ثُمّ هجرها حتى عادت مواتاً ، فهل يعدّ تعطيلها مخالفة أم لا ؟ وإذا عدّ مخالفة ، فما الذي يترتّب عليها ؟

اختلف الفقهاء في ذلك على مذهبين :

الأوّل : ما ذهب إليه أكثر الحنفيّة ( 42 ) ، من أنّه لا يرد الإحياء على مملوك ، والأرض المحياة ، وإن عادت خراباً ، قد ثبت ملكها بسببٍ مشروع ، فلا يزول عنها الملك بالترْك والتعطيل ، فهي كسائر الموارد المنقولة بالنواقل الشرعيّة ، ومعهم في ذلك الحنابلة والظاهريّة وبعض الإماميّة .

الثاني : وهو رأي المالكيّة ( 43 ) ومشهوري الإماميّة ( 44 ) أنّه يجوز لشخص إحياء المتروك ؛ لأنّ المحيي الأوّل إنّما ملَك بشرط استمرار الإحياء ؛ إذ هو السبب في المِلك ، وحيث انتفى السبب سقط الحقّ تبعاً له . وللإماميّة تعديل في المسألة : يمنح وليّ الأمر سلطة الإبقاء على المالك الأوّل أو سحبه ، ويرون أنّ ( ترْك المحيي المورد معطّلاً حتى عاد خراباً ، فللإمام سحبه ، كما كان له إمضاؤه ) .

يفسّر ذلك بأنّ الإماميّة يرون أنّ المحيي اكتسب في إحيائه للمورد ، حقّ اختصاص دون الملك التامّ ؛ لذا ( كلّ أرضٍ ترَك أهلها عمارتها كان للإمام


الصفحة 157

تقبيلها ، لمَن يقوم بها ، وعليه طسقها ( * ) لأربابها ) . وأربابها في الفتوى يتمثّلون إمّا بوليّ الأمر ، أو بالمحيي الأوّل وورثته ، واستندوا في ذلك إلى روايات عدّة رويت عن أئمّة آل البيت ، لكن سبب الخلاف يكمن في الدلالة لا في الدليل .

ويظهر للباحث من أقوال الفقهاء وأدلّتهم ، جمعاً واستفادةً من آراء وأدلّة الفريقين ، أنّ التشريع يرتّب على الاستثمار الجادّ حقوقاً تبدأ بالاختصاص وتنتهي باكتساب الملكيّة ، فعند ترك الاستثمار يسحب حقّ الانتفاع ويبقى حقّ الحيازة . فإذا اندرست آثار الإعمار يُنزع حقّ الحيازة ؛ ويبقى حقّ التصرّف بالمنشآت ، فعودة الأرض جرداء يلغي الحقّ برمّته ؛ عند ذاك تُسوّغ الشريعة للغير أن يمارس عمليّة الإحياء والإعمار ، الأمر الذي يشعر أنّ سحب الحقّ هو العقوبة الاقتصاديّة لتعطيل الموارد .

والشّارع حين ينقل ملكيّة المورد من نطاق ملكيّة الدولة إلى ملكيّة الأفراد من دون مقابل ، إنّما يُريد بذلك استصلاح الأراضي غير المستغلّة ، فتعطيلها يتعارض مع مقصوده ، وهو مقاس طوال مدّة التحجير ؛ حيث يتّفق الفقهاء في أنّ مدّة التحجير لا تكسب حقّاً ، ولا يترك الحَجْر هكذا للتعطيل ( 45 ) .

والذي يؤيّد ما ذهب إليه المالكيّة وأكثر الإماميّة ، أنّ ترك المورد معطّلاً يُلحق ضرراً بالناس ، ولحاكميّة الضرر على العناوين الأوّليّة ، أعني : ثبوت المِلك بالإحياء ، ولقاعدة الضرر يُزال ، فإنّ سحب المورد من المعطِّل هو الراجح .

إنّ وجود العلّة ( التعطيل ) في أيّ حكم لا نصّ فيه ممّا يدخل في هذا المضمار ، هو قابل أن يُلحَق به حكم الأراضي المعطّلة ؛ لأنّ تنقيح مناط المسألة يجرّنا إلى القول : إنّ كلّ امتياز تمنحه الدولة للأفراد ـ النشاط الخاصّ ـ يُشترط فيه الإسهام الفاعل في تعميق نوعيّة النتائج وزيادتها ، فإنّ لم يحصل فللدولة سحب الامتياز ( 46 ) ، أو تعديل بنوده لصالح المجتمع ؛ لأنّ

ــــــــــــــــــــــــ

( * ) الطّسق : شبه الخراج ، له مقدار معلوم : مكيال معروف .


