متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
عودة إلى معاوية الثاني ، توليته ، الخلع ، ماذا كان بعد الخلع ؟
الكتاب : شخصيات ومواقف    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

عودة إلى معاوية الثاني :

وبعد أنْ تعرَّفنا على بعض أعلام بني أُميَّة ، ومَن كان أُميَّة ، ومَن هُمْ أحفاده .. مِن أبي سفيان إلى معاوية فيزيد ، ومِن حمامة إلى هند بنت عتبة إلى غيرهما .. يواجهُنا سؤال تاريخيّ مُلفتٌ وعجيب : هل يُتَوقَّع أنْ يخرج رجلٌ مِن هذا البيت يُخالف أهلَه ، ويُشير إلى الحقِّ ، ويدين الظلم والفجورَ ولو كانا في أُسرته ؟!

والجواب ـ بكلِّ بساطة ـ : نعم ، ذلك مُمكن ، فإذا عرَفَ اللهُ تعالى في قلبِ عبدِه طلباً صادقاً للحقيقة ، وتجرُّداً عن التعصُّب الأعمى .. نفخ في عقله وضميره وروحه عرفانَ ونبذَ الباطل ، وأجرى على لسانه البيان الصادع والقول البليغ والكلمة الصادعة .

وكان المَثَل الساطع في هذا هو ابن يزيد ، معاوية .. المُسمَّى


الصفحة 159

بـ ( معاوية الثاني ) تمييزاً له عن جَدِّه معاوية بن أبي سفيان ، والمُسمَّى بـ ( معاوية الأصغر ) مرَّةً أُخرى ، وإنْ كان هو الأكبر عقلاً وقلباً وإيماناً !

* ذكر البلاذريّ عن محمّد بن مصفّى الحمصيّ قوله : كان ( معاوية الثاني ) فتىً صالحاً ، كثير الفكر في أمر مَعاده ( 1 ) .

* وعبَّر عنه اليعقوبيّ ـ في وصفه إيَّاه ـ قائلاً : وكان له مذهب جميل ( 2 ) .

أمَّا مَن هو معاوية بن يزيد ؟ .. فذلك ما لم يحدِّثنا التاريخ عنه إلاَّ بنزرٍ يسير مِن الأخبار المُقتضَبة ، وذلك لأمرين :

الأوَّل : لأنَّه تُوفِّيَ عن عمر لم يتجاوز الواحد والعشرين عاماً على أغلب الروايات .

والثاني : لأنَّه كان مُعارضاً للبيت الأُمويّ ، فعُتِّم عليه وقُبِر ذِكْرُه مِن قِبَل بني أُميَّة ؛ لأنَّه لم يكن على هواهم ، ولم ينسج نسجهم . ولكنْ .. لا يسقط الميسور بالمعسور ، وما لا يُدرَك كلُّه لا يُترك كلُّه .

ـــــــــــــــــــ

1 ـ أنساب الأشراف 5 : 382 ( طبعة دار الفكر ـ بيروت ) .

2 ـ تاريخ اليعقوبيّ 2 : 254 .


الصفحة 160

توليَتُه :

يوم الأربعاء ، في الرابع عشر مِن شهر ربيع الأوَّل ، سنة 64 مِن الهجرة النبويَّة .. هلك يزيد بن معاوية يَجرُّ إلى قبره عظائم الذنوب وكُبرى الجرائم ( 1 ) .

وبما أنَّ معاوية بن أبي سفيان قد جعل الخلافة وراثةً ـ يرثها الأبناء عن الآباء ـ ؛ لذا كان ليزيد وليُّ عهد ، وهو ابنه معاوية بن يزيد ، المعروف بـ ( معاوية الثاني ) .

فكيف أتته التوليَة يا تُرى؟!

* قال البلاذريّ : ولاَّه أبوه يزيد عهدَه في صِحَّته ، ويُقال : بايع له حين احتُضر ، فلمَّا مات يزيد بايع الناسُ معاوية ( الثاني ) ، وأتته بيعةُ الآفاق إلاَّ ما كان مِن ابن الزبير ...

قال هشام بن عمّار : سمعت الوليد بن مسلم يقول : كانت أمُّ معاوية بن يزيد ـ وهي أُمُّ هاشم بنت أبي هاشم بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس ـ امرأة برزة .. فدعا يزيد يوماً بمعاوية بن يزيد وأُمُّه حاضرة ، فأمره بأمر ، فلمَّا ولَّى معاوية ( أيْ ذهب لذلك الأمر ) قالت له : لو ولَّيت معاوية عهدَك ! فقال : أفعل . وناظرَ يزيد حسَّانَ بن

ـــــــــــــــــــ

1 ـ يُراجَع : تتمَّة منتهى الآمال ، للشيخ عبّاس القُمِّيّ : 48 .


الصفحة 161

مالك بن بجدل الكلبيّ في أمره فشجَّعه على البيعة له ، فأحضر يزيد الناس وأعلمهم أنَّه قد ولاَّه الخلافة بعده ، فبايع له ابن بجدل والناس . فلمَّا مات يزيد بحُوَّارين بُويع لمعاوية ( الثاني ) بالخلافة وهو كاره !

وأكَّد ذلك ابن هشام الكلبيّ ( النسَّابة ) قائلاً : كان معاوية بن يزيد كارهاً للخلافة !

كذلك قال الحمصيّ ـ راوياً عن مشايخه ـ قائلاً : إنَّ معاوية بن يزيد قَبِل البيعةَ وهو لها كاره !

وعن الواقديّ .. ينقل البلاذريّ أنَّ صالح بن كيسان قال : ولَّى يزيدُ بن معاوية معاوية بنَ يزيد ـ ابنَه ـ الخلافةَ بعده ، وكان ( معاوية الثاني ) كارهاً لها ..

ولعلَّ مِن مصاديق ذلك ما أورده البلاذريّ بقوله : لم يعزلْ معاويةُ بن يزيد أحداً مِن عمَّال أبيه ، ولا حرَّك شيئاً ، ولا أمر ولا نهى ( 1 ) .

