متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
البحث الخامس: قريش هي السبب في حاجة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الى عصمة إضافية
الكتاب : آيات الغدير    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

البحث الخامس

قريش هي السبب في حاجة نبينا صلى الله عليه وآله الى عصمة إضافية

تدل الآية الكريمة والنصوص العديدة على أن تبليغ النبي صلى الله عليه وآله لرسالة ربه في عترته عليهم السلام كان من شأنه أن يحدث زلزلة في الأمة وتهديداً لنبوته صلى الله عليه وآله !

فما هو السبب، وما هي الظروف التي كانت قائمة؟ !

إن مصدر الخطر على ترتيب النبي صلى الله عليه وآله لأمر الخلافة من بعده، كان محصوراً في قريش وحدها.. فلا قبائل العرب غير قريش، ولا اليهود، ولا النصارى.. يستطيعون التدخل في هذا الموضوع الداخلي وإعطاء الرأي فيه، فضلاً عن عرقلة تبليغه أو تنفيذه!

والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله كان آيساً من إمكانية تنفيذ هذا الموضوع، بدليل أنه كان يخشى ظهور الردة من مجرد تبليغه بشكل صريح ورسمي!!

والسبب في ذلك طبيعة قريش وتركيبتها القبلية!

قريش منجم الفراعنة

زعماء قريش الذين واجهوا النبي صلى الله عليه وآله ـ إذا صحت أنسابهم الى إسماعيل عليه السلام ـ فإنهم يكونون ذرية إسماعيل الفاسدة، وقد جمعوا بين صفات اليهود المعقدة من أبناء عمهم إسحاق، وبين غطرسة رؤساء القبائل الصحراوية الخشنة!


الصفحة 138

وقريش، باستثناء بني هاشم والقليل القليل من غيرهم، منجماً للتكبر! فقد حكم الله سبحانه على زعمائها بأنهم فراعنة تماماً، بالجمع لا بالمفرد، فقال تعالى: إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدا عليكم كما أرسلنا الى فرعون رسولا. فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلا. المزمل ـ 15 ـ 16

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله عن عدد منهم لما وقف على قتلى بدر:

جزاكم الله من عصابة شراً! لقد كذبتموني صادقاً وخونتموني أميناً.

ثم التفت الى أبي جهل بن هشام، فقال: إن هذا أعتى على الله من فرعون! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحِّدَ الله، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى!!

(حلية الأبرار: 1|127، أمالي الطوسي: 1|316، وعنه البحار: 19|272 ح 11 وكذا في مجمع الزوائد: 6|91).

ـ وروى ابن هشام في: 1|207 قول أبي جهل:

تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبيٌّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه! والله لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه! انتهى. ورواه في عيون الأثر: 1|146، وابن كثير في سيرته: 1|506.

ـ وفي تفسير القمي: 1|276

قال رسول الله صلى الله عليه وآله لقريش: إن الله بعثني أن أقتل جميع ملوك الدنيا وأجرَّ الملك اليكم، فأجيبوني الى ما أدعوكم اليه تملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونوا ملوكاً في الجنة. فقال أبو جهل: اللهم إن كان هذا الذي يقوله محمد هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو آتنا بعذاب أليم، حسداً لرسول الله صلى الله عليه وآله، ثم قال: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان، نحمل إذا حملوا، ونطعن إذا طعنوا، ونوقد إذا أوقدوا، فلما استوى بنا وبهم الركب، قال قائل منهم: منا نبي! لا نرضى بذلك أن يكون في بني هاشم، ولا يكون في بني مخزوم!!


الصفحة 139

ـ وقال الأبشيهي في المستطرف: 1|58

قال معاوية لرجل من اليمن: ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم أمرأة! فقال: أجهلُ من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم إن كان هذا الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فاهدنا اليه.

ـ وقال البياضي في الصراط المستقيم: 3|49

قال معاوية: فضل الله قريشاً بثلاث: وأنذر عشيرتك الأقربين، ونحن الأقربون. وإنه لذكرٌ لك ولقومك، ونحن قومه. لإيلاف قريش، ونحن قريش.

