متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
يزيد بن معاوية
الكتاب : شخصيات ومواقف    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

يزيد بن معاوية

أمَّا أبوه .. فاشتهر أنَّه معاوية ، وأمَّا الأُمُّ .. فميسون ، ومَن هي ميسون يا تُرى ؟!

هي امرأة مِن بني كلب ، وأبوها شيخ كلب كان يُسمَّى ( بجدل ) ، وكان له عبدٌ له اسمه ( سفَّاح ) ، وقد زنى سفَّاح بميسون وهي بنت فحَملت منه ، ثمَّ حُملت إلى معاوية فوجدها ( ثَيِّباُ ) . فكان بينهما ما كان ، حتَّى نظمت ميسون أبياتاً مِن الشعر ، تُعرِب فيها عن رغبتها في العودة إلى أهلها وديارها .

فطلَّقها معاوية وأرسلها إلى ( حُوَّارين ) فوضعت حملها ، وقيل : وضعت ولداً فأسماه معاويةُ ( يزيد ) على اسم أخيه يزيد بن أبي سفيان .

ــــــــــــــــــ

( 1) سمَّته امرأته جعدة بنت الأشعث بتدسيس معاوية ، وكان وعدها بأنْ يزوِّجها مِن يزيد ( الاستيعاب لابن عبد البر 1 : 143 ) ( منه ) .

( 2 ) شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي ، بقلم محمود أبو ريَّة : 157 ـ 158 .  


الصفحة 107

هكذا جاء في ( تجارب السَّلَف ) للعالم السُّنِّي ( هندوشاه بن سنجر بن عبد الله صاحبي ) ـ وهو مِن أعلام القرن الثامن الهجري ـ فقد أورد هذه الأخبار على الصفحة 66 ، ثمَّ قال بعد ثلاث صفحات : وإلى هذا أشار النسَّابةُ الكلبيّ بقوله :

فإنْ يكنِ الزمانُ أتى علينا   بقتل التُّرك والموتِ الوَحِيِّ

فقد قتل الدعيُّ وعبدُ كلبٍ   بأرض الطفِّ أولادَ النبـيِّ

ومُراده بـ ( عبد كلب ) يزيدُ بن معاوية ؛ لأنّه مِن عبد بجدل الكلبيّ .

 

نشأة يزيد :

فـ ( يزيد ) وُلِد في حُوَّارين لأبوين .. ولكنْ كيف نشأ في ديار حوّارين ؟ تنقل لنا كتبُ التاريخ أنَّ حُوَّارين مسيحيَّة الأجواء ، فنشأ فيها يزيد مع النصارى بعيداً عن نفحات الإسلام ، ولم يبقَ في دمشق إلاَّ أيَّاماً قليلة ( 1 ) ، وإنَّما ذهب إليها بعد هلاك أبيه معاوية ( 2 ) بعشرة أيَّام ( 3 ) ، فوجده مدفوناً فصلَّى على قبره ( 4 ) .

ـــــــــــــــــــ

1 ـ معاوية بن أبي سفيان وعصره ، لعمر أبو النصر : 282 .

2 ـ الفتوحات المَكِّيَّة ، لابن عربي 4: 265 .

3 ـ دائرة معارف القرن العشرين ، لمحمد فريد وجدي 4: 771 .

4 ـ الكامل في التاريخ 3: 49 .


الصفحة 108

وهنا نترك القلم للبعض يُنصفون يزيدَ بن معاوية في الحديث حول نشأته :

كتب ( عبد الله العلايليّ ) : إذا كان يقيناً أو يُشبه اليقين .. أنَّ تربية يزيد لم تكن إسلاميَّةً خالصة ، أو بعبارة أُخرى : كانت مسيحيَّة خالصة ، فلم يبقَ ما يُستغرَب معه أنْ يكون مُتجاوزاً مُستهتراً مُستخفَّاً بما عليه الجماعة الإسلاميَّة ، لا يحسب لتقاليدها واعتقادها أيَّ حساب ، ولا يُقيم لها وزناً . بلْ الذي نستغربه أنْ يكون على غير ذلك ( 1 ) .

وكتب عمر أبو النصر : أمَّا أُستاذ يزيد ـ أو أساتذته إذا كانوا غير واحد ـ فإنَّهم مجهولون ، وقد أسف ( لامنس ) المُستشرق اليسوعيّ لهذا النقص التاريخيّ ( 2 ) ؛ لأنَّه يعتقد أنَّ أُستاذ يزيد لا يبعُد أنْ يكون مسيحيَّاً مِن مشارقة النصارى ( 3 ) .. خصوصاً يزيد نفسه قد كلَّف كاهناً مسيحيَّاً بتثقيف ولده ( خالد ) ، وهذه ظاهرة تُروِّج إلى أنَّه قد يكون تلقَّى العلم عند واحدٍ منهم ( 4 ) .

ـــــــــــــــــــــ

1 ـ الإمام الحسين ( عليه السلام ) أو سموُّ المعنى في سموُّ الذات : 59 .

2 ـ معاوية بن أبي سفيان : 359 .

3 ـ يزيد بن معاوية فرع الشجرة الملعونة في القرآن ، للأُستاذ أحمد المَكِّيّ : 74 .

4 ـ تاريخ الآداب العربيَّة ، بقلم المُستشرق ( هوار ) : 61 . وتاريخ الفلسفة في الإسلام ، بقلم المُستشرق ت . ج دي بور ( جامعة امستردام )، ترجمة : الدكتور أبو ريده : 7 . ومعاوية بن أبي سفيان : 190 .