ولكنَّ ( معاوية الثاني ) هذا لم يحكم ـ على أغلب الروايات والأخبارـ إلاَّ أربعين يوماً ، هي مدَّة خلافته في الشام ( 2 ) .

أجل .. بُويع له بالخلافة يومَ موت أبيه ، فأقام فيها أربعين يوماً ، على بعض

ــــــــــــــــــ

1 ـ أنساب الأشراف 5 : 379 ـ 382 ( طبعة دار الفكر ـ بيروت ) .

2 ـ يُراجَع : تتمَّة منتهى الآمال ، للشيخ عبّاس القُمِّيّ : 48 .


الصفحة 162

التعابير ( 1 ) . وعلى بعضها الآخر : ولي الأمرَ أربعين ليلة ( 2 ) . وذلك ما يؤكِّده المُؤرِّخ اليعقوبيّ في تاريخه حيث يقول : ثمَّ ملكَ معاوية بن يزيد بن معاوية .. أربعين يوماً ( 3 ) .

وكتب المسعوديّ : ومَلَك معاوية بن يزيد بن معاوية بعد أبيه ، فكانت أيَّامُه أربعين يوماً إلى أنْ مات ( 4 ) .

وهذا ما أكَّده الحلبي في سيرته حيث قال : إنَّ معاوية بن يزيد مكث في الخلافة أربعين يوماً ( 5 ) .

وهذا ما عليه أكثرُ المؤرِّخين ، ثمَّ يُردفون ما ذهبوا إليه بـ ( قيل ) ، حيث يُنقَل عن البعض أنَّه يرى خلافة معاوية الثاني كانت أكثر مِن أربعين يوماً . فيذهب السيِّد الشهيد نور الله القاضي التستريّ إلى أنَّ خلافة معاوية بن يزيد كانت ثلاثة أشهر ( 6 ) . بينما يذكر اليعقوبيّ أكثر مِن ذلك يسبقه الرأي بـ ( قيل ) ، فيقول : وقيل : بلْ أربعة أشهر( 7 ) . في

ــــــــــــــــــ

1 ـ حياة الحيوان ، للدَّميريّ 1 : 88 ـ باب ألإوزِّ . ومجالس المؤمنين ، للشهيد السيِّد القاضي نور الله التستريّ 2 : 252 .

2 ـ الاختصاص ، للشيخ المُفيد : 131 .

3 ـ تاريخ اليعقوبيّ 2 : 254 .

4 ـ مروج الذهب 3 : 82 .

5 ـ السيرة الحلبيَّة 1 : 169 .

6 ـ مجالس المؤمنين 2 : 525 ، ولعلَّه أخذ ذلك عن ( أنساب الأشراف 5 : 379 ـ طبعة دار الفكر ، بيروت ) .

7 ـ تاريخ اليعقوبي 2 : 254 .


الصفحة 163

حين يقول الدِّميري : وقيل : أقام فيها ـ أيْ الخلافة ـ خمسة أشهر وأيَّاماً ( 1 ) . وتردَّد ابن حجر فقال : وكانت مُدَّة خلافته أربعين يوماً ، وقيل : شهرين ، وقيل : ثلاثة أشهر ( 2 ) .

قال المسعوديّ : وقيل : مَلَك شهرين . وقيل : غير ذلك . وكان يُكنَّى بأبي يزيد ، وكُنِّي حين وليَ الخلافة بأبي ليلى ؛ وكانت هذه الكُنية للمُستضعَف مِن العرب ، وفيه يقول الشاعر :

إنِّي أرى فتنةً هاجَتْ مراجلُـها     والمُلْك بعد أبي ليلى لمَن غَلَبا ( 3 ) 

في خلافة معاوية الثاني يقول ابن قتيبة : لمَّا مات يزيد بن معاوية ، استخلف ابنه معاوية بن يزيد ، وهو يومئذ ابن ثماني عشرة سنة ، فلبث والياً شهرين وليالي محجوباً لا يُرى ، ثمَّ خرج بعد ذلك ... ( ثمَّ ذكر خلع نفسه ، وعلَّق بعد ذلك بهذه العبارة : وماج أمر بني أُميَّة واختلفوا ( 4 ) .

والآن نتساءل : لماذا لم تستمرَّ خلافة معاوية بن يزيد أكثر مِن ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر ، أو خمسة أشهرٍ وأيَّام ؟! هل تُـوفِّي ؟! أم عُزل ؟! أم ماذا ؟!

ـــــــــــــــــ

1 ـ حياة الحيوان 1 : 88 .

2 ـ الصواعق المُحرِقة : 134 .

3 ـ مروج الذهب 3 : 82 .

4 ـ الإمامة والسياسة 2 : 17 ـ 18 .


الصفحة 164

يُجيبُنا على ذلك الدِّميريُّ بوضوح فيقول : ثمَّ خلع نفسه ( 1 ) .

فنعود نتساءل : ولماذا خلع هذا الشابُّ نفسه مِن الخلافة ، وهي مُلْك عظيم ذلك اليوم ، وهو شابٌّ في ريعان شبابه ، وقد جاءتْه هيِّنةً ؟! فلماذا زهد بها وعزف عنها ؟! أليس ذلك بالأمر العجيب ، والموقف الغريب ؟!

وكيف خلع نفسه ومتى .. ثمَّ كيف استطاع ذلك ؟!

 

الخَلْع :

قال الدميريّ : وذكر غيرُ واحدٍ أنَّ معاوية بن يزيد لمَّا خلع نفسه ، صعد المنبر فجلس طويلاً ، ثمَّ حمِد الله وأثنى عليه بأبلغ ما يكون مِن الحمد والثناء ، ثمَّ ذكر النبيّ ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) بأحسنِ ما يُذكَر به ، ثمَّ قال : أيُّها الناس ، ما أنا بالراغب في الائتمارِ عليكم ، لعظيمِ ما أكرهه منكم ، وإنِّي لأعلمُ أنَّكم تكرهوننا أيضاً ، لأنَّا بُلينا بكم ، وبُليتُم بنا ... ( 2 ) .

