متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
سلمان المحمَّدي
الكتاب : شخصيات ومواقف    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

سلمان المحمَّدي

وأمَّا في صدر الإسلام .. فشخصيَّة ( سلمان الفارسيّ ـ المحمّدي ـ ) تأتي في طليعة الباحثين عن الحقيقة ، والمُقتفين آثارَ النبوَّة عِبر مئات السنين ، في رحلةٍ شاقـَّةٍ هرب فيها مِن أجواء الشرك . دعونا نقرأ قصَّة سلمان وهو يحكيها لعبد الله بن عبّاس ، قائلاً له :

كنت رجلاً مِن أهل أصفهان مِن قريةٍ يُقال لها : ( جي ) ، وكان أبي دهقان قومه ( 1 ) ، وكان يُحبُّني حُبَّاً شديداً .. يحبسني في البيت كما تُحبس الجارية . وكنت صبيَّاً لا أعلم مِن أمر الناس إلاَّ ما أرى مِن المجوسيَّة ، حتَّى إنَّ أبي بنى بُنياناً وكان ضيعة ، فقال : يا بُنيّ ، شغلني مِن اطِّلاع الضيعة ما ترى ، فانطلقْ إليها ومُرْهم بكذا وكذا ، ولا تحبس عنِّي ( 2 ) .

فخرجت أُريد الضيعة ، فمررت بكنيسة النصارى فسمعتُ

ـــــــــــــــــــــ

1 ـ الدِّهقان : رئيس القرية ، ورئيس الإقليم ، ومَن له مال وعقار ، والتاجر ، ومَن كان قويَّاً على التصرُّف مع شِدَّة خُبرة .

2 ـ في نسخة أُخرى: ولا تحتبسْ عنِّي .  


الصفحة 30

أصواتَهم ، فقلت : ما هذا ؟! قالوا : هؤلاء النصارى يُصلُّون ، فدخلتُ أنظر ، فأعجبني ما رأيت مِن حالهم . فو الله ، ما زلت جالساً عندهم حتَّى غربت الشمس ، وبعث أبي في طلبي في كلِّ وجه ، حتَّى جئتـُه حين أمسيت ولم أذهب إلى ضيعته . فقال أبي : أين كنت ؟ قلت : مررت بالنصارى فأعجبني صلاتُهم ودعاؤهم . فقال : أيْ بُنيّ ، إنَّ دين آبائك خير مِن دينهم ، فقلت : لا والله ، ما هذا بخير مِن دينهم ، هؤلاءِ قوم يعبدون اللهَ ويَدْعونه ويصلُّون له ، وأنت إنِّما تعبد ناراً أوقدتَها بيدك ، إذا تركتَها ماتت .

فجعل في رُجلي حديداً وحبسني في بيتٍ عنده ، فبعثتُ إلى النصارى فقلت : أين أصْل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام ، قلت : إذا قدِم عليكم مِن هناك ناس فأْذنوني ، قالوا : نفعل . فبعثوا بعدُ أنَّه قَدِم تُجَّار ، فبعثتُ إذا قضَوا حوائجهم وأرادوا الخروج فأْذنوني به . قالوا : نفعل .

ثمَّ بعثوا إليَّ بذلك ، فطرحتُ الحديدَ مِن رُجْلي وانطلقتُ معهم ، فلمَّا قدِمتُ إلى الشام قلت : مَن أفضل هذا الدين ؟ قالوا : الأسقف صاحب الكنيسة . فجئت فقلت : إنِّي أحببتُ أنْ أكون معك وأتعلَّمَ منك الخير . قال : فكنْ معي . فكنت معه .. وكان رجل سوء ، يأمرهم بالصدقة ، فإذا جمعوها اكتنزها ولم يُعطها المساكين منها ولا بعضها . فلم يلبث أنْ مات ، فلمَّا جاؤوا أنْ يدفنوه قلتُ : هذا رجل سوء !


 الصفحة 31

ونبَّهتُهم على كنزه ، فأخرجوا سبع قِلال مملوَّة ذهباً ، فصلبوه على خشبة ورمَوه بالحجارة ، وجاءوا برجلٍ آخر فجعلوه مكانه .

