متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
المطلب الأول:هل ينحصر عقد الصلح في ما ينهي خصومة حاصلة أو متوقعة أم يصح من دون أن تسبقه خصومة؟
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

المبحث الثاني : الفروض الأساسية في عقد الصُلح

عندما يتعرّض باحث لموضوع الصُلح تواجهه أربعة مداخل رئيسة ، يلزمه حسم النزاع فيها ؛ لكي تتشكّل نظريّة الصلح على ترجيحاته لهذه المداخل ، وهي :

1 ـ هل تعتبر الخصومة شرطاً لعقد الصُلح ؟

2 ـ هل الصُلح عقد قائم برأسه ، أمْ هو متفرّع على عقودٍ أُخرى ، أمْ هو عقد مهامّه تصحيح وضع غير قانوني ؟

3 ـ هل تترتّب آثار الصلح في حالات إقرار الخصم وسكوته ، وإنكاره . أمْ تترتّب آثاره فقط إذا كان المدّعى عليه مقرّاً بالحقّ ؟

4 ـ هل يشترط لصحّة العقد أن يكون العوَض عن المدّعى معلوماً معلوميّة تحدّد مقداره وصفاته ، أمْ عموم ما يُدّعى به معلوماً أو مجهولاً ؟

هذه الفروض الأربعة مداخل لو حسَمها البحث ـ ابتداءً ـ لأمكنه أن يُنشئ بعد ذلك مفهوماً واضحاً في بسط فقه الصُلح ؛ لأنّها ممّا اختلف فيه العلماء ، فلا بدّ من عَرْض الآراء وأدلّتها للوصول إلى صياغة قواعد الصلح .

 

المطلب الأوّل : هل ينحصر عقد الصلح في ما يُنهي خصومة حاصلة أو متوقّعة ، أمْ يصحّ من دون أن تسبقه خصومة ؟ .

انقسم الفقهاء إزاء هذه الإشكاليّة إلى فريقين :

1 ـ يرى الأغلب منهم أنّ الأصل والغاية من تشريع عقد الصلح قطْع التجاذب بين المتخاصمَين ، وقد طفحت كتُبهم بهذا التعريف ؛ لذلك قال الفقهاء : إنّ أحكامه لا بدّ أن ترِد على سبب وهو الخصومة ؛ لأنّ ما نسمّيه قاطع التجاذب يلزم أن يكون مسبوقاً به ، إذ إنّ جوازه قائم على إنهاء المنازعات ؛ لذلك فقد حكموا بأنّه لا يصحّ ابتداءً .


الصفحة 205

قال في متْن المنهاج : ( ولو قال من غير سبْق خصومة : صالحني عن دارك بكذا ، فالأصحّ بطلانه ) ( 42 ) ، وعقّب عليه شارح المنهاج ، بقوله : ( لأنّ لفظ الصُلح يستدعي سبْق الخصومة ، سواء أكانت عند حاكمٍ أمْ لا ) (43) .

2 ـ ويرى غيرهم أنّ عقد الصلح عقدٌ عامّ مشرَّع لتصحيح أوضاع غير قانونيّة ، قضاءً أو ديانةً ، يسعى المَدين ( مَن عليه الحقّ ) إلى إبراء ذمّته منها ، أو يسعيان معاً للوصول إلى الإبراء وتصفية تعلّق الحقوق بذمّتيهما أو ذمّة أحدهمـا ، سواء سبقت العقد خصومة أمْ لا .

وقد ناقشوا أدلّة الفريق الأوّل بأدلّة متعدّدة أبرزها :

أ ـ إنّه لا يلزم من استنباط غاية المشرّع في أنّ الصُلح يسعى إلى إنهاء الخصومة أو قطْعها ، تعليق صحّة الصلح في ما قطعها ؛ لأنّ القواعد الحكمية لا يجب فيها الاطّراد ، ومثّلوا لذلك بقوله تعالى في وصف الجنّة أنّها ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) [آل عمران: 133] ، فهذا لا ينافي دخول غير المتّقين فيها ، ومثّلوا له أيضاً بأنّ مشروعيّة العدّة ،  بوصفها لاستبراء الرَحِم ، تلزم المطلّقة المدخول بها ، وإن فارقها قبل الطلاق بسنين ، وتلزم غير المدخول بها ، وتلزم الصغيرة واليائس ؛ لأنّ العدّة حُكم شرعيّ وُجد للأغلب ، فكذا الصلح ، فإنّه طريق وُجد للأغلب أنّه ممّا يقطع الخصومة ، فلا ينبغي أن تكون ( مقاصده الغالبة ) ركناً في صحّته ، ومثّلوا له كذلك بالسفر في كونه علّة في قصر صلاة المسافر ، فالقصْر ثابت في السفر سواء صاحبَته مشقّة أمْ لا ( 44 ) .