ولكنْ .. كيف كان ذلك وبأيَّة مُناسبة ؟! هل دعا معاوية الثاني الناسَ إلى خُطبةٍ مُهمَّة فيخبرهم فيها ما أراد مِن خَلْع نفسه عن الخلافة ؟!

على ما يبدو .. لا ، وإنَّما كان ذلك يومَ الجمعة ، وفي خُطبة صلاة الجمعة ، حيث ارتقى معاوية الثاني منبره ، فأخبر المُصلِّين ـ على ما

ــــــــــــــــــ

1 ـ حياة الحيوان 1 : 81 .

2 ـ حياة الحيوان 1 : 88 .


الصفحة 165

يُروى ـ أنَّه أعجز مِن أنْ ينهض بأعباء الخلافة ومسؤوليَّاتها الثقيلة الجسيمة ، وأنَّه غير لائق لمثل هذا المنصب الكبير ( 1 ) .

 

الخُطبة :

نُقلت خُطبة ( معاوية الثاني ) في عددٍ مِن كُتب السيرة ، بنصوص مُتفاوتة تفاوتاً يسيراً في الألفاظ والطُول والقِصر ، وإنْ اتَّفقت في المضامين وتقاربت .

* يرويها البلاذريّ عن طريقين ، بصورتين :

الأُولى : عن ابن عيّاش الهمدانيّ ، عن أبي أسماء السَّكْسكيّ قال :

كان معاوية بن يزيد يُظهِر التألُّه ، وكان ضعيفاً في أمر دنياه [ أيْ :غير راغبٍ فيه ، ربَّما هكذا قصد ] ، فكُنِّي أبا ليلى ، فلمَّا أفضى الأمر إليه قام خطيباً فقال :

أيُّها الناس ، إنْ يكنْ هذا الأمر خيراً فقد استكثر منه آلُ أبي سفيان ، وإنْ يكنْ شرَّاً فما أولاهم بتركه ! واللهِ ، ما أُحبُّ أنْ أذهبَ إلى الآخرة وأدعَ لهمُ الدنيا ..

والثانية : عن صالح بن كيسان ـ كما روى الواقديّ ـ أنّه قال :

ــــــــــــــــــ

1 ـ يُراجَع  : مجالس المؤمنين 2 : 252 .


الصفحة 166

ولَّى يزيد بن معاوية ابنَه معاوية بن يزيد الخلافة بعده ، وكان كارهاً لها ، فلمَّا مات أبوه خطب الناس فقال :

إنْ كانت الخلافة خيراً فقد استكثر آلُ أبي سفيان منه ، وإنْ كانت شرَّاً فلا حاجة لنا فيه ، فاختاروا لأنفسكم إماماً تُبايعونه هو أحرص على هذا الأمر منِّي ، واخلعوني فأنتم في حِلٍّ من بيعتي .. ( 1 ) . وروى اليعقوبيّ قصَّة الخلع هكذا :

 .. فخطب الناسَ فقال : أمَّا بعد حمد الله والثناء عليه .. أيُّها الناس ، فإنَّا بُلينا بكم وبُليتم بنا ، فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا . ألا وإنَّ جَدِّي معاوية بن أبي سفيان نازع الأمرَ مَن كان أولى به منه في القرابة برسول الله ، وأحقَّ في الإسلام ، سابِقَ المسلمين ، وأوَّل المؤمنين ، وابنَ عمِّ رسول ربِّ العالمين ، وأبا بقِّيةِ خاتَم المرسَلين . فركب ( أيْ معاوية ) منكم ما تعلمون ، وركبتُم منه ما لا تُنكرون ، حتَّى أتتْه منيَّتُه وصار رهناً بعمله . ثمّ قَلَّدَ أبي ( أيْ يزيد ) وكان غيرَ خليقٍ للخير ، فركب هواه ، واستحسن خَطأه ، وعظم رجاؤُه فأخلفه الأمل ، وقصُر عنه الأجل ، فقلَّت مِنعته ، وانقطعت مُدَّته ، وصار في حفرته رهناً بذنْبه ، وأسيراً بجرمه .

ثمَّ بكى ( أيْ معاوية الثاني ) وقال : إنَّ أعظم الأُمور علينا علمُنا بسوء مصرعه ، وقُبح مُنقلَبه ( أيْ يزيد بن معاوية ) ، وقد قتل عترةَ الرسول ،

ــــــــــــــــــ

1 ـ أنساب الأشراف 5 : 381 ، 382 ( طبعة دار الفكر ـ بيروت ) .


الصفحة 167

وأباح الحُرمة ، وحرق الكعبة ( 1 ) . وما أنا المُتقلِّدَ أُمورَكم ، لقد نِلْنا منها حظَّاً ، وإنْ تكن شرَّاً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها ( 2 ) .

* ونقلها ابن قتيبة هكذا ، قال :

فجمع الناسَ ، فحَمِد اللهَ وأثنى عليه ثمَّ قال : أيُّها الناس ، إنِّي نظرتُ بعدكم فيما صار إليَّ مِن أمركم ، وقلَّدتُه مِن ولايتكم ، فوجدتُ ذلك لا يسعُني فيما بيني وبين ربِّي ، أنْ أتقدَّم على قومٍ فيهم مَن هو خيرٌ منِّي ، وأحقُّهم بذلك ، وأقوى على ما قُلِّدتُه ( 3 ) .. فاختاروا منِّي إحدى خصلتين : إمَّا أنْ أخرج منها واستخلف عليكم مَن أراه لكم رضىً ومُقنِعاً ، ولكم الله علَيَّ ألا آلُوكم نُصحاً في الدين والدنيا ، وإمَّا أنْ تختاروا لأنفسكم وتُخرجوني منها .

قال : فأنِف الناس مِن قوله ، وأبَوْا مِن ذلك ، وخافتْ بنو أُميَّة أنْ تزول الخلافة منهم ، فقالوا : ننظر في ذلك يا أمير المؤمنين ونستخير الله ، فأمهِلْنا . قال : لكم ذلك ، وعجِّلوا علَيَّ .