فلا والله ـ يا ابن عبّاس ـ ما رأيت رجلاً قطُّ أفضلَ منه ، وأزهدَ في الدنيا ، وأشدَّ اجتهاداً منه ، فلم أزلْ معه حتَّى حضرتْه الوفاة ، وكنت أُحبُّه ، فقلت : يا فلان ، قد حضرك ما ترى مِن أمر الله ، فإلى مَن تُوصي بي ؟ قال : أيْ بُنيّ ، ما أعلم إلاَّ رجلاً بالموصل ، فأْتِه فإنَّك ستجده على مثْل حالي . فلمَّا مات وغُـيِّب .. لحقت بالموصل ، فأتيته فوجدته على مثل حاله مِن الاجتهاد والزُّهادة ، فقلت له : إنَّ فلاناً أوصى بي إليك ، فقال : يا بنيّ ، كُنْ معي . فأقمتُ عنده حتَّى حضرتـْه الوفاة ، قلت : إلى مَن توصي بي ؟ قال : ما أعلم إلاَّ رجلاً بـ ( عَمُّوريَّة ) مِن أرض الروم ، فأتهِ فإنَّك ستجده على مثل ما كنَّا عليه . فلمَّا واريتُه خرجت إلى ( عَمُّوريَّة ) فأقمت عنده فوجدته على مثل حالهم ، واكتسبتُ غـُنيمةً وبقرات ، إلى أنْ حضرته الوفاة ، فقلت : إلى مَن توصي بي ؟ قال : لا أعلم أحداً على مثل ما كنَّا عليه ، ولكنْ قد أظلَّك زمانُ نبيٍّ يُبعَث مِن الحرم ، مَهاجره بين حرَّتين إلى أرضٍ ذات سبخة ذات نخل ، وإنَّ فيه علاماتٍ لا تخفى : بين كتفَيهِ


الصفحة 32

خاتَم النبوُّة ، يأكل الهديَّة ، ولا يأكل الصدقة ، فإنْ استطعت أنْ تمضيَ إلى تلك البلاد فافعل .

فلمَّا واريناه أقمت حتَّى مرَّ رجال مِن تُجَّار العرب مِن كلب ، فقلت لهم : تحملوني معكم حتَّى تُقدِّموني أرضَ العرب وأُعطيكم غـُنيمتي هذه وبقراتي ؟ قالوا : نعم . فأعطيتهم إيَّاها ، وحملوني ، حتَّى إذا جاءوا بي وادي القُرى ظلموني وباعوني عبداً مِن رجلٍ يهوديٍّ . فواللهِ ، لقد رأيت النخل وطمعت أنْ يكون البلدَ الذي نعتَ لي فيه صاحبي . حتَّى قَدِم رجل مِن بني قريظة مِن يهود وادي القُرى ، فابتاعني مِن صاحبيَ الذي كنت عنده ، فخرج حتَّى قَدِم بيَ المدينة . فوالله ، ما هو إلاَّ أنْ رأيتها وعرفت نعتها ، فأقمت مع صاحبي ، وبعث اللهُ رسولَه بمَكَّة لا يُذكَر لي شيء مِن أمره ، مع ما أنا فيه مِن الرِقِّ .

حتَّى قَدِم رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) ( قِبا ) ، وأنا أعمل لصاحبي في نخلٍ له . فوالله ، إنِّي لكذلك .. إذ جاء ابن عمٍّ له فقال : قاتل الله بني قيلة ( 1 ) . والله ، إنَّهم لفي ( قِبا ) يجتمعون على رجلٍ مِن مَكَّة يزعمون أنَّه نبيٌّ . فواللهِ ، ما هو إلاَّ قد سمعتها فأخذتْني الرعدة حتَّى ظننتُ لأسقطنَّ على صاحبي ، ونزلتُ أقول : ما هذا الخبر ؟! ما هو ؟! فرفع مولاي يدَه فلكَمني ، فقال : مالك ولهذا ؟ أقبِل على عملك .

فلمَّا أمسيت .. وكان عندي شيء مِن طعام ، فحملته وذهبتُ إلى

ــــــــــــــــ

1 ـ قيلة : أُمُّ الأوس والخزرج .