الصفحة 109

أمَّا أصحاب يزيد .. فلا بُدَّ أنَّهم مِن ديار حُوَّارين ، مِن النصارى ونُدماء مجالس الخمر واللهو والمجون . دعونا نقرأ ما دوَّنه أبو الفرج الإصبهانيّ ، حيث كتب :

إنَّ يزيد كان يُنادم ( الأخطل ) الشاعر المسيحيَّ الخليع ، فكانا يسمعان معاً الغناء ، وكانا يشربان معاً الخمر . وإذا أراد يزيد السفر صحِبَه معه .

( والأخطل عليه جُبَّة خَزّ ، وفي عنقه سلسلة مِن ذهب ، والخمر يقطرُ مِن لحيته ) ( 1 ) .

ونترك ـ هنا ـ تعليلَ السبب في دفاع النصارى ـ أمسِ واليوم ـ عن يزيد .. نتركه للأُستاذ عمر أبو النصر ، حيث كتب يقول :

لقد حاول مُستشرقو ( الفرنجة ) في كثيرٍ مِن البراعة والبيان ـ وما يزالون يُحاولون ـ الانتصاف ليزيد بن معاوية ، والتلويحَ إلى حِلمه وأدبه وعلمه وسياسته ولياقته .. وغيرِ ذلك مِن الفضائل ، التي أنكرها عليه مُؤرِّخو العرب .

وقد كان أكثرَهم حرارةً في ذلك الأبُ ( لامنس ) اليسوعيّ .

ثمَّ قال أبو النصر : ولكنَّ إغراق المُستشرقين لا يُنكر ، ونَصفتهم ليزيد بعيدة كلَّ البعد عن الحقيقة الواقعة .. ( 2 ) .

ـــــــــــــــــــ

1 ـ الأغاني 7 : 17 .

2 ـ معاوية بن أبي سفيان : 197 ـ 198 .


الصفحة 110

ولعلَّ أحد أدلَّة ما ذهب إليه أبو النصر .. ما دوَّنه ابن كثير في تاريخه ، حيث كتب بصريح العبارة : كان يزيد صاحبَ شراب ، فأحبَّ معاوية أنْ يَعِظَه في رفق ، فقال له : يا بُنَيَّ ، ما أقدرَك على أنْ تصلَ حاجتك مِن غير تهتُّك يذهب بمرؤمتك وقَدْرك ، ويشمت بك عدوَّك ، ويُسيء بك صديقَك . ثمَّ قال : يا بُنيّ ، إنِّي مُنشِدُك أبيتاً فتأدَّبْ بها واحفظْها . فأنشدَه :

انـصبْ  نهارَك في طِلاب iiالعُلى       وأصبرْ على هجر الحبيبِ القريبْ
حـتَّى إذا الـليل أتـى iiبـالدُّجى       واكـتحلتْ  بالغُمضِ عينُ الرقيبْ
فـبـاشِرِ  الـليلَ بـما iiتـشتهي      فـإنَّـما الـليلُ نـهارُ iiالأريـب
كــمْ فـاسـقٍ تـحسَبُه iiنـاسكاً      قـد بـاشرَ الـليلَ بـأمرٍ عجيب
غـطَّـى عـليه الـليلُ iiأسـتارَهُ       فـبات فـي أمنٍ وعيشٍ iiخصيب
ولــذَّة  الأحـمـقِ iiمـكـشوفةٌ      يسعى بها كـلُّ عدوٍّ iiمُريب ( 1 )

ــــــــــــــــــــ

1 ـ تاريخ ابن كثير 8 : 228 .


الصفحة 111

ثمَّ كتب ابن كثير بعد صفحتين فقط : وكان فيه أيضاً ـ أيْ : في يزيد ـ إقبالٌ على الشهوات ، وترك بعض الصلوات .

سيرته :

ونتركها لأقلام التاريخ تروي أخبارها ، متجنبِّين التعليق عليها :

* أخرج الطبريّ عن المنذر بن الزبير أنَّ يزيد بن معاوية بعث إليه بمئة ألفٍ ليشتري منه دْينَه ، ويُبايعه لأجلها . فأخذ المنذرُ المالَ وخطب في أهل المدينة وقال ـ فيما قال ـ : إنَّه أجازني بمئة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أنْ أُخبركم خبره .. واللهِ ، إنّه لَيشرب الخمر . واللهِ ، إنَّه ليسكر حتَّى يدعَ الصلاة ( 1 ) .

* وذكر المؤرِّخون أنَّ يزيد بن معاوية كان كَلِفاً بالصيد لاهياً به ، وكان يُلبِس كلابَ الصيد الأساورَ مِن الذهب والخِلالَ المنسوجة منه ، ويهَب لكلِّ كلبٍ عبداً يخدمه ( 2 ) .

* كتب المسعوديّ : وكان يزيد صاحبَ طربٍ وجوارح وكلاب ، وقرود وفهود ، ومُنادمةٍ على الشراب . وحَبَس ذات يوم على شرابه ـ وعن يمينه ابن زياد ـ وذلك بعد قتل الحسين ، فأقبل على ساقِية فقال :

ــــــــــــــــ

1 ـ تاريخ الطبريّ 4 : 368 . ويُراجع أيضاً : الكامل في التاريخ 4: 45 ، وتاريخ ابن كثير 8: 216 .

2 ـ الفخري : 45 .  


الصفحة 112

اسقِني شَرْبَةً تُرِّوي مُشاشي    ثمَّ مِلْ فاسْقِ مِثلَها ابنَ زيـادِ
صاحبَ السرِّ والأمانةِ عندي     ولـتسديد مَغنـمي وجهادي

وغلب على أصحاب يزيد وعمَّاله ما كان يفعله مِن الفسوق . وفي أيَّامه ظَهَر الغناء بمَكَّة والمدينة ، واستُعملت الملاهي ، وأظهر الناس شرب الشراب ، وكان له قردٌ يُكنَّى بأبي قيس ، يُحضِره مجلسَ مُنادمته ويُطرَح له مُتَّكأً ...