قال : فلم يلبثوا بعدها إلاَّ أيَّاماً حتَّى طُعِن ، فدخلوا عليه فقالوا له :

ـــــــــــــــــ

1 ـ إشارة إلى الجرائم الثلاث : قتل أهل البيت ( عليهم السلام ) في كربلاء ، وإباحة المدينة المُنوَّرة في واقعة الحَرَّة ، وضرب الكعبة بالمنجنيق وإحراقها .

2 ـ تاريخ اليعقوبيّ 2 : 254 .

3 ـ لعلَّه يُشير معاوية الثاني هنا إلى آل عليٍّ ، أو إلى الإمام عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) على وجه التعيين .


الصفحة 168

استخلفْ على الناس مَن تراه لهم رضىً . فقال لهم : عند الموت تُريدون ذلك ؟! لا والله لا أتَزوَّدها ، ما سعدتُ بحلاوتها ، فكيف أشقى بمرارتها ؟!

ثمَّ هلك ( رحمه الله ) ولم يستخلف أحداً ... فلمَّا دُفن معاوية بن يزيد ، وسُوِّيَ عليه التراب ، وبنو أُميَّة حول قبره ، قال مروان بن الحكم : أما واللهِ ، ـ يا بني أُميَّة ـ إنَّه لأبو ليلى ! ثمّ قال :

المُلْكُ بعد أبي ليلى لمَن غَلَبا    وماج أمر بني أُميَّة واختلفوا ( 1 ) .

* أمَّا الدمِيريّ .. فقد ذكر تفصيلاً أكثر للخُطبة ، فقال : ذكرَ غيرُ واحدٍ .. أنَّ معاوية بن يزيد لمَّا خلع نفسه صعِد المِنبر فجلس طويلاً ، ثمَّ حمِد الله وأثنى عليه بأبلغ ما يكون مِن الحمد والثناء ، ثمَّ ذكر النبيَّ ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) بأحسنِ ما يُذكر به ، ثمَّ قال :

أيُّها الناس ، ما أنا بالراغب في الائتمار عليكم ، لعظيم ما أكرهه منكم . وإنِّي لأعلم أنَّكم تكرهوننا أيضاً ؛ لأنَّا بُلينا بكم وبُليتُم بنا . ألا إنَّ جدَّي معاوية .. قد نازع في هذا الأمر مَن كان أولى به منه ومِن غيره [ أيْ عليَّاً ( عليه السلام ) ] لقرابته مِن رسول الله ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) ، وعِظَمِ فضله وسابقته . أعظمُ المُهاجرينَ قدْراً ، وأشجعهم قلباً ، وأكثرهم علماً ، وأوَّلهم إيماناً ، وأشرفهم منزلة ، وأقدمهم صُحبة ، ابنُ عمِّ رسول

ـــــــــــــــــ

1 ـ الإمامة والسياسة 2 : 17 ـ 18 .


الصفحة 169

الله ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) وصهرُه وأخوه ، زوَّجه ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) ابنته فاطمة وجعله لها بعلاً باختياره لها ، وجعلها له زوجةً باختيارها له ، أبو سِبطَيه سيِّدَي شباب أهل الجنَّة ، وأفضل هذه الأُمَّة ، تربية الرسول ، وابنَي فاطمةَ البتول ، مِن الشجرة الطيِّبة الطاهرة الزكيَّة .

فركب جدَّي منه ما تعلمون ، وركبتُم معه ما لا تجهلون ( 1 ) ، حتَّى انتظمت لجَدِّيَ الأُمور .. فلمَّا جاءه القدَرُ المحتوم ، واخترمتْه أيدي المنون ، بقيَ مُرتهَناً بعمله ، فريداً في قبره ، ووجَدَ ما قدَّمت يداه ، ورأى ما ارتكبه واعتداه .

ثمَّ انتقلت الخلافة إلى يزيد أبي ، فتقلَّد أمرَكم لهوىً كان أبوه فيه ( 2 ) .. ولقد كان أبي يزيد ـ بسوءِ فعله ، وإسرافه على نفسه ـ غيرَ خليقٍ بالخلافة على أُمَّة محمّد ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) ، فركب هواه ، واستحسن خطأه ، وأقدمَ على ما أقدَم : مِن جُرأته على الله ، وبغيهِ على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ). فقلَّت مُدَّته ، وانقطع أثرهُ ، وضاجع عملَه ، وصار حليف حُفرتِه ، رهينَ خطيئتِه . وبقيت أوزاره وتَبِعاته ، وحصل على ما قدَّم ، وندم حيث لا ينفع الندم . وشغلَنا الحزنُ له عن الحزن عليه ، فليت شعري ! ماذا قال ، وماذا قيل له ؟! هل عُوقب

ــــــــــــــــــ

1 ـ أيْ : مِن قتاله ( صِفِّين )، وقتل أبنائه ، ومُلاحقة ذراريه ، ومِن سَبِّه على المنابر قرابة ثمانين عام .. وغير ذلك مِن المآثم العُظمى .

2 ـ لعلَّ في ذلك إشارة إلى هوى معاوية أنْ تكون السلطة وراثيَّة مُتداولة في بني أُميَّة لا تخرج عن أيديهم .


الصفحة 170

بإساءته ، وجُوزيَ بعمله ؟! وذلك ظَنِّي .

ثمَّ اختنقته العَبرةُ فبكى طويلاً وعلا نحيبُه ، ثمَّ قال : وصرتُ أنا ثالثَ القوم ، والساخطُ علَيَّ مِن الراضي . وما كنتُ لأتحَّملَ آثامَكم ، ولا يراني الله ( جلَّت قُدرتُه ) مُتقلِّداً أوزاركم ، وألقاه بتبعاتكم ، فشأنكم أمركم فخُذوه ، ومَن رضِيتُم به عليكم فولُّوه ، فلقد خلعتُ بيعتي مِن أعناقكم ، والسلام ( 1 ) .

