متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
المطلب الثاني : أهمّية عقد الصلح
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

المطلب الثاني : أهميّة عقد الصُلح

يحتلّ مبحث الصُلح وتطبيقاته في الفقه الإسلامي أهمّية متميّزة تفوق أغلب العقود . وذلك :

1 ـ لأنّ الطبيعة الحقوقيّة للفقه الإسلامي تختلف عن تلك الطبيعة للقانون المدني الوضعي ؛ إذ إنّ انتهاء المطالبة أو ردّ الدعوى على أحد الخصوم من قِبل القضاء لا ينهي الحقّ في الفقه الإسلامي ، فالحقّ الثابت يبقى متعلّقاً بالذمّة طالما لم يوفَّ لصاحبه .

ولضمان التصرّفات العقديّة في الفقه الإسلامي بجزأيه : الدنيوي والأُخروي ، فإنّ التملّص من ضرورة ضمان العقد ـ قضاءً ـ لا يسقط القانون الأُخروي للعقد ، قال تعالى : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) [آل عمران : 30] .

لهذا ، فإنّ الصُلح يُعدّ وسيلة من وسائل التخلّص من تعلّق الحقّ بالذمّة ، سواء نشأ هذا التعلّق مع قصد أحد الخصوم في فترة ما عمداً هضْم حقِّ صاحبه وأكْل أمواله بالباطل ، أو نشأ عن ظرفٍ خارجٍ عن إرادة المتعاقدَين ، كالعجز عن إثبات الحقّ بوثيقة أو بالقضاء ، ويمكن الإشارة إلى تفسير مقاصد الشارع من تشريع عقد الصلح ، إلى أنّه وسيلة لإعادة الحقوق غير القاطعة وغير الواضحة إلى أصحابها ؛ انزجاراً من آثار شغْل الذمّة ، أو احتراماً للشرع ، أو حياءً من الله ، أو خشيةً منه ، فلولاه لأصاب الناس حرَج في حالات التوبة وحالات أُخرى تدخل في مسوّغات عقد الصُلح ومقاصده .

2 ـ وفي تشريع الصُلح غرض جماعيّ فوق الأغراض الشخصيّة للمتعاقدَين ؛ وهو أنّه لمّا كان هو الطريق لإعادة الحقوق إلى أصحابها برضا المتعاقدين ، فقد أحلّ الصلح بين الناس الحبّ والودّ ، وساد الأمن والاطمئنان ، وانتهت أسباب الظلم والانتقام ، فالصلح ـ إذن ـ ليس رابطة قانونيّة فحسب ، إنّما في مقاصده يؤدّي إلى روابط اجتماعيّة أساسيّة متينة


الصفحة 198

ووديّة ؛ لأنّه من المفاسد بقاء الحقوق معلّقةً دون حسْم ، وبقاء روح المقاصّة في النفوس ، وتمكّن الانتقام من أن يكون دافعاً للسلوك .

لذلك ، فإنّ مِن جلْب المصلحة ( تشريع الصُلح ) ، ومِن دفْع المفسدة ( إنهاءه للخصومات ) . ويتّضح هذا المقصد ـ في الاستثناء البيّن ـ من القاعدة الأساسية للحقّ في الفقه الإسلامي ، إذ القاعدة هي أنّ كلّ صاحب حقٍّ له أن يأخذ حقّه كاملاً غير منقوص في الصفة والمقدار ، والاستثناء أن يرخّص له الشارع بإسقاط الحقّ كلّه أو جُزئه ، واستيفاء الباقي لمعنى ( إزالة المشقّة في تحقيق ما لا سبيل إلى تحقيقه ) من إقرار الحقوق ؛ لانعدام بيّنة ، أو جهل بمقدار . ومبني على قاعدة ( المشقّة تجلب التيسير ) ، التي هي ضربٌ من ضروب رعاية المصلحة ودرء المفسدة ( 11 ) .

وإذا كان الشارع في مقاصده قد حافظ على الضروريّات ، فإنّ الصُلح ألصق بالمحافظة على المال ، فتضييع المال مفسدة ، وحِفظه على ممتلكيه مصلحة فرديّة واجتماعيّة ، وهو في هذا يشارك بقيّة العقود ، لكنّه يفترق عنها أنّه علاج ما لا تستطيع المواد الفقهيّة الأُخرى علاجه .

3 ـ ويمكننا القول أيضاً : إنّ الصلح يشكّل الصورة الخارجيّة للواجهة القانونيّة لسلوكٍ تندمج فيه القيَم الأخلاقيّة بالقوانين ، وهي السِمة التي تميّز التشريع الإسلامي عن القوانين الوضعيّة ، فالمسلم إذا ثبت له قضائياً ما لا يستحقّه يردّه على صاحبه ، وإذا أعجز خصمه عن إثبات حقٍّ عليه ندَم ورجع عن غيّة ، فيسارع إليه يطلب منه إبراء الذمّة من المشغَل ، بالتصالح ، فإنّ محاولات التحايل على القانون في مجتمع إسلامي تكاد تتلاشى لهذه السِمة الجزائيّة الأُخرويّة .

4 ـ مسألة رابعة مهمّة ، وهي أنّ الصلح يكشف عن أنّ الفقه في المجتمع الإسلامي له من المقاصد ما يحلّ نزاعات الناس على الأموال خارج ساحات القضاء ، فالصُلح ـ مثلاً ـ باب يخفّف كثيراً عن المؤسّسات القضائيّة ، فهو في المجتمع الإسلامي ليس الوسيلة الوحيدة للتوصّل إلى الحقّ ( 12 ) .


الصفحة 199

5 ـ وأخيراً ، يُعَدّ الصلح أحد الطُرق لضمان العقد ، وهو باب من الأبواب التي تدعو إلى الاطمئنان في المعاملات ، وفيه أفضل ضمان للحقوق الهالكة والمتقادمة ( 13 ) .

 

---------------------

(11) ظ : العز بن عبد السلام ، في قواعد الأنام ، ص22 .

(12) عبد الكريم زيدان ، نظام القضاء ، ص9 .

(13) أحمد فهمي أبو سنه ، النظريّات العامّة للمعاملات ، يتصّرف ، ص35 ـ 40 .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net