وليزيد وغيره أخبار عجيبة ، ومثالب كثيرة ، مِن : شرب الخمر ، وقتل ابن بنت الرسول ، ولَعْن الوصيِّ ، وهدم البيت وإحراقه ، وسفك الدماء ، والفسق والفجور .. وغير ذلكِ ممَّا قد ورد فيه الوعيد باليأس مِن غفرانه ، كوروده فيمن جحد توحيده وخالف رسُلَه ( 1 ) .

وقال البلاذريّ : كان ليزيد بن معاوية قرد يجعله بين يديه ، ويُكنِّيه ( أبا قيس ) ويقول : هذا شيخ مِن بني إسرائيل أصاب خطيئةً فمُسخ . وكان يسقيه النبيذَ ويضحك ممَّا يصنع . وكان يحمله على أتانٍ وحشيَّةٍ ويُرسلها مع الخيل فيسبقها ، فحمله يوماً وجعل يقول :

تمسَّكْ أبا قيس بفضل عنانها      فليس عليها إنْ سقطتَ ضمانُ

ـــــــــــــــــــ

1 ـ مروج الذهب 3: 77 ـ 81 ، مِن فصل : ذكرْ لُمع مِن أخبار يزيد وسيره ، ونوادر مِن ( بعض ) أفعاله .


الصفحة 113

ألا مَن رأى القردَ الذي سبقَتْ به      جـياد أمـير الـمؤمنين iiأتـانُ( 1 )

ويروي الزبير بن بكّار ذلك على نحو مِن التفصيل ، فيقول :

كان يزيد بن معاوية في مجونه نادم قرداً ، فأخذه يوماً فحمله على أتانٍ وحشيَّة ، وشَدَّ عليها رباطاً ، ثمّ أرسل الخيل في إثْرها حتَّى كسرتها فماتت الأتان ، فقال في ذلك يزيد :

تمسَّكْ  أبا قيس بفضل iiعنانها      فليس عليها  إنْ هلكتَ ضمانُ
فما فعلَ الشيخُ الذي سبقَتْ iiبه      جـيادَ  أمـير المؤمنين iiأتانُ

وبذلك سبَّه أبو حمزة في خُطبته حين يقول : خالفَ القرآن ، واتَّبع الكُهَّان ، ونادم القرد ، وفعل ما يُشبهه ، حتَّى مضى لسبيله لعنه الله ! ( 2 )

وقد ذاع بين الناس هيام يزيد وشغفه بالقرود ، حتَّى لقَّبوه بها ، ويقول رجل مِن تنوخ هاجياً له :

يـزيد  صديق القرد مَلَّ iiجوارنا      فـحنَّ  إلـى أرض القرودِ iiيزيدُ
فـتبَّاً لِـمَن أمـسى علينا iiخليفةً      صحابته الأدنَونَ منه قرودُ ( 3 )

ــــــــــــــــــــ

1 ـ أنساب الأشراف 4: 1 . ويُراجع أيضاً : مروج الذهب 3 : 67 ـ 68 .

2 ـ الأخبار الموفقيَّات 346 .

3 ـ أنساب الأشراف 4: 2 .


الصفحة 114

* وأكثر شعر يزيد في الخمر والغناء ، مثل قوله :

مـعشرَ  الـندمان قـوموا     واسـمعوا صوتَ iiالأغاني
واشـربـوا كـأس iiمُـدامٍ      واتركوا ذكْر المثاني ( 1 )
شـغـلتْني نـغمةُ iiالـعي      دانِ عـن صـوتٍ iiالأذانِ
وتـعوَّضتُ  مِـن iiالـحو      ر  عـجوزاً فـي الـدنان

ِ وقوله :

عـليَّة  هاتي واعْلِني iiوترنَّمي      بـذلك  إنِّـي لا أُحبُّ iiالتناجيا
ألا هاتِ سقّيني على ذات قهوةٍ      تـخيّرها  العنسيّ كرماً iiشآميا
إذا  مـا نظرنا في أُمورٍ قديمةٍ     وجدنا حلالاً شربها iiمتوالي( 2 )

* وروى الطبريّ مِن شعر ابن عرادة أنَّ يزيد كان شرَّيباً للخمر طوال حياته ، وقد مات بين كأس الخمر وزقِّ الخمر ، وبين المُغنِّية وآلة الطرب .. وقد قال :

أ بَني أُميَّةَ إنَّ آخر مُلككم   جـسدٌ بحُوَّارينَ ثَمَّ مُقيـمُ

طرقتْ منيَّته وعند وسادِه   كوب وزقُّ راعفٌ مرثومُ

ومرِئّة تبكي على نشوانه   بالصنج.. تقعدُ تارةً وتقومً

والزقُّ : قِربة الخمر ، وراعف مرثوم أيْ مفتوح لم يُغلق . أمَّا المرئَّة فهي المُغنِّية التي أمست تبكي على سُكر يزيد بضرب الصنج . وقد

ـــــــــــــــــــ

1 ـ أيْ اتركوا الصلاة ، والمثاني هي سورة الحمد التي تُقرأ في الصلاة .

2 ـ تذكرة خواصّ الأُمَّة : 164 .


الصفحة 115

ذكر المسعوديّ أنَّ يزيد حينما سمع بمقتل الحسين ( عليه السلام ) جلس للشراب وعن يمينه عبيدُ الله بن زياد ، فقال :

اسقِني شَرْبَةً تُرِّوي مُشاشي   ثمّ مِـلْ فاسْقِ مِثـلَها ابنَ زيادِ

صاحبَ السرِّ والأمانةِ عندي   ولتـسديد مَغنـمي وجهـادي

ثمَّ أمر المُغنِّين فغنُّوا ( 1 ) .