فقال رجلٌ أنصاري: على رسلك يامعاوية، قال الله: وكذب به قومك، وأنت من قومه. إذا قومك عنه يصدون، وأنت من قومه. إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا، وأنت من قومه!! فهذه ثلاثٌ بثلاث، ولو زدتنا لزدناك!! فأفهمه. انتهى.

وفرعون وقومه عندما أخذهم الله بالسنين، طلبوا من موسى عليه السلام أن يدعو لهم ربه.. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا ربه على قريش فأخذهم الله بالسنين، وأصيبوا بالفقر والقحط، حتى أكلوا العلهز.. وما استكانوا لربهم وما يتضرعون!!

ـ قال الحاكم في المستدرك: 2|394

عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان الى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم، قد أكلنا العلهز! يعني الوبر والدم، فأنزل الله عز وجل: ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون. هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. انتهى.

ولكن أتباع الخلافة الأموية لا يعجبهم هذا الحديث، ولا يفسرون به الآية، ويقولون إن القرشيين خضعوا لربهم وتضرعوا، ودعا لهم الرسول صلى الله عليه وآله!! فانظرالى ما قاله ابن كثير في البداية والنهاية: 6|101.


الصفحة 140

لما دعا على قريش حين استعصت أن يسلط الله عليها سبعاً كسبع يوسف، فأصابتهم سنة حصدت كل شيء، حتى أكلوا العظام والكلاب والعلهز. ثم أتى أبو سفيان يشفع عنده في أن يدعو الله لهم، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم!!. انتهى.

ومشكلة ابن كثير أنه يحب رائحة أبي سفيان، وإلا فهو مؤلفٌ في السيرة، يعرف أن مجىَ أبي سفيان كان بعد أن أشفق النبي صلى الله عليه وآله على حالة قريش، وأرسل اليهم بأحمال من المواد الغذائية وبعض الأموال، لعلهم يستكينوا لله تعالى ويؤمنوا به وبرسوله، فاغتنموا لفتة القلب النبوي الرحيم، وبعثوا أبا سفيان بمشروع (صلح) مع النبي صلى الله عليه وآله من نوع مشاريع السلام الإسرائيلية في عصرنا، فرفضه النبي صلى الله عليه وآله وذهب أبو سفيان الى علي وفاطمة عليهما السلام يرجوهما التوسط الى النبي صلى الله عليه وآله فلم يقبلا، وعرض عليهم أن يكون هذا (الصلح) باسم الحسن والحسين عليهما السلام حتى يكون فخراً لهما في العرب، فقالا: إنا لا نجير أحداً على رسول الله صلى الله عليه وآله!!

ـ قال في معجم البلدان: 3|458

والعلهز: دم القراد والوبر، يلبك ويشوى ويؤكل في الجدب! وقال آخرون: العلهز دم يابس يدق مع أوبارالإبل في المجاعات. وأنشد بعضهم:

وإن قرى قحطان قرفٌ وعلهزٌ

فأقبح بهذا ويحَ نفسك من فعلِ!

قبائل قريش

وكانت قريش أكثر من عشرين قبيلة منها:

بنو هاشم بن عبد مناف

بنو أمية بن عبد شمس

بنو عبد الدار بن قصي

بنو مخزوم بن يقظة بن مرة

بنو زهرة بن كلاب

بنو أسد بن عبد العزى


الصفحة 141

بنو الحارث بن فهر بن مالك

بنو عامر بن لؤى

بنو سهم بن عمرو

بنو جمح بن عمرو

بنو أنمار بن بغيض

بنو تيم بن مرة بن كعب

بنو عدي بن كعب... الخ.

ولكن الفعل والتأثير كان للقبائل المهمة، والزعماء المهمين، وهم بضع قبائل، والباقون تبعٌ لهم الى حد كبير.. فقد وصف ابن هشام اجتماع دار الندوة الذي بحث فيه قادة القبائل (مشكلة نبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم) فقال في 2|331: وقد اجتمع فيها أشراف قريش:

من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب.

ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل.

ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة.

ومن بني أسد بن عبد العزى: أبوالبختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام.

