متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
البحث الرابع: حاجة الأنبياء في تبليغ رسالاتهم الى حماية الناس
الكتاب : آيات الغدير    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

البحث الرابع
حاجة الأنبياء عليهم السلام في تبليغ رسالاتهم الى حماية الناس

ارتكب المنظرون للخلافة القرشية من المحدثين والمفسرين، خطأين أساسيين في تفسير آية التبليغ ، فشوهوا بذلك معناها:

الخطأ الأول، في مفهوم تبليغ الأنبياء عليهم السلام ومنهم نبينا صلى الله عليه وآله.

والخطأ الثاني، محاولتهم إخفاء واقع قريش بعد الفتح ، وإبعاد الآية عنها، وأن يصوروا للمسلمين أن قريشاً المشركة منجم الفراعنة وأتباعهم، قد تحولت بين عشية وضحاها، الى قبيلة مسلمةٍ مؤمنةٍ تقيةٍ، تقود الناس بالإسلام والهدى!

معنى التبليغ في القرآن

مفهوم التبليغ في القرآن مفهومٌ بسيط، فتبليغ الرسل يعني بيانهم الرسالة الإلهية للناس.. ثم الناس بعد ذلك مختارون في أن يقبلوا، أو يتولوا، وحسابهم على الله تعالى، وليس على أنبيائه!

ومن هذا الأساس العميق تتفرع عدة مبادئ:

أولاً:

أن النبي يحتاج الى ضمان حرية التعبير عن الرأي، لكي يتمكن من إيصال رسالة ربه الى العباد وإبلاغهم إياها. وقد كان ذلك مطلب الأنبياء عليهم السلام الأول من أممهم.


الصفحة 130

ثانياً:

مهمة الأنبياء عليهم السلام هي التبليغ فقط (الإبلاغ) حتى أن الجهاد لم يكن مفروضاً على أحد من الأنبياء قبل ابراهيم عليهم السلام وقد فرضه الله تعالى عليه وعلى الأنبياء من ذريته ( وكل الأنبياء والأوصياء بعده من ذريته) من أجل إزاحة العقبات المانعة من التبليغ، أو رد اعتداءات الكفار على الذين اختاروا الدين الإلهي وإقامة حياتهم على أساسه.

ثالثاً:

لا إكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. فينبغي أن يبقى قانون الهداية والإضلال فعالاً، والقدرة على عمل الخير والشر متوفرة.

رابعاً:

الهدف من الإبلاغ هو إقامة الحجة لله على عباده، واضحة كاملة تامة.. حتى لا يقولوا يوم القيامة: لم يقل النبي لنا، لم يبلغنا ذلك، لم نعرف ذلك، وكنا عنه غافلين. فإقامة الحجة في الدين الإلهي محورٌ أصلي دائم في عمل الأنبياء عليهم السلام سواء على مستوى الكافرين، أو على مستوى أممهم المؤمنين بهم.

فالمهم عند النبي عليه السلام أن يوصل العقيدة والأحكام الى الناس.. أن يقول لهم، ويبين لهم، ويوضح لهم ويفهمهم.. وبذلك يقيم الحجة لربه عز وجل.. وبذلك يؤدي ما عليه، ويسقط المسؤولية عن عاتقه.

أما استجابتهم أو تكذيبهم.. وأما عملهم وسلوكهم، فهو شأنهم وليس النبي مسؤولاً عنه، بل هو من اختصاص الله تعالى.

قال الله تعالى: قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين . الأنعام ـ 149

وأدلة هذه الحقائق التي ذكرناها كثيرة، من آيات القرآن وأحاديث السنة، نشير منها الى ماذكره الله تعالى من قول نوح عليه السلام: أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ، وأعلم من الله ما لا تعلمون. الأعراف ـ 62

وقول شعيب عليه السلام: فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين. الأعراف ـ 93


الصفحة 131

وقول هود عليه السلام: فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ. هود ـ 57

وقوله تعالى عن مهمة جميع الرسل الذين بعثهم عليهم السلام :

فهل على الرسل إلا البلاغ المبين. النحل ـ 35

قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون. وما علينا إلا البلاغ المبين. يس 16 ـ 17