الصفحة 158

تصرّف وليّ الأمر على الرعيّة بالمصلحة ، فإذا تعارض العامّ والخاصّ ، فالعامّ مُقدّم .. استفادة من أنّ الحقوق معلّلة في أغلبها بمصالح العباد ( 47 ) .

 

ــــــــــــــــ

( 22 ) اُنظر : الطوسي ، التبيان : 2/177 ، مجمع البيان : 3/36 ، الجصّاص ، أحكام القرآن : 2/ 171 .

( 23 ) الأنصاري ، المكاسب : 1/167 ، الشهيد الأوّل ، اللمعة الدمشقيّة : 4/368 ، المحقّق الحلّي ، الشرائع : 2/199 ، العلاّمة الحلّي ، التذكرة : 7/15 .

( 24 ) الشيرازي ، المهذّب : 1/132 ، الدمشقي ( محمّد بن عبد الرحمان ) ، رحمة الأمّة : 1/158 .

( 25 ) العيد ( ابن دقيق ) ، إحكام الأحكام : 3/252 .

( 26 ) ابن قدامة ، المغني ( مبحث الوكالة ) .

( 27 ) الجصّاص ، ( م . س ) : 2/461 ، الكاساني ، بدائع الصنائع : 6/33 و34 .

( 28 ) مستدرك الوسائل : 2/427 ، الأنصاري ، ( م . س ) : 1/116 ، باب المكاسب .

( 29 ) ابن إدريس ، السرائر ، ط . حجريّة ( باب المكاسب ) .

( 30 ) المقداد السيوري ، كنز العرفان في فقه القرآن : 2/100 .

( 31 ) اُنظر : صحيفة الثورة البغداديّة ، العدد ( 5991 ) ، 20/10/1986م .

( 32 ) وهو مذهب الشيخ الطوسي في ( الخلاف ) ، بينما يذهب صاحب ( الشرائع ) : 4/170 إلى قتله في الثالثة ، قال : ( وهو المروي ) .

( 33 ) ابن رُشد ، ( م . س ) : 2/436 .

( 34 ) الوسائل : 12/308 ، باب 86 الحديث رقم 2 ، الشيخ الأنصاري ، المكاسب : 3/125 .

( 35 ) المصدر نفسه : 12/ 311 الحديث رقم 12 ، الشيخ الأنصاري ، ( م . ن ) : 3/125 .

( 36 ) الشيخ الأنصاري : ( م . ن ) : 3/126 .

( 37 ) المصدر نفسه : 3/127 .

( 38 ) العلاّمة الحلّي ، ( م . س ) ، اُنظر : مُختلف الشيعة ، ( باب المكاسب المحرّمة ) .

( 39 ) ابن تيميّة ، الحسبة في الإسلام ، ص : 46 و47 .

( 40 ) المصدر نفسه ، ص : 54 .

( 41 ) المحقّق الحلّي ( م . س ) : 5/2 ، الأنصاري ، ( م . س ) : 3/135 ، ابن رشد ، ( م . س ) : 2/210 . الزحيلي ( وهبة ) ، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد .

( 42 ) الميرغيناني ، الهداية : 4/99 ، موسوعة عبد الناصر : 4/38 ، الرملي ، الفتاوى الخيريّة : 2/185 .

( 43 ) الصاوي ( أحمد بن محمّد ) ، بُلغة السالك : 2/294 .

( 44 ) المحقّق النجفي ( محمّد حسن ) ، جواهر الكلام : 38/8 .

( 45 ) الفيّاض ( إسحاق ) ، أحكام الأراضي ، ص : 92 ، اُنظر : أبو عبيد ، الأموال ، ص : 408 .

( 46 ) كاظم ( عبد الأمير ) ، ملامح نظرية الإنتاج ، ندوة التراث ، عدن : 2/12 .

( 47 ) النبهان ( محمد فاروق ) ، الاتّجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي ، ( دكتوراه ) ، ص : 126 .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net