لذلك نجد صاحب ( الجواهر ) يعلّق على ذلك بقوله : ( إنّ الصلح من الأحكام التي لا تقتضي تخصيصاً أو تقييداً ؛ لعموم الدليل أو إطلاقه ، ممّا يقتضي ثبوت حُكم الدليل في محلّه وفي غير محلّه ) ( 45 ) .

ب ـ إنّ الأدلّة الدالّة على اعتباره موضوعاً لقطع التنازع ، كقول الله تعالى : ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً )  [النساء : 128] ، الذي فيه تصريح بعدم حصول المنازعة ، إنّما توقّع حصولها ، والمتوقّع غير حاصل


الصفحة 206

فعلاً ، فربّما يحصل وربّما لا يحصل ، فهو هنا معدوم ، فلمّا جاز الصلح على خصومةٍ معدومة جاز مطلقاً .

3 ـ ما دلّ على مشروعيّته بإطلاق ، كقوله تعالى : ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) [النساء : 128] ، أو قول الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( الصُلح جائز ) ، والإطلاق يقتضي عدم التقييد ، والقيد بلا دليل شرعيّ زيادة على النصّ لا يلزم اعتباره شرطاً في الصحّة ، فحيث ثبتت شرعيّته مطلقاً لإطلاق الأدلّة ، فلا فرصة لتقييده .

4 ـ ويرى أصحاب هذا الرأي أيضاً أنّ مشترطي الخصومة تمسّكوا بتعريفات العلماء له ، والحال أنّ التعريف غير متلقّى من الشارع ، فليس هو حقيقة شرعيّة . يقول المقداد السيوري : ( إنّ شرط إنهائه لخصومة اعتُبر جرْياً وراء مقتضى التعريف ، وهو لا يعدو أن يكون الغرض الأقصى من تشريع الصلح لا كلّ أغراضه ومقاصده ) ( 46 ) .

ولهذه الأدلّة ، فإنّهم يرون أنّ موضوعه سيتّسع لِما تسبقه خصومة حاصلة أو متوقّعة ، ويدخل في مجالاته ما يراد به تصفية لحقوق معلّقة غير مبتوت بها . وندرة هذا القسم لا تمنع من صحّة العقد كما هو مقتضى الإطلاق .

أمّا فقهاء القانون الوضعي ، فيرون أنّه إن لم يكن هناك نزاع قائم أو محتمل ، فلا يكون العقد صلحاً ؛ تمسّكاً بنظريّة السبب في العقود ، ويرونه في غير إنهاء الخصومة إبراء .

ويرون أنّ أيّةَ مشارطة ليس موضوعها حقوقاً متنازعاً عليها لا تسري فيها أحكام الصلح ( 47 ) .

 ومن الثمرات التي تترتّب على ذلك : أنّ الصلح لمّا كان مشروعاً لحسم النزاع ، فلا يجوز في العقود الصلحيّة أن تخلق نزاعاً آخر ؛ لذلك يرون أنّ من آثاره أنّه يحسم المنازعات التي يتناولها ، وبه تنقضي الحقوق والدعاوى التي يتنازل عنها كلّ من المتعاقدَين تنازلاً نهائياً ( 38 ) .


الصفحة 207

رأي الباحث :

 يرى الباحث أنّ فقهاء القانون الوضعيّ بنَوا إلزامهم سبْق الخصومة كشرطٍ لصحّة عقد الصلح على نظريّتهم في السبب ، فهم يرون أنّ لكلّ عقدٍ سبباً ، والسبب عندهم ركنٌ في العقد إلى جانب التراضي والمحل ، ويرون أنّ سبب عقد الصلح نيّة المتعاقدَين المنعقدة على إنهاء النزاع أو توَقّيه ، إلاّ أنّ نظريّة السبب في الفقه الإسلاميّ متروكة للنيّة والقصد ، وهي بهذا القدَر لا تكون ركناً في ماهيّة العقد من جهة ، ومن جهةٍ أُخرى فإنّ القصد المشروع ( النيّة الحسنة ) موجود ؛ لأنّ تسوية الحقوق قبل حصول الخصومة قصد صحيح ، إذن حتى اعتبار السبب بمعنى القصد يصحّ شرعاً ؛ وعليه فالعقد ينعقد صحيحاً ( * ) .