* وعرَّف الفخريُّ يزيدَ بن معاوية فقال :

يزيد .. هو أوَّل مَن خلقَ الغناء ، واستمع إلى المُغنِّيات والمُغنِّين ، وجلس مجالس اللهو والعبث ، دون غيره وسواه مِن رجالات عصره وكبار زمانه ( 2 ) . أوَّل مَن فعل ذلك ، يعني مِن الحكام ، مُتجاهراً بهذه المفاسد .

* أخرج ابن قتيبة عن عتبة بن مسعود أنَّه قال في حديثٍ له :

يزيد .. وهو يشرب الخمر ، ويلهو بالقيان ، ويستهتر بالفواحش ( 3 ) .

وروى البلاذريّ عن المدائنيّ ، أنَّ يزيد دعا بأُمِّ خالد ( زوجته ) لينال منها ، فأبطأت عليه ، وعرضت له جارية سوداء مِن جواريه فوقع عليها ، فلمَّا جاءت أُمُّ خالد أنشأ يقول :

أسْـلَمي أُمَّ خالـدِ      ربَّ سـاعٍ لـقـاعـدِ

ـــــــــــــــــــــ

1 ـ مروج الذهب 3: 67 .

2 ـ عنه كتاب : معاوية بن أبي سفيان : 281 .

3 ـ الإمامة والسياسة 1: 167 .


الصفحة 116

إنَّ تـلك التي تَرَيـ      ـن سَـبـتْني بـواردِ

( إلى آخر أبياته القذرة الفاحشة ، التي هي أولى بها أنْ تُقبَر مِن أن تُذكَر ! ) ( 1 ) .

* وروى أبو الفرج الإصبهاني قائلاً : كان يزيد بن معاوية أوَّل مَن سَنَّ الملاهي في الإسلام مِن الخلفاء ، وآوى المُغنِّين ، وأظهر الفتك وشرِب الخمر ، وكان يُنادم عليها سرجونَ النصرانيّ مولاه ، والأخطل ـ الشاعرَ النصرانيّ ـ وكان يأتيه مِن المُغنِّين ( سائب خاثر ) فيُقيم عنده فيخلع عليه .. ( 2 ) .

* وقال البلاذري : وكان يزيد بن معاوية أوَّلَ مَن أظهر شرب الشراب والاستهتار بالغناء والصيد ، واتِّخاذَ القِيانِ والغلمان ، والتفكُّة بما يَضحك منه المُترفون مِن القرود ، والمُعافرةَ بالكلاب والديكة ( 3 ) .

* وقبل أن يهلك معاوية أرسل ولدَه يزيد إلى الحجِّ ، وقيل : أخذه معه ، فجلس يزيد على شراب ... ( 4 ) .

ولمَّا أراد معاوية أنْ يأخذ البيعةَ ليزيد على الناس ، طلب مِن زياد ابن أبيه أنْ يأخذ بيعة المسلمين في البصرة ، فكان جواب زيادٍ له : ما

ـــــــــــــــــــــ

1 ـ أنساب الأشراف 4: 2 .

2 ـ الأغاني 16: 68 ، وأنساب الأشراف 4: 3 .

3 ـ أنساب الأشراف 4: 1 .

4 ـ الأغاني 14: 61 ، وتاريخ ابن الأثير 4: 50 .


الصفحة 117

يقول الناس : إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد .. وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المُصبَّغات ، ويُدمن الشراب ، ويمشي على الدفوف ، وبحضرتهمُ الحسينُ بن عليّ ، وعبد الله بن عبّاس ، وعبد الله ابن الزبير ، وعبد الله بن عمر ؟! ولكنْ تأمره يتخلَّق بأخلاق هؤلاءِ حَولاً أو حولين ، فعسانا أنْ نُموِّه على الناس ( 1 ) .

ولمَّا حجَّ معاوية وحاول أنْ يأخذ البيعة مِن أهل مَكَّة والمدينة ، فأبى عبد الله بن عمر وقال : نُبايع مَن يلعب بالقرود والكلاب ، ويشرب الخمر ويُظهر الفسوق ؟! ( 2 ) .

وقال الإمام الحسين ( عليه السلام ) لمعاوية : كأنَّك تصف محجوباً أو تنعت

ـــــــــــــــــــ

1 ـ تاريخ اليعقوبي 2: 220 .

2 ـ تاريخ اليعقوبي : 228 ، وإنْ كان عبد الله بن عمر فيما بعد بايع على يد الحجّاج ، بعد أن صلب الحجّاجُ عبد الله بن الزبير، فأقبل عبد الله بن عمر على الحجّاج يقول له: مُدََّ يدك لأُبايعك لعبد الملك، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليّة. فأخرج الحجّاج رِجْلَه وقال: خُذْ رِجْلي؛ فإنّ يدي مشغولة! فقال ابن عمر: أتستهزئ منّي؟! قال الحجّاج: يا أحمق بني عديّ، ما بايعت مع عليّ وتقول اليوم: مَن مات ولم يعرفْ إمام زمانه مات ميتةً جاهليّة؟! أَوَما كان عليٌّ إمام زمانك؟! والله ما جئت إليَّ لقول النبيّ، بل جئت مخافة تلك الشجرة التي صُلِب عليها ابن الزبير! المسترشد لابن جرير الطبريّ 177. نثر الدرّ في المحاضرات للآبيّ 2: 66 ـ الباب الرابع من كلام الصحابة ـ عبد الله بن عمر. الفصول المختارة للشيخ المفيد 197. مروج الذهب للمسعودي 2: 361. البصائر والذخائر لأبي حيّان التوحيديّ ج8 وفيه: قال الحجاج له: أتتخلّف عن بيعة عليّ بن أبي طالب وتبايع عبد الملك؟! بايعْ رجلي؛ فإنّ يدي عنك مشغولة! ومدّ إليه رجْلَه.