ومن بني مخزوم: أبو جهل ابن هشام.

ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج.

ومن بني جمح: أمية بن خلف.

ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش، فقال بعضهم لبعض:

إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً.


الصفحة 142

قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: إحبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به...الخ.

ـ وقال في: 2|488 مسمياً المنفقين على جيش المشركين في بدر:

وكان المطعمون من قريش ثم من بني هاشم بن عبد مناف: العباس بن عبد المطلب بن هاشم.

ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.

ومن بني نوفل بن عبد مناف: الحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، يعتقبان ذلك.

ومن بني أسد بن عبد العزى: أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد، وحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، يعتقبان ذلك.

ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار. انتهى.

واليك هذا الترتيب الذي رتبه الخليفة عمر لقبائل قريش، في سجل الدولة لتوزيع العطاءات، فإنه يدل على تركيبة قبائلها، وتميز بني هاشم عليهم:

ـ قال البيهقي في سننه: 6|364:

عن الشافعي وغيره، أن عمر رضي الله عنه لما دوَّن الدواوين قال: إبدأ ببني هاشم، ثم قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم وبني المطلب... فوضع الديوان على ذلك، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة.

ثم استوت له عبد شمس ونوفل في جذم النسب، فقال: عبد شمس إخوة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه وأمه دون نوفل، فقدمهم، ثم دعا بني نوفل يتلونهم.

ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار، فقال في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم أنهم من المطيبين... فقدمهم على بني عبد الدار، ثم دعا بني عبد الدار يتلونهم.


الصفحة 143

ثم انفردت له زهرة فدعاها تلو عبد الدار.

ثم استوت له تيمٌ ومخزوم، فقال في بني تيم إنهم من حلف الفضول والمطيبين وفيهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل ذكر سابقةً، وقيل ذكر صهراً فقدمهم على مخزوم.

ثم دعا مخزوم يتلونهم.

ثم استوت له سهمٌ وجمحٌ وعديُّ بن كعب، فقيل له إبدأ بعدي فقال بل أقر نفسي حيث كنت، فإن الاسلام دخل وأمرنا وأمر بني سهم واحد، ولكن انظروا بني جمح وسهم، فقيل قدم بني جمح.

ثم دعا بني سهم، وكان ديوان عدي وسهم مختلطاً كالدعوة الواحدة، فلما خلصت اليه دعوته كبر تكبيرة عالية، ثم قال: الحمد لله الذى أوصل اليَّ حظي من رسوله.

ثم دعا بني عامر بن لؤي، قال الشافعي: فقال بعضهم إن أبا عبيدة بن عبد الله بن الجراح الفهري لما رأى من تقدم عليه قال: أكل هؤلاء تدعو أمامي؟ !

فقال: يا أبا عبيدة، إصبر كما صبرتُ أو كلم قومك فمن قدمك منهم على نفسه لم أمنعه، فأما أنا وبنو عدي فنقدمك إن أحببت على أنفسنا.

قال فقدم معاوية بعدُ بني الحارث بن فهر، فصل بهم بين بني عبد مناف وأسد بن عبد العزى.

وشجر بين بني سهم وعدي شىَ في زمان المهدي فافترقوا، فأمر المهدي ببني عدي فقدموا على سهم وجمح، للسابقة فيهم.

***

وقد اعترف الجميع بأن فرع هاشم كانوا متميزين على بقية الفروع في فكرهم وسلوكهم، متفوقين في فعاليتهم وقيمهم.. وأن جمهور القبائل والملوك كانوا


الصفحة 144

يحترمونهم احتراماً خاصاً.. حتى حسدهم زعماء قريش، وتحالفوا ضدهم من أيام هاشم وعبد المطلب.

فقد رتب هاشم (رحلة الصيف) الى الشام وفلسطين ومصر لقبائل قريش كلها، فسافر في الصحاري والدول، وفاوض رؤساء القبائل، والملوك، الذين تمر في مناطقهم قوافل قريش، وعقد معهم جميعاً معاهداتٍ بعدم الغارة على قوافل قريش وضمان سلامتها.