* وقد نقل الخُطبة بمضمونٍ مُختصر .. الشهيد السيِّد نور الله القاضي التُستريّ ، وأشار إلى تنصُّل ( معاوية الثاني ) عن الخلافة المُكلَّلة بجرائم جَدِّه معاوية وأبيه يزيد . كما بيَّن للحاضرين في صلاة الجمعة أنَّهم لو أرادوا أنْ يعرفوا مَن أولى بالخلافة وأحقُّ بها فهو الإمام عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) ، فليذهبوا إليه ويُبايعوا هذا الرجلَ الذي لا شائبةَ ولا طعنَ في سيرته ( 2 ) .

* كما نقل المُحدِّث الشيخ عبَّاس القُمِّيّ مضموناً آخَرَ ، جاء في خُطبة معاوية الثاني ، وهو : لَعْنُه لجَدِّه وأبيه ، والتبرُّؤُ مِن أفعالهم .. وأنَّه حينما ذكر ذلك في خُطبته بكى بكاءً شديداً ( 3 ) .

ــــــــــــــــــ

1 ـ حياة الحيوان 1 : 88 .

2 ـ مجالس المؤمنين 2 : 252 .

3 ـ تتمَّة مُنتهى الآمال : 48 .


الصفحة 171

إشارات :

والآن .. لابدَّ لنا أنْ ننتبه إلى المضامين التي طرقها ( معاوية الثاني ) في خُطبته ، فهي إشارات خطيرة هزَّت البيت الأُمويَّ بأسره ، وأحدثت ما أحدثت بين الناس مِن الإيقاظ .

الإشارة الأولى : بيَّن ( معاوية الثاني ) أنَّ السلطة الأُمويَّة كانت قائمةً على الترغيب والترهيب ، والخداع والإضلال ، ولم تكن يوماً قائمةً على مَحبَّة الناس واعتقادهم بها . فالسلطة الأُمويَّة كانت تُغدِق الأموال على شراء الضمائر وكسب الألسن والأقلام لصالحها ، وقد انساق بذلك عُنقٌ مِن الناس إلى بلاط معاوية ويزيد . وكانت ـ مِن جهةٍ أُخرى ـ تقسو على المُعارضين الأحرار ، بقتلهم أو حبسهم في الزنزانات الرهيبة ، وتقطيع أيديهم وأرجلهم وتسميل عيونهم ، إضافةً إلى تشريدهم وإبعادهم . فمَن التفَّ حول السلطة كان يعلم أنَّه يركن إلى الظالمين ويُعينهم على جرائمهم .

وهذه حالة النفاق التي تسرَّبت إلى صفوف الأُمَّة ، كانت إحدى الظواهر التي فتكتْ بها . فأشار إليها معاوية الثاني إشارةً لطيفة ، وصارح الناس فيها صراحةً ظريفة .. فقال لهم : فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا ( 1 ) . أو قال لهم : وإنِّي لأعلم أنَّكم تكرهوننا أيضاً ( 2 ) .

ــــــــــــــــــ

1 ـ كما أسلفنا عن تاريخ اليعقوبيّ .

2 ـ كما مَّر في حياة الحيوان .


الصفحة 172

فالناس يُجارون الظلَمة فيما يشتهون ، مع ما في أنفسهم مِن الكراهة لهم ، والاحتقارِ في أنفسهم .

الإشارة الثانية : اعترف ( معاوية الثاني ) بأنَّ الأوْلى بمنصب الخلافة هُمْ أهلُ بيت النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) ؛ لفضلِهمُ الذي لا يُدانى ، ولقُرباهم منه فهم أهل بيت الوحي ، ولسابقتهم في الإسلام ، وأوَّلُهم أميرُ المؤمنين عليَّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، والذي كلَّله رسولُ الله ( صلَّى الله عليه وآله ) بأحاديث التجليل الفريدة ، وزوَّجَه ابنته فاطمةَ الزهراء سيِّدةَ نساء العالمين ( عليها السلام ) .

وكانت كلمات ( معاوية الثاني ) تعرض بعضَ أدلَّة الإمامة ، أو قُلْ : علاماتِ الأحقَّ بالخلافة بعد المُصطفى ( صلَّى الله عليه وآله ) ، مُعرِّجاً بذلك على خصائص البيت النبويّ وملَكاتهِ الإلهيَّة ، وفضائله التي لا يُشاركه فيها بيت آخر .

وهل كالإمام عليٍّ ظهير للنبوَّة والنبيّ ؟! ( 1 ) ، وهل جاءت في غيره أنَّه بعد الرسولِ الوصيّ ؟! فيوم كان أبو سفيان يُحاول قبر الإسلام واغتيال رسوله .. كان الإمامُ عليٌّ ( عليه السلام ) الناصرَ والمُحامي ، والأخَ المُعاضد . ويوم كان معاوية يشنُّ على الإسلام غاراته في بدر وأُحد وغيرهما ـ مع أبيه ـ أبي سفيان وأُمِّه هند ـ آكلة الأكباد ـ كان الإمامُ

ــــــــــــــــــ

1 ـ يُراجَع في ذلك : الدُّرَّ المنثور في ذيل الآية 4مِن سورة التحريم ، وكنز العمَّال 1 : 237 ، وفتح الباري 1 : 27 ، ومجمع الزوائد 9 : 194 .


الصفحة 173

عليّ ( عليه السلام ) يحمل راية المسلمين ، ويقود عساكرَهم دفاعاً عن بَيضة الإسلام . ويوم كان أبو سفيان يتردَّد على ذوات الرايات والأعلام ، وينحدر إلى نوادي الخمرة ومجالس الفجور .. كان الإمامُ عليٌّ ( عليه السلام ) يصحب النبيَّ إلى غار ( حِراء ) ، حتَّى قال في خُطبةٍ له :

( وقد علِمتُم موضعي مِن رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة . وضعني في حِجْرهِ وأنا ولدٌ يضمَّني إلى صدره ، ويكنُفُني في فراشه ، ويُمِسُّني جسَدَه ، ويُشمُّني عَرْفَه ... ولقد كنتُ أتَّبِعُهُ اتِّباعَ الفصيلِ أَثَرَ أُمِّهِ ، يرفع لي كلِّ يومٍ مِن أخلاقِهِ عَلَماً ، ويأمرُني بالاقتداء به . ولقد كان يُجاور في سنةٍ بـ ( حِراء ) فأراه ، ولا يراه غيري . ولم يجمعْ بيتٌ واحدٌ يومئذٍ غيرَ رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) وخديجةَ وأنا ثالثُهما . أرى نورَ الوحي والرسالة ، وأشُمُّ ريح النبوَّة .. ) ( 1 ) .