الصفحة 118

غائباً ، أو تُخبر عمَّا كان احتويته لعلمٍ خاصٍّ ، وقد دلَّ يزيد مِن نفسه على موقع رأيه ؟! فخُذْ ليزيد في ما أخذ مِن استقرائه الكلاب المُهارَشة عند التحارش ، والحَمام السَّبق لأترابهنَّ ، والقينات ذوات المعازف وضروب الملاهي .. تجِدْه ناصراً ، ودَعْ عنك ما تُحاول ( 1 ) .

* نعم , فشُهرة يزيد أطغى مِن أنْ يُمَوَّه عليها . قال ابن كثير : اشتهر يزيد بالمعازف وشرب الخمور والغناء والصيد ، واتِّخاذ القيان والكلاب ، والنطاح بين الأكباش والدِّباب والقرود . وما مِن يوم إلاَّ ويُصبح فيه مخموراً . وكان يشدُّ القردَ على فرس مُسرَّجةٍ بحبال ، ويسوق به ، ويُلبس القرد قلانسَ الذهب ، وكذلك الغلمان ، وكان يُسابق بين الخيل ، وكان إذا مات القرد حزن عليه .. ( 2 ) .

ومِن هنا رفض الإمام الحسين ( عليه السلام ) أنْ يُساوم أو يُهادن ، فقال مُخاطباً والي المدينة : ( إنَّا أهل بيت النبوَّة ، ومعدن الرسالة ، ومُختلفُ الملائكة ومَهبِطُ الرحمة .. بنا فتح الله وبنا يختم . ويزيدُ رجلٌ شارب الخمر ، وقاتل النفس المُحترمة ، مُعْلِنٌ بالفِسق ، ومثلي لا يُبايع مثْلَه .. ) ( 3 ) .

وقال ( عليه السلام ) جواباً لمروان بن الحَكَم :

ـــــــــــــــــــ

1 ـ الإمامة والسياسة 1: 170 .

2 ـ تاريخ ابن كثير 8: 436 .

3 ـ تاريخ الطبريّ 7: 216 ، والكامل في التاريخ 3: 262 .


الصفحة 119

( إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ، وعلى الإسلام السلام إذا بُليتِ الأُمَّةُ براعٍ مثْلِ يزيد ! ولقد سمعتُ جَدَّي رسولَ الله ( صلَّى الله عليه وآله ) يقول : الخلافة مُحرَّمةٌ على آل أبي سفيان ، فإذا رأيتُم معاويةَ على منبري فابقروا بطنَه ، وقد رآه أهلُ المدينة فلم يبقروا ، فابتلاهم الله بـ ( يزيد ) الفاسق ) ( 1 ) .

* قال الأُستاذ ( محمّد عبد الباقي سرور ) : لو بايع الحسينُ ( يزيدَ ) الفاسق المُستهترَ ، الذي أباح الخمر والزنا ، وحطَّ بكرامة الخلافة إلى مجالسة الغانيات ، وعقد حلقاتِ الشراب في مجلس الحكم ، والذي ألبس الكلاب والقرودَ خلاخلَ مِن ذهب ، ومئاتُ الألوف مِن المسلمين صرعى الجوع والحرمان .. لو بايعَ الحسينُ يزيدَ على هذا الوضع ، لكانت فُتيا مِن الحسين بإباحة هذا للمسلمين .. ( 2 ) .

لقد ثار أبو عبد الله الحسين ( عليه السلام ) ، فشرَّع حكم الجهاد في ذلك الوقت على حكم بني أُميَّة قاطبة ، وعلى يزيد بالذات . فاندلعت

ـــــــــــــــــــ

1 ـ مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، للخوازميّ 1: 185 . والملهوف على قتلى الطفوف ، لابن طاووس : 20 ، وفي ( معاني الأخبار ص 346 ) : أنَّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قال ـ مُشيراً إلى معاوية ـ : ( مَن أدرك هذا يوماً أميراً ، فليبقرْ خاصرته بالسيف ! ) ، فرأى رجلٌ معاوية يَخطب بالشام ، فاخترط سيفه ومشى إليه ، فحال الناس بينه وبينه ، قالوا : يا عبد الله ، مالك ؟! قال : سمعتُ رسولَ الله ( صلّى الله عليه وآله ) يقول : ( مَن أدرك هذا يوماً أميراً ، فليبقر خاصرته بالسيف ) ! قالوا : أتدري مَن استعمله ؟! ـ أيْ : مَن جعله عامله على الشام ـ ، قال : لا ، قالوا : أمير المؤمنين عمر !

2 ـ الثائر الأوَّل في الإسلام : 97 .


الصفحة 120

الثورات بعد واقعة كربلاء ، وسرَت روح الثورة والجهاد والمُقاومة في نفوس الأحرار ، ولم يهدأ للأُموييِّن بال حتَّى اندثرت دولتـُهم .

وكان ممَّن نهض في وجه الطاغية يزيد .. عبدُ الله بن غسيل الملائكة حنظلة ، فخطب في أهل المدينة خُطبةً قال فيها :

فوالله ، ما خرجنا على يزيد حتَّى خِفـْنا أنْ نُرمى بالحجارة مِن السماء ! إنَّ رجلاً ينكح الأُمَّهاتِ والبناتِ والأخَوات ، ويشرب الخمر ، ويدَع الصلاة .. واللهِ ، لو لم يكن معي أحدٌ مِن الناس لأبليت للهِ فيه بلاءً حسَناً !!