الصفحة 33

رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) بـ ( قِبا ) فقلت : بلغني أنَّك رجل صالح ، وأنَّ معك أصحاباً ، وكان عندي شيءٌ مِن الصدقة فها هو ذا ، فكُلْ منه . فأمسك رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) فقال لأصحابه : ( كُلوا ) . ولم يأكل ، فقلت في نفسي : هذه خِلَّة ممَّا وصف لي صاحبي ، ثمَّ رجعت وتحوَّل رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) إلى المدينة ، فجمعت شيئاًً كان عندي ، ثمَّ جئتهُ به فقلت : إنِّي قد رأيتك لا تأكل مِن الصدقة ، وهذه هديَّة وكرامة ليست مِن الصدقة . فأكل رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) وأكل أصحابه ، فقلت : هاتان خِلَّتان . ثمَّ جئتُ رسولَ الله ( صلَّى الله عليه وآله ) وهو يتْبع جَنازة وعليه شَملتان ، وهو في أصحابه ، فاستدرت به لأنظر إلى الخاتم في ظهره ، فلمَّا رآني رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) استدبرته عرفَ أنِّي أستثبت شيئاً قد وُصِف لي ، فرفع رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتَم بين كَتْفَيهِ كما وصف لي صاحبي ، فأكببتُ عليه أُقبِّله وأبكي . فقال : تحوَّلْ يا سلمان هنا . فتحوَّلت وجلست بين يديه ، وأحبَّ أنْ يُسمع أصحابُه حديثي عنه ، فحدَّثته ـ يا ابن عبَّاس ـ كما حدَّثتك .. ( 1 ) .

ثمَّ كاتبه النبيُّ الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) ، وكان الرقُّ قد حبس سلمانَ حتَّى فاته مع الرسول ( صلَّى الله عليه وآله ) بدرٌ وأُحد ، ثمَّ إذا عُتق لم يفتـْه معه مشهد مِن الخندق ( معركة الأحزاب ) فما بعدها .

وانطلق سلمان ( رضي الله عنه ) يدعو إلى الإسلام ويُجاهد دونه ، ويروي عن

ـــــــــــــــــــ

1 ـ بحار الأنوار 22 : 362ـ365 ، عن قَصص الأنبياء للراوندي .  


 الصفحة 34

المُصطفى الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) ، ويُبيّن حقائق الدين ومعالمَه . وقد مَثَّـل الإنسانَ الباحث عن الحقيقة ، والرجلَ الذي شدَّ ركائبه إلى الله تعالى في رحلةٍ روحيَّة ، امتدَّت مِن صباه حتَّى كُهولته وحتَّى وفاته .

وكانت عيناه تبحث عن معالم الحقِّ ، وكان قلبه يهفو إلى أنوار اليقين ، وكانت قدماه في سفرٍ نحو موطن الهُدى ، حتَّى التقى بالمُصطفى ( صلَّى الله عليه وآله ) .. فآمن به ، ولم يؤمن على عَمى ، بلْ تقصَّى الأخبار ، واقتفى الآثار ، وتحقَّق في الأُمور ، فإذا تيقـَّن انكبَّ على عَتبة الإيمان يتلو : أشهد أنْ لا إله إلا الله ، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله . شهادةً انطلقت مِن أعماق عقله ووسط قلبه ، ومِن كلِّ ضميره .

فواكب الرسالة حتَّى انغمر فيها ، وصاحب رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) حتَّى أُشرِب مودَّته ومودَّة قُرباه ، وتثبَّت على الولاية حتَّى عُدَّ مِن أركان الإسلام مع أبي ذَرٍّ والمُقداد وعمَّار . ولم يخرج مِن الدنيا إلاَّ بسيرة محمودة تتمثَّـلها الأجيال إعجاباً واقتداءً ، وهو الذي قال فيه نبيُّنا الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( سلمانُ مِنَّا أهل البيت ) ( 1 ) .

ـــــــــــــــــــ

1 ـ بحار الأنوار 22 : 326 عن عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) للشيخ الصدوق . والاحتجاج ، لأبي منصور الطبرسيّ: 260.


الصفحة 35


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net