هناك كان الإمامُ عليّ ( عليه السلام ) فأين كان معاوية ؟! أين قضى أيَّامه .. حتَّى إذا كبر نازعَ عليَّاً ( عليه السلام ) الخلافة ! ألم يُحرِّم رسولُ الله ( صلَّى الله عليه وآله ) الخلافة على الطُّلقاء كما أشار إلى ذلك عمر ، وروى عنه عبد الرحمان بن أبزي ! (2 ) ، وإنْ كان عمر قد ولاَّه على الشام فيما بعد ، ومعاوية طليق ابن طُلقاء ، تحكي ذلك قِصّةُ فتح مَكَّة .. وقد

ــــــــــــــــــــــ

1 ـ الخُطبة 193 مِن نهج البلاغة .

2 ـ أُسد الغابة 4 : 387 .


الصفحة 174

قال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( الخلافة محرمة على آل ابي سفيان ! ) ( 1 ) .

الإشارة الثالثة : خَلع ( معاوية الثاني ) نفسه عن الخلافة مُعرِباً عن جُملةٍ مِن الأُمور .

منه : تأنيبُ ضميره أنْ ينهض بخلافة هي ولاية الله في الأرض ، تتطلَّب القيام بمسؤوليَّات رساليَّة عُظمى .

ومنه : إيماؤُه إلى أنَّ الخلافة لها أهل ، حاضرون هناك ، قد نحَّاهم سلاطينُ الجور ودفعوهم عن مقامهم .

ومنه : عرْضُ براءته ممَّا ارتكبه جَدُّه معاوية وأبوه يزيد مِن الجرائم المَهولة بحقِّ الدين وأئمَّة المسلمين وشعائر المؤمنين . حتَّى قيل : إنَّه أنشأ ـ بعد الخلع ـ يقول :

يـاليتَ  لـي بـيزيدٍ حـين iiأنتسبُ      أبـاً  سـواه وإنْ أزرى بـه iiالنسَبُ
بـرئتُ مِـن فـعله واللهُ يـشهد iiلي      أنِّي برئتُ وذا في الله قد يجبُ ( 2 )

تعالَوا ـ بعد هذا ـ نتبَّينْ فيما رُوي مِن أنَّ ( معاوية الثاني ) قد كشف هذا الأمر في خُطبة الخلع :

* روى أبو المحاسن ، قال : خطب معاوية بن يزيد الناسَ فقال :

ــــــــــــــــ

1 ـ مقتل الحسين ( عليه السلام ) للخوارزمي 1 : 185 .

2 ـ مجالس المؤمنين 2 : 252 .


الصفحة 175

أيُّها الناس ، إنَّ جَدِّي معاويةَ نازع الأمرَ أهلَه ومَن هو أحقُّ به لقُرابته مِن رسول الله ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) ، وهو عليّ بن أبي طالب ، وركب لكم ما تعلمون .. حتَّى أتتْه منيَّتُه ، فصار في قبره رهيناً بذنوبه ، وأسيراً بخطاياه .

ثمَّ تقلَّد أبي الأمر ، فكان غيرَ أهلٍ لذلك ، وركب هواه ، وأخلفَه الأمل ، وقصر به الأجَل ، وصار في قبره رهيناً بذنوبه ، وأسيراً بجُرمه ... ( 1 ) .

* فيما أخرج ابن حجر ـ في بيان موت يزيد  ، قال : إنَّ معاوية ابن يزيد قال ـ فيما قال  :

ومِن أعظم الأُمور علينا علمُنا بسوءِ مصرعه ( يعني أباه يزيد ) ، وبؤسِ مُنقلَبهِ ، وقد قتل عترةَ رسول الله ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) ، وأباح الخمر وخرَّب الكعبة . ولم أذقْ حلاوة الخلافة ، فلا أتقلَّد مرارتها ، فشأنكم أمركم . واللهِ ، لَئن كانت الدنيا خيراً فقد نلنا منها حَظَّاً ، ولئن كانت شرَّاً فكفى ذُرَّيةَ أبي سفيان ما أصابوا منها ( 2 ) .

قال ابن حجَر بعد ذلك : فرحمه الله ، أنصف مِن أبيه ، وعرَف الحقَّ لأهله .

وكان ابن حجر قد ذكر أنَّ معاوية الثاني قد قال في أوَّل خُطبته : إنَّ هذه الخلافة حبلُ الله ، وإنَّ جدَّي معاويةَ نازع الأمرَ أهلَه ،

ــــــــــــــــ

1 ـ النجوم الزاهرة 1 : 164 .

2 ـ الصواعق المُحرِقة : 134 .


الصفحة 176

ومَن هو أحقُّ به منه ، عليَّ بنَ أبي طالب ، وركبَ بكم ما تعلمون ، حتَّى أتته منيَّتُه فصار في قبره رهيناً بذنوبه . ثمَّ قلَّد أبي الأمرَ ، وكان غيرَ أهلٍ له ، ونازع ابنَ بنت رسول الله ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) ( 1 ) ، فقُصِف عُمره ، وانبتر عَقِبُه ، وصار في قبره رهيناً بذنوبه .

ثمَّ بكى وقال : مِن أعظم الأُمور علينا علمُنا بسوء مصرعه .. ( 2 ) .