وقد ذكر هذه الخُطبةَ ابنُ الأثير في الكامل 3: 117 ، وابن حجر في الصواعق المُحرقة : 132 ، وأخرج الخبرَ عن الواقدي مِن طُرق عديدة وقال : وخرج على يزيد غيرُ واحد ، ولم يُبارك اللهُ في عُمُره .

وذكر الخبرَ ـ أيضاً ـ ابنُ سعد في الطبقات 5: 47 فروى عن غير واحد أنَّهم قالوا : لمَّا وثب أهلُ المدينة ليالي الحَرَّة ، فأخرجوا بني أُميَّة عن المدينة ، وأظهروا عيب يزيد بن معاوية وخلافتِه ، أجمعوا على عبد الله بن حنظلة ، فأسندوا أمرَهم إليه فبايعهم على الموت ، وقال : يا قوم ، اتَّقُوا الله وحدَه لا شريك له ! فواللهِ ، ما خرجنا على يزيد حتَّى خِفْنا أنْ نُرمى بالحجارةِ مِن السماء ! .. إنَّ رجلاً ينكح الأُمَّهات والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ويدع الصلاة . والله ، لو لم يكن معي واحد مِن الناس لأبليتُ لله فيه بلاءً حسناً !! فتواثب الناس يومئذٍ


الصفحة 121

يُبايعون مِن كلِ النواحي ( 1 ) .

كان ذلك في واقعة الحَرَّة .. فما جرى فيها مِن الفضائع ؟!

الحَرَّة ، واقعة في مدينة الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله ) أو قُرْبها ، وحين ثار أهلُها على يزيد وطردوا بني أُميَّة منها ـ لظلمهم وفجورهم ـ وأنكروا على يزيد فُسقه وكفره وانتهاكه لحرمات الله ، ومِن ذلك قتلُ سيِّد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) في واقعة الطفِّ .. غضب يزيد ، فكتب تهديداً إلى أهل المدينة جاء فيه : لئن آثرتُ أنْ أضعكم تحت قدَمَيَّ لأطأنَّكم وطأةً أُقِلُّ منها عددَكم ، وأترككم أحاديثَ تتناسخ كأحاديث عادٍ وثمود .. ( 2 ) .

فبعث إلى مسلم بن عقبة وقال له : سِرْ في اثنَي عشر ألفاً مِن جيش الشام إلى المدينة ، فاقتُل مَن ظفرتَ به منهم ، وانهبْها ثلاثاً ( 3 ) .

وقال له : السيفَ السيف ! أجهزْ على جريحهم ، وأقبل على مُدبرهم ، وإيَّاك أن تُبقيَ عليهم ( 4 ) .

ــــــــــــــــ

1 ـ يُراجع قصَّة ثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) في ( الإمامة والسياسة 2: 7ـ13 ).

2 ـ دائرة معارف القرن العشرين 4: 774 .

3 ـ يراجع : تتمَّة المُختصر في أخبار البشر ، لابن الورديّ 1: 262 ، والكامل في التاريخ .

4 ـ دائرة معارف القرن العشرين 4: 775 .


الصفحة 122

وفي هذا إشارةٌ واضحة للإباحة : إباحة الأموال والدماء والنساء .. وكان مسلم بن عقبة مُستعدَّاً لذلك . يقول اليعقوبيّ : طلب يزيد بن معاوية مسلمَ بن عقبة المري مِن فلسطين ، وأدخله منزله وقَصَّ عليه قصَّةَ خلع أهلِ المدينة إيَّاه ، فقال مسلم : يا أميرَ المؤمنين ، وَجِّهْني إليهم . فواللهِ ، لأدَعنَّ أسفلَها أعلاها ـ يعني مدينةَ الرسول ( 1 ) .

فوضع مسلمُ بن عقبة السيفَ في أعناق أهل المدينة ، مدينةِ المُصطفى ( صلَّى الله عليه وآله ) ثلاثاً ـ أيْ : ثلاثة أيَّام ـ .. فماذا كان ؟!

ذكر المؤرِّخون أنَّ عدد قتلى ( واقعة الحَرَّة ) بلغ ألفاً وسبعمئة مِن وجوه الناس مِن قريش والأنصار والمُهاجرين وأصحاب النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) .. وكان ممَّن أُوذي أبو سعيد الخدريّ ، أخرجوه فنتفوا لحيته وضربوه ضربات ، ثمَّ نهبوا كلَّ ما في بيته حتَّى الصوف .

أمَّا جابر بن عبد الله الأنصاريّ فأرادوا قتله ، ثمَّ أُنقذ مِن أيدي الغزاة .

كما ذكر المؤرِّخون أنَّ عدد القتلى بلغ : سبعمئة مِن الصحابة ، وألفاً وسبعمئة مِن أولاد الصحابة ، وعشرةَ آلاف مِن الموالي وغيرهم ( 2 ) .

ــــــــــــــــــ 

1 ـ تاريخ اليعقوبيّ 2: 37 . ويُراجع كذلك : تاريخ الإسلام ، للذهبيّ 2: 354 . والإمامة والسياسة ، لابن قتيبة الدينوريّ 2: 13 ـ 16 .

2 ـ يُراجع : دائرة المعارف الإسلاميَّة الشيعيَّة ، لحسن الأمين 2: 10 .


الصفحة 123

قيل : وقُتِل من سائر الناس عشرة آلاف ، سوى النساء والصبيان ( 1 ) .

وروي عن أنس بن مالك أنَّه قال : قُتِل يوم الحَرَّة مِن حَمَلة القرآن سبعمئة ( 2 ) .

وجاء عن الذهبيّ أنَّه كان يُؤتى بالصحابيّ ويُقال له : بايعْ على أنَّك عبدٌ ليزيد ، فيقول : أُبايع على سُنَّة الله ورسوله . فلا تُقبَل منه بيعته فيُضرَب عُنُقه ( 3 ) . وقد قُتِل ثلاثة مِن أصحاب النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) .