ولايتسع المجال لاستعراض مفاهيم التبليغ وأحكامه في القرآن والحديث، فهي أجزاء مشرقة من (نظرية متكاملة) نشير منها الى أنه تعالى وصف دينه وقرآنه بأنه بلاغ فقال: هذا بلاغٌ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إلَ~ه واحد وليذكر أولو الألباب. ابراهيم ـ 52

وقال إنه بلاغ يشمل الأجيال الآتية التي يَبْلُغها الإسلام:

قل أي شيء أكبر شهادةً؟ قل الله شهيد بيني وبينكم، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ. الأنعام ـ 19

وأثنى تعالى على أمانة أنبيائه وشجاعتهم في تبليغ رسالاته، رغم مقاومة الناس واستهزائهم، فقال عز وجل: الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا. الأحزاب ـ 39

كما وصف سبحانه عملية تلقي الوحي وتبليغه بأنه من الأعمال الدقيقة الخطيرة التي تحتاج الى شخصيات من نوع خاص، وحراسة ربانية خاصة لهم أيضاً، فقال:

عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا. الجن 26 ـ 28

مهمة نبينا صلى الله عليه وآله في التبليغ

والذي يتصل بموضوعنا مباشرةً هو تبليغ نبينا محمد صلى الله عليه وآله فقد قال تعالى عن مهمته ومسؤوليته: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا، فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين. المائدة ـ 92


الصفحة 132

قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم. وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين. النور ـ 54

فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد. آل عمران ـ 20

فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ. الشورى ـ 48

فقد أرسل الله نبينا صلى الله عليه وآله على أساس نظام الرسالة والتبليغ الإلهي، الذي أرسل به جميع الأنبياء عليهم السلام وهو قاعدة: إقامة الحجة وإتمامها على الناس، وعدم إجبارهم على العمل. وهذا هو معنى (فإنما عليك البلاغ) فقط، وفقط!

وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وآله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم.

فالإجبار الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله هو إجبار أهل الكتاب على التعايش مع المسلمين ، وليس على الدخول في الإسلام، وإجبار المشركين الوثنيين على الدخول في الإطار العام للإسلام.. وما عداه متروكٌ للأمة، داخل هذا الإطار، يطيع منها من يطيع، ويعصي من يعصي، ويهتدي منها من يهتدي، ويضل من يضل.. والمحاسب هو الله تعالى .

ومن الطبيعي إذن، أن تحتاج مهمة التبليغ الى حماية للنبي صلى الله عليه وآله حتى يؤديها وإلا فإن قبائل قريش الذين يدركون خطر دعوته على نفوذهم وآلهتهم، سرعان ما يدبرون قتله، أو تشويه سمعته وعزله، وحجب الناس عن سماع صوته.

ورغم أن الألطاف الإلهية على أنبيائه عليهم السلام كثيرة ومتنوعة، وما خفي عنا منها أعظم مما عرفناه، أو ما يمكن أن يبلغه فهمنا.. لكن سنته سبحانه في الرسل أن يترك حمايتهم للأسباب (الطبيعية ) مضافاً الى تلك الألطاف.

ولا يوجد دليلٌ واحدٌ على ما ذكروه من ضمان الله تعالى عصمة نبيه صلى الله عليه وآله من الجرح والقتل، وأنواع الأذى التي قد يتعرض لها.. وقد تقدمت النصوص الدالة على استمرار حراسته صلى الله عليه وآله الى آخر حياته، ونضيف هنا ما رواه الجميع من أنه صلى الله عليه وآله كان يطلب من قبائل العرب تأمين هذه الحماية حتى يبلغ رسالة ربه.


الصفحة 133

ـ ففي سيرة ابن هشام: 2|23 عن ربيعة بن عباد، قال:

إني لغلامٌ شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به. انتهى. ورواه الطبري في تاريخه: 2|83، وابن كثير في سيرته: 2|155

ـ وقال اليعقوبي في تاريخه: 2|35:

وكان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم شريف كل قوم، لايسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحداً منكم، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل، حتى أبلغ رسالات ربي، فلم يقبله أحد، وكانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به! انتهى.