* وقال ابن السبكيّ : إنَّ معاوية بن يزيد بن معاوية لمَّا خلع نفسه صَعِد المنبر فجلس طويلاً ، ثمَّ حمد اللهَ وأثنى عليه بأبلغ ما يكون مِن الحمد والثناء ! ثمَّ ذكر النبيَّ ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) بأحسن ما يُذكر به ، ثمّ قال :

أيُّها الناس ، ما أنا بالراغب في الائتمار عليكم ؛ لِعظيم ما أكرهه منكم ، وإنِّي أعلم أنَّكم تكرهونا أيضاً ؛ لأنَّا بُلينا بكم وبُليتم بنا ، ألا إنَّ جدِّي معاوية نازع هذا الأمرَ مَن كان أولى به منه ومِن غيره ؛ لقرابته مِن رسول الله ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) ، وعظيم فضله وسابقته ، أعظمَ المُهاجرين قَدْراً ، وأشجعهم قلباً ، وأكثرهم علماً ، وأوَّلهم إيماناً ، وأشرفهم منزلة ، وأقدمهم صُحبة ، ابنُ عمِّ رسول الله ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) وصهره وأخوه ، زوَّجه ابنتَه ـ رضي الله عنها ـ وجعله لها رجلاً باختياره لها ، وجعَلَها له زوجةً باختيارها له ، أبو سبطَيه سيِّدَي شباب أهل الجنَّة ، وأفضل

ـــــــــــــــــ

1 ـ أيْ الإمام الحسين ( عليه السلام ) .

2 ـ الصواعق المُحرِقة : 134 .


الصفحة 177

هذه الأُمَّة ، تربية الرسول ، وابنا فاطمة البتول ـ رضي الله عنها ـ حتَّى انتظمت لجَدِّي معاوية الأُمور ، فلمَّا جاءه القَدَر المحتوم ، واخترمته أيدي المنون ، بقيَ مُرتهَناً بعمله ، فريداً في قبره ، ووجد ما قدَّمَتْ يداه ، فرأى ما ارتكبه واعتداه .

ثمَّ انتقلتِ الخلافة في أبي يزيد ، فتقلَّد أمرَكم لهوىً كان أبوه هَويه فيه ، ولقد كان أبي يزيدُ بسوء فعله وإسرافه على نفسه غيرَ خليق بالخلافة على أُمَّة محمّد ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) ، فركب هواه ، واستحسن خطأه ، وأقدم على ما قَدِم مِن جُرأته على الله تعالى ، وبغيه على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) ، فقلَّت مُدَّته ، وانقطع أثره ، وضاجع عمله ، وصار حليف حُفرته ، رهينَ خطيئته ، وبقيت أوزاره وتبعاته ، فهل عُوقب بإساءته . وجُوزي بعمله ؟! وذلك ظَنِّي .

ثمَّ خنقته العبرة فبكى طويلاً ، وعلا نحيبه ، وحمد الله ، ثمَّ قال : وصرتُ أنا ثالثَ القوم ، والساخطُ عَلَيَّ أكثر مِن الراضي ، وما كُنتُ لأتحمَّل آثامَكم ، ولا يراني الله جلَّت قدرته مُتقلِّداً أوزارَكم ، وألقاه بتبعاتكم ، فشأنُكم وأمركم فخذوه ، ومَن رضيتم به عليكم فوَلُّوه ، فلقد خلعتُ بيعتي مِن أعناقكم ، والسلام .

فقال له مروان بن الحكم ـ وكان تحت المنبر ـ : أسُنَّة عمريَّة يا أبا ليلى ؟ فقال : اغدُ عنِّي ، أعن ديني تخدعوني ؟! فوالله ، ما ذقت حلاوة خلافتكم فأتجرَّع مرارتها ، أئتني برجال مثل رجال عمر ، على أنَّه


الصفحة 178

كان حين جعلها شورى ، وصرفها عَمَّن لا يشكُّ في عدالته ـ ظلوماً . والله ، لئن كانت الخلافة مغنماً لقد نال أبي معها مغرماً ومأثماً !! ولئن كانت شرَّاً فحسبه منها ما أصابه !!

ثمَّ نزل فدخل عليه أقاربه وأُمًّه فوجدوه يبكي ، فقالت له أُمُّه : ليتك كنت حيضة ، ولم أسمع بخبرك ، فقال : وددت ـ والله ـ ذلك ، ثمَّ قال : ويلي ! إنْ لم يرحمني ربِّي .

ثمَّ إنَّ بني أُميَّة قالوا لمُؤدِّبه القصوص : أنت علَّمته هذا ولقَّنته إيَّاه وصددته عن الخلافة ، وزيَّنت له حُبَّ عليٍّ وأولاده ، وحملته على ما وَسَمَنا به مِن الظلم ، وحسنت له البدع حتَّى نطق بما نطق وقال ما قال !! فقال : والله ، ما فعلته ولكنَّه مجبول ومطبوع على حُبِّ عليٍّ وأولاده ، فلم يقبلوا منه ذلك ، وأخذوه ودفنوه حيَّا حتَّى مات رحمه الله ( 1 ) .

 

ماذا كان بعد الخلع ؟

لابدَّ أنَّ بني أُميَّة كانوا حاضرين في صلاة الجمعة ، وقد سمعوا معاوية الثاني وهو يذكر فضائح زُعمائهم .. فماذا كان موقفهم ؟

تذكر بعض الأخبار أنَّ أقرباءه بعد أنْ نزل مِن المنبر دخلوا عليه مع أُمِّه ، فكان كلام وجواب . وليس ذلك فحسب ، بلْ عمدوا

ــــــــــــــــ

1 ـ سِمط النجوم العوالي 3 : 212 ـ 213 .


الصفحة 179

إلى مؤدِّبه فقتلوه ( 1 ) .

أمَّا أُمُّه .. فماذا قالت يا تُرى ؟! بلْ ـ وقبل كلِّ شيء ـ مَنْ هي أُمُّه يا تُرى ؟

قال اليعقوبيّ : وأُمُّه أُمّ هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة ( 2 ) . فهي حفيدة ( عتبة بن ربيعة ) أحد المُفسدين في الأرض وأحد الفُجَّار ، ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ( 3 ) ؟! ـ كما جاء عن ابن عبّاس ، حيث قال : نزلت هذه الآية في ثلاثةٍ مِن المسلمين .. فهُمُ المُتَّقون الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ ، وثلاثةٍ مِن المُشركين .. فهمُ المُفسدون في الأرض . فأمَّا الثلاثةُ مِن المسلمين : فعليُّ بن أبي طالب ، وحمزة ، وعبيدة . وأمَّا الثلاثة مِن المُشركين : فعتبةُ بن ربيعة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة . وهمُ الذين تبارزوا يوم ( بدر ) .. فقتل عليٌّ الوليد ، وقتل حمزةُ عتبة ، وقتل عبيدةُ شيبة ( 4 ) .