وجاسَ الجندُ ديارَ الرسالة والوحي ، يسعون فيها الفساد ، ويهلكون الحرث والنسل ، ويعيثون ويُدمِّرون ، ويهتكون الحُرمات ، فانتشروا في الأزقَّة والطُّرقات ، ثمَّ هجموا على البيوت بعد أنْ اختبأ فيها أهلُها .. فماذا فعلوا ؟!

ما ترك جند مسلم بن عقبة بيتاً إلاَّ نهبوه ، ثمَّ منح مسلم الأمان لجمع مِن الأعيان في المدينة ، فلمَّا مَثَلُوا بين يديه قتلَهم واحداً بعد واحد ( 4 ) .

وليت الأمر انتهى عند هذا .. فما يُدْمي القلوب ، ويُنكِّس الرؤوس ، ويُندي جباه الغيارى ، أنَّ جيش يزيد هذا قد انتهك الأعراض على مَقربةٍ مِن ضريح المُصطفى ( صلَّى الله عليه وآله ) وحَرمه !!

ــــــــــــــــ

1 ـ الإمامة والسياسة ـ في ذكرْ واقعة الحَرَّة 2 : 5 ـ 7 ، 13 ـ 16 .

2 ـ تاريخ الإسلام 2 : 359 .

3 ـ تاريخ الإسلام 2 : 359 .

4 ـ ناسخ التواريخ ـ مُجلَّد زين العابدين ( عليه السلام ) : 343 .


الصفحة 124

لقد خطب مسلم بن عقبة في جُنده قائلاً : هذه المدينة لكم مُباحةٌ ثلاثة أيَّام : دماؤُها ، نساؤها ، أموالها !!

ونادى مُنادٍ عن لسان مسلم بهم : يا أهل الشام ، إنَّ أميرَكم مسلم بن عقبة ـ بأمرِ أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ـ أباح لكم هذه المدينة كلَّها ثلاثة أيَّام ، ومَن زنى بامرأةٍ فذلك له !!!

فوقع جيش الشام في الزنا بالمسلمات .. وفيهنَّ بنات المهاجرين والأنصار ، وفيهنَّ ذوات الأزواج ، وفيهنَّ الأبكار والمُخدَّرات . هجم عليهنَّ ذئاب يزيد ، فكان أنْ انتُهكت بكارة ألف بنت في هذه المأساة !! وحملت مِن التجاوز بالزنا في تلك الأيَّام سبعمئة امرأة !! وقُتلت كثيرٌ مِن النساء على أثر مُكابرتهنَّ !!! ( 1 ) .

وولدت الأبكارُ منهنَّ ألف امرأة لا يُعرَف مَن أوْلَدهنَّ ـ كما يقول اليعقوبيّ في تاريخه ـ ( 2 ) .

وكان هنالك أَسْرٌ للمسلمين .. أولاد المُهاجرين والأنصار ، أمر مسلم بن عقبة أنْ يُثقَلُوا بالحديد ثمَّ يُدْعَوا إلى بيعة يزيد ( 3 ) .

ولمَّا وصلت هذه الأخبارُ المُفجِعة إلى يزيد .. سُرَّ بها كثيراً ، وأخذ يُنشد أبياتَ عبدِ الله بن الزبعرى ـ كما أنشدها بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) ـ :

ــــــــــــــــــــ

1 ـ يُراجع : يزيد بن معاوية فرع الشجرة الملعونة : 117 .

2 ـ تاريخ اليعقوبيّ 2: 359 .

3 ـ دائرة معارف القرن العشرين 4: 779 .


الصفحة 125

ليت أشياخي ببدرٍ شهِدوا     جــزعَ الخزرج مِن وقْع الأسَلْ

لأهلُّوا واستهلُّوا فرحــاً     ثـمَّ قالوا يا يزيدُ لا تُشَـلّ ( 1 )

وكان يزيد قد كتب مِن قبلُ إلى أهل المدينة : أمّا بعد ، فإنِّي قد حملتكم على رأسي ، ثمَّ على عيني ، ثمَّ على فمي ، ثمَّ على صدري ( أو : بطني ) . واللهِ ، لئن وضعتكم تحت قَدَميَّ لأطأنّكم وطأةً .. أُقِلُّ منها عددَكم ، وأتركُكم أحاديث تُنسخ مع أحاديث عادٍ وثمود ! ( 2 )

  ولا بأس أن نطالع ما كتبه اليعقوبيّ في تاريخه حول هذه الواقعة العجيبة، والربة، والغيبة، ثم قال وهو يتحدّث عن جرائم يزيد في واقعة الحرّة وحرق الكعبة المعظّمة بالمنجنيق!:

وولّى يزيدُ عثمان بن محمّد بن أبي سفيان المدينة، فأتاه ابن مينا عامل صوافي معاوية، فأعلمه أنّه أراد حمل ما كان يحمله في كلّ سنة من تلك الصافي من الحنطة والتمر، وأنّ أهل المدينة منعوه من ذلك، فأرسل عثمان إلى جماعة منهم فكلّمهم بكلام غليظ، فوثبوا به وبمَن كان معه بالمدينة من بني أميّة، وأخرجوهم من المدينة واتّبعوهم يرجمونهم بالحجارة، فلمّا انتهى الخبر إلى يزيد بن معاوية وجّه إلى مسلم بن عقبة، فأقدمه من فلسطين، وهو مريض، فأدخله منزله، ثمّ قصّ عليه القصّة، فقال: يا أمير المؤمنين!

ـــــــــــــــــ

(1) دائرة معارف القرن العشرين: 744 ـ 745.

(2) العقد الفريد 2: 256. صبح الأعشى 6: 390. الأخبار الموفقيّات: 197.  