كذلك نصت المصادر على أنه صلى الله عليه وآله طلب البيعة من الانصار، على حمايته وحماية أهل بيته مما يحمون أنفسهم وأهليهم.. ففي سيرة ابن هشام: 2|38: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن، ودعا الى الله، ورغب في الإسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. قال فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.

ـ ورواه في تاريخ الطبري : 2|92، وأسد الغابة: 1|174، وعيون الأثر: 1|217، وسيرة ابن كثير: 2|198، ورواه أحمد: 3|461، وقال عنه في مجمع الزوائد: 6|44: رواه أحمد والطبراني بنحوه، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن اسحق وقد صرح بالسماع. ورواه في كنز العمال: 1|328، و 8|29

***


الصفحة 134

الى هنا يتسق الموضوع.. فقد طلب النبي صلى الله عليه وآله الحماية لتبليغ رسالة ربه على سنة الله تعالى في من مضى من الأنبياء عليهم السلام وحصل عليها من الأنصار ، ونصره الله تعالى وهزم أعداءه من المشركين واليهود، وشملت دولته شبه الجزيرة العربية واليمن والبحرين وساحل الخليج، وامتدت الى أطراف الشام، وصار جيش الإسلام يهدد الروم في الشام وفلسطين.. وها هو صلى الله عليه وآله في السنة العاشرة يودع المسلمين في حجة الوداع، ويتلقى سورة المائدة ويتلقى فيها آية تأمره بالتبليغ وتطمئنه بالعصمة من الناس!!

فما عدا مما بدا، حتى نزل الأمر بالتبليغ في آخر التبليغ ، وصار النبي صلى الله عليه وآله الآن وهو قائد الدولة القوية، بحاجة الى حماية وعصمة من الناس!!

إن الباحث ملزمٌ هنا أن يستبعد حاجة النبي صلى الله عليه وآله الى الحماية المادية، لأن الله تعالى أراد أن تجري بالأسباب الطبيعية، ووفرها على أحسن وجه.. فلا بد أن تكون العصمة في الآية من نوع الحماية المعنوية.

والباحث ملزمٌ ثانياً، أن يفسر الأمر بالتبليغ في الآية بأنه تبليغُ موضوعٍ ثقيلٍ على الناس .. وأن يفسر الناس الذين يثقل عليهم ذلك بالمنافقين من المسلمين، لأنه لم يبق أمرٌ ثقيلٌ على الكفار إلا وبلغه لهم، كما أنه لم يبلغهم أمراً بارزاً بعد نزول الآية.

وبهذا لا يبقى معنى للعصمة النازلة من عند الله تعالى، إلا العصمة من الطعن في نبوته، إذا بلغهم أن الحكم من بعده في أهل بيته صلى الله عليه وآله.

فبذلك فقط يتسق معنى الآية ويكون معناها:

يأيها الرسول: إنما أنت رسول مبلغ، ولست مسؤولاً عن النتيجة وما يحدث، بل هو من اختصاص ربك تعالى .

بلغ ما أنزل اليك من ربك: وأمرك به جبرئيل في علي، وحاولت تبليغه مرات في حجة الوداع، فشوش المنافقون عليك.


الصفحة 135

وإن لم تفعل فما بلغت رسالته: ولم تكمل إقامة الحجة لربك، لأن ولاية عترتك ليست أمراً شخصياً يخصك، وإن ظنه المنافقون كذلك، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من هذه الرسالة الخاتمة الموحدة، وإذا انتفى الجزء انتفى الكل.

والله يعصمك من الناس: من طعن قريش بنبوتك بسبب هذا التبليغ ، وإن كان ثقيلاً عليها.. فسوف يمنعها الله أن ترفض نبوتك بسببه.. وسوف تمر المسألة بسلام ولا يكون تشويش عليك في التبليغ ولا ردة.. وبذلك تكون بلغت عن ربك، وأتممت له الحجة على أمتك.. ولكن علياً سوف يحتاج الى قتالها على تأويل القرآن كما قاتلتها أنت على تنزيله!

إن الله لا يهدي القوم الكافرين: الذين يظلمون عترتك من بعدك، ويظلمون الأمة بذلك، ويبدلون نعمة الله كفراً، ويحلون الأمة دار البوار!

***

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net