فأُمُّ هاشم هذه والتي هي أُمُّ معاوية الثاني .. هي سليلة المُفسدين الفُجَّار ، ووريثه أحقادهم ، وهي الحريصة كلَّ الحرص على أنْ تبقى

ـــــــــــــــــــ

1 ـ يُراجَع : حياة الحيوان 1 : 89 .

2 ـ تاريخ اليعقوبيّ 2 : 254 .

3 ـ سورة ص : 28 .

4 ـ تفسير فرات الكوفيّ : 131 .


الصفحة 180

الزعامة في بني أُميَّة لا تخرج عن أيديهم ، لا سِيَّما وقد تُوِّج بها زوجها يزيد ، ثمَّ ورَّثها إلى ولدها معاوية .

فكانت خُطبة معاوية الثاني صاعقةً نزلتْ على قلبها ، فتحطَّم كيانها وخابت آمالها ، وضاع منها أمرٌ خامر أحلامها دهراً . فماذا كان ردُّ فعلها بعد أنْ نزل معاوية ابنها مِن منبره ؟!

* يذكر البلاذريّ : أنَّ أُمَّ معاوية الثاني ـ وهي أُمُّ هاشم سليلة آل أبي سفيان ـ قالت له بعد خُطبته تلك :

 لَوددتُ ـ يا بُنيَّ ـ أنَّك كنتَ نَسياً منسيَّاً ، وأنَّك لم تَضعف هذا الضَّعْف !

فقال لها : وددتُ ـ واللهِ ـ أنَّي كنتُ نسياً منسيَّاً ، ولم أسمع بذِكْر جهنَّم ! ( 1 ) .

* يذكر الدميريّ أنَّ معاوية لمَّا نزل دخل عليه أقاربُه وأُمُّه ، فوجدوه يبكي ، فقالت له أُمُّه : ليتَك كنتَ حِيضةً ولم أسمع بخبرك . فقال : وددتُ ـ واللهِ ـ ذلك . ثمَّ قال : ويلي إنْ لم يرحمْني ربِّي ! ( 2 ) .

أو يُروى أنَّ أُمَّه قالت له : ليتَك كنت حَيضةً في خِرقة ، فقال : وأنا وددتُ ذلك يا أُمَّاه ، أما علمتِ أنَّ للهِ ناراً يُعذِّب بها مَن عصاه

ــــــــــــــــــــ

1 ـ أنساب الأشراف 5 : 382 ( طبعة دار الفكر ـ بيروت ) .

2 ـ حياة الحيوان 1 : 89 . والحِيضة : الخِرقة التي تضعها المرأة لتتلَّقى بها دم الحيض .


الصفحة 181

وأخذ غيرَ حقّه ! ( 1 ) .

فكان في جوابه مؤدَّباً مع أُمِّه ، وإنْ أرادت به سوءً ، ولامتْه على تنكُّب طريق جهنَّم  ، فقد بيَّن لها موقفه مقروناً بالدليل الواضح والبيان الصريح ، وحاججها بكلمات قليلةٍ كانت عَرْضاً للحقِّ في صورة جليَّةٍ وبرهانٍ قاطع لا محيص عن مُغالطته أو الفرار عنه .

ورُوي أنَّها كانت قد قالت له : ليتك كنت حيضةً ولم أسمع ما قلتَه على المنبر . أو قالت : ليتك كنتَ حَيضة فلم تُخلَق ولم أكن أرى يومك . فأجابها : وددت ذلك ـ والله ـ ولم أكن أتقلَّد هذا الأمر .. أأتحمَّل وزر الخلافة ويفوز بحلاوتها بنو أُميَّة ؟! ذلك لن يكون ! ( 2 ) .

كتب البلاذريّ : فلمَّا احتُضر قيل له : لو بايعتَ لأخيك خالد بن يزيد ، فإنَّه أخوك لأبيك وأُمِّك ! فقال : سبحان الله ! كُفيتُها حياتي ، وأتقلَّدها بعد موتي ! ( 3 ) .

وكتب المسعوديّ : ولمَّا حضرته الوفاة ، اجتمعتْ إليه بنو أُميَّة فقالوا : اعهدْ إلى مَن رأيتَ مِن أهل بيتك ، فقال : واللهِ ، ما ذقتُ حلاوة خلافتكم ، فكيف أتقلَّد وِزْرَها ؟! وتتعجَّلون أنتم حلاوتها ، وأتعجَّل مرارتها ! اللَّهمَّ إنِّي بريء منها ، مُتخلٍّ عنها .. فقالت له أمُُّه : ليتَ أنِّي

ــــــــــــــــــ

1 ـ عن ( أدب الطفِّ ) للسيِّد جواد شبَّر 3 : 13 .

2 ـ تتمَّة مُنتهى الآمال : 48 .

3 ـ أنساب الأشراف 5 : 382 ( طبعة دار الفكر ـ بيروت ) .


الصفحة 182

خرقة حيضة ولم أسمع منك هذا الكلام ! فقال لها : وليتني ـ يا أُمَّاه ـ خرقة حيض ولم أتقلَّد هذا الأمر ، أتفوز بنو أُميَّة بحلاوتها ، وأبوء بوزرها ومنعِها أهلَها ؟! كلاَّ ، إنِّي لبريء منها ( 1 ) .

أجل .. فقد كان البعض يتربَّص بها ، أنْ يعيش في ظلِّها أميراً أو والياً أو نائلاً لأغراضه الدنيويَّة ، وإنْ كانت عن طريق الخداع والسرقة والظلم  .

والآن .. ما كان موقف مروان بن الحَكَم مِن خلع معاوية الثاني نفسَه عن الخلافة ؟! بلْ مَن هو مروان هذا ـ أوَّلاً ـ ؟!

 

ـــــــــــــــــــ

1 ـ مروج الذهب 3 : 82 .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net