أمّا تفرقة أهل القانون من أنّ التصرّف من دون خصومة يسمّونه إبراءً ، فهو تعميم يرى أنّ الفقه أدقّ بكثير منه ؛ إذ الإبراء عندهم هو إسقاط شخص حقّاً له في ذمّة آخر ، وهو  إسقاط لكلّ الحقّ من دون عوَض ، أو إقرار باستيفاء الحقّ أمام القضاء ، وإسقاط المطالبة به أبداً .

بينما الصُلح إمّا كليّ أو جزئيّ ، بعوَضٍ أو من دون عوَض ، وكلاهما في الفقه الإسلاميّ يصحّ بعد الخصومة أو قبلهـا ، وإنّ ما يبيّن اشتباه أهل القانون في ذلك أنّهم يُجيزون في الصلح ما يسمّونه التعاقدي ، وهو الصلح خارج المحكمة ، ويجيزون انعقاده ابتداءً ، فكيف يعلّقونه على خصومة ؟ وأرى أنّ ذلك لقوّة أدلّة الفريق الثاني من الفقهاء في اعتباره صحيحاً سبقَته خصومة أمْ لا .

ــــــــــــــــــــــــ

( * ) لا بدّ هنا من توضيح أنّ الفقهاء المسلمين لم يجعلوا من السبب ركناً في العقد ، وهُم وإن علّقوا صحّة العقد على نيّة العاقد  ديانةً ، إلاّ أنّهم لم يأخذوا بنظريّة السبب كرُكن في ماهيّة العقود ، كما هُم أهل النظريّة التقليديّة في القانون ، فما يسمّونه بالسبب الباعث يُطلق عليه الفقهاء بالقصد ، كما فعل أهل القانون ، فإنّ أصحاب النظريّة الحديثة يركّزون على الباحث بدل السبب المادّي ، ومعيار الباعث شخصيّ ، وهو خارج عن العقد ، ويتغيّر بتغيّر العقود والعاقد ، وبذلك تسير النظريّة الحديثة في السبب نحو ما قرّره الفقهاء المسلمون .


الصفحة 208

وإنّ حصره فيها معارَض بمقاصد الشريعة التي توسّع الباب ؛ لكي تحيط أحكامها بالواقعات الكثيرة .

ولأنّ أدلّته عامّة ومطلقة ، لم يقمْ الاعتبار الشرعيّ للدليل المخصّص أو للقيد ، ولأنّي أرى أنّ السبب الذي يكمن وراء عقد الصلح هو تحقيق التراضي عموماً ـ سواء بخصومة أم بغير خصومة ـ أعتقد أنّ تضييقه لا ينسجم مع طبيعة الشريعة ومقاصدها .

ومَن زعم أنّه يتحرّز بهذا الشرط عن انعقاده ابتداءً ، احتيالاً على التشريع ، لإجراء معاملة غير شرعيّة أو تعليقها على شرط مفسِد ، فهذا أجنبيّ عن الموضوع ؛ لأنّ الافتراض المركزيّ أنّ الفقه الإسلاميّ شريعة المؤمنين ، ولأنّ الفقهاء اشترطوا لصحّة العقد سلامة القصد ، فهو بهذه الحالة وإن صحّ قضاءً لا يصحّ ديانةً .

 

-----------------

(42) النووي ، متن المنهاج : 2/178 .

(43) الشربيني ، مغني المحتاج في شرح المنهاج : 2/178 .

(44) محمّد جواد العاملي ، مفتاح الكرامة ، ص454 .

(45) محمّد حسن النجفي ، جواهر الكلام : 26/210 .

(46) المقداد السيوري ، كنز العرفان : 3/77 .

(47) ظ : المادّة 549 من القانون المصري .

(48) السنهوري ، مصادر الحقّ : 6/223 ، اُنظر كذلك : الوسيط في شرح القانون المدني ، 5/508 ، أحمد محمّد إبراهيم ، القانون المدني ، شرح المادة 549 من القانون المدني المصري .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net