الصفحة 126

وجِّهني إليهم ، فو الله لأدعنَّ أسفها أعلاها ، يعني مدينة الرسول . فوجَّهه في خمسة آلاف إلى المدينة ، فأوقع بأهلها وقعة الحرَّة ، فقاتله أهل المدينة قتالاً شديداً ، وخندقوا على المدينة ، فرام ناحية مِن نواحي الخندق ، فتعذَّر ذلك عليه ، فخدع مروان بعضهم ، فدخل ومعه مئة فارس ، فأتبعه الخيل حتَّى دخلت المدينة ، فلم يبقَ بها كثير أحدٍ إلاَّ قُتل ، وأباح حرم رسول الله ، حتَّى ولدت الأبكار لا يُعرَف مَن أولدهنَّ ! ثمَّ أخذ الناس على أنْ يبايعوا على أنَّهم عبيدُ يزيد بن معاوية ، فكان الرجل مِن قريش يُؤتى به ، فيقال : بايعْ آية أنَّك عبدٌ قنٌّ ليزيد ، فيقول : لا ! فيُضرَب عنقه .

وكان جيش مسلم خمسة آلاف رجل : مِن فلسطين ألف رجل ، عليهم روح بن زنباع الجذاميّ، ومِن الأردن ألف رجل ، عليهم حبيش بن دَلَجة القينيّ ، ومِن دمشق ألف رجل عليهم عبد الله بن مسعدة الفزاريّ ، ومِن أهل حمص ألف رجل ، عليهم الحُصَين بن نُمير السكونيّ ، ومِن قنسرين ألف رجل ، عليهم زفر بن الحارث الكلابيّ .

وكان المدبِّر لأمر أهل المدينة والرئيس في محاربة أهل الشام ، عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاريّ.

 

حرق الكعبة :

وخرج مسلم بن عقبة مِن المدينة يُريد مكَّة لمحاربة ابن الزبير،


الصفحة 127

فلمَّا صار بثنيّة المُشلّل احتُضر ، واستخلف الحصين بن نمير ، وقال له : يا برذعة الحمار ! لو لا حبيش بن دلجة القينيّ لما ولَّيتك ، فإذا قدمت مكَّة فلا يكون عملك إلاَّ الوقاف ثمَّ الثقاف ، ثمَّ الانصراف، ثمَّ قال : اللهمَّ ، إنْ عذَّبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية وقتل أهل الحرَّة ، فإنّي ـ إذاً ـ لشقيّ . ثمَّ خرجَتْ نفسه فدُفن بثنيّة المُشلّل، وجاءت أمُّ ولد يزيد بن عبد الله بن زمعة، فنبشته وصلبته على المُشلِّل، وجاء الناس فرجموه، وبلغ الخبر الحصين بن نمير فرجع فدفنه، وقتل جماعةً مِن أهل ذلك الموضع، وقيل : لم يدع منهم أحداً.

وقدم الحصين بن نمير مكَّة فناوش ابن الزبير الحرب في الحرم، ورماه بالنيران حتّى أحرق الكعبة. وكان عبد الله بن عمير اللّيثيّ قاضي ابن الزبير، إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة، فنادى بأعلى صوته: يا أهل الشام ، هذا حرم الله الذي كان مأمَناً في الجاهلية يأمن فيه الطير والصيد، فاتَّقوا الله يا أهل الشام ! فيصيح الشاميّون: الطاعة الطاعة! الكرَّة الكرَّة! الرواح قبل المساء! فلم يزل على ذلك حتّى أُحرقت الكعبة، فقال أصحاب ابن الزبير: نُطفئ النار، فمنعهم، وأراد أنْ يغضب الناس للكعبة، فقال بعض أهل الشام: إنَّ الحرمة والطاعة اجتمعتا، فغلبت الطاعة الحرمة. وكان حريق الكعبة في سنة 63 هـ (1).

ــــــــــــ

(1) تاريخ اليعقوبيّ 2: 250 ـ 251.


الصفحة 128

أجل .. ومِن قبل ذلك كانت ليزيد جريمةٌ عُظمى ، تلك هي واقعة كربلاء ، قتل فيها الإمامِ الحسين ( عليه السلام ) وأهلَ بيته وأصحابَه ، وسبى نساءَه فسيَّرهم مع اليتامى والأطفال إلى الكوفة ثمَّ إلى الشام ، ورؤوس الشهداء مرفوعة على أسنَّة الرماح . أعرضنا عن تفصيل الواقعة لِعظم فجيعتها ، ولطول تفصيلها .. فنأتي إلى ما بعدها :

قال ابن الأثير : حتَّى إذا مضت ثلاثة أيَّام مِن شهر ربيع الأوَّل سنة أربع وستِّين رمَوُا البيت بالمجانيق ، وحرقوه بالنار ، وأخذوا يرتجزون :

خَطَّارةٌ مثــلُ الفَنـيقِ المُزْبِدِ        نـرمي بها أعوادَ هذا المسجدِ ( 1 )

ورُوي أنَّ صاعقة مِن السماء نزلت فأحرقتِ الموكَّلين بالمجانيق مِن أجناد الشام ( 2 ) . وهكذا أُحرقت الكعبة المُعظَّمة .

ذكر البلاذريّ ـ عن ابن الكلبيّ وأبي مخنف وغيرهما ـ جملةً مِن مفاسد يزيد : قتلُ الحسين ، وقتلُ أهل الحَرَّة ، ورميُ البيت وإحراقه ( 3 ) .

ــــــــــــــــــــ

(1) ـ الكامل في التاريخ 4: 124 . الإمامة والسياسة 2: 19 ـ 20 .

(2) ـ ناسخ التواريخ: 451 .

(3)ـ أنساب الأشراف 4: 1 .


الصفحة 129


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net