وقد فرحت قبائل قريش بهذا الإنجاز، وبادرت الى الإستفادة منه، ولكنها حسدت هاشماً، وتمنى زعماؤها لو أن ذلك تم على يدهم، وكان فخره لهم.

وقد توفي هاشم مبكراً في إحدى سفراته في أرض غزة، في ظروف من حق الباحث أن يشك فيها!

ولكن بيت هاشم لم ينطفىَ بعده، فسرعان ماظهر ولده عبد المطلب، وساد في قومه، وواصل مآثر أبيه، فرتب لقريش رحلة الشتاء الى اليمن، وعقد معاهداتٍ لحماية قوافلها مع كل القبائل التي تمر عليها ومع ملك اليمن، وفاز بفخرها كما فاز أبوه بفخر رحلة الصيف.

***

وعلى الصعيد المعنوي، كانت قبائل قريش ترى أن بني هاشم وعبد المطلب يباهون دائماً بانتمائهم الى إسماعيل، واتباعهم لملة ابراهيم، كأنهم وحدهم أبناء إسماعيل وابراهيم عليهما السلام.

وتفاقم الأمر عندما أخذ عبد المطلب يدعي الإلهام عن طريق الرؤيا الصادقة، وأخبرهم بأن الله تعالى أمره بحفر زمزم التي جفت وانقرضت من قديم، فحفرها ونبع ماؤها بإذن الله تعالى، ووجد فيها غزالين من ذهب، فزين بذهبهما باب الكعبة ففاز بمأثرةٍ جديدة وصار ـ بسبب شحة الماء في مكة ـ ساقي الحرم والحجيح!


الصفحة 145

ثم طمأن الناس عند غزو الحبشة للكعبة، بأن الجيش لن يصل اليها، وأن الله تعالى سيتولى دفعهم، فصدقت نبوءته، وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول.

ثم وضع عبد المطلب للناس مراسم وسنناً، كأنه نبي أو ممهد لنبي، فجعل الطواف سبعاً وكان بعض العرب يطوفون بالبيت عريانين لأن ثيابهم ليست حلالاً، فحرم عبد المطلب ذلك. ونهى عن قتل الموؤودة. وأوجب الوفاء بالنذر، وتعظيم الاشهر الحرم. وحرم الخمر. وحرم الزنا ووضع الحد عليه، ونفى البغايا ذوات الرايات الى خارج مكة. وحرم نكاح المحارم. وأوجب قطع يد السارق. وشدد على القتل، وجعل ديته مئة من الإبل.

وقد عظمت مكانة عبد المطلب في قريش وفي قبائل العرب، وكان زعماء قريش يأكلهم الحسد منه! حتى جروه مرتين الى المنافرة والإحتكام الى الكهان فنصره الله عليهم بكرامة جديدة، وتعاظمت مكانته أكثر!

ولعل أكثر ما أثار زعماء قريش في آخر أيام عبد المطلب، أنه ادعى أنه مثل جده ابراهيم عليه السلام، ونذر أن يذبح أحد أولاده قرباناً لرب الكعبة.. الخ.

وما أن استراح زعماء قريش من عبد المطلب، حتى ظهر ولده أبو طالب وساد في قومه وفي قريش والعرب، وأخذ مكانة أبيه وجده، وواصل سيرة أبيه عبد المطلب ومقولاته.

وفي أيام أبي طالب وقعت المصيبة على زعماء قريش عندما ادعى ابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله النبوة، وطلب منهم الإيمان به وإطاعته!

وزاد من خوفهم أن عدداً من بني هاشم وبني المطلب آمنوا بنبوته، وأعلن عمه أبو طالب حمايته لابن أخيه النبي صلى الله عليه وآله ليبلغ رسالة ربه بكامل حريته، وهدد قريشاً بالحرب إن هي مست منه شعرة، ووقف في وجه مؤامراتها، وأطلق قصائده في


الصفحة 146

فضح زعماءها فسارت بشعره الركبان يمدح فيه محمداً صلى الله عليه وآله، ويهجو زعماء قريش حتى أنه سمى زعيم مخزوم أبا الحكم (أحيمق مخزوم) كما سماه ابن أخيه محمد (أبا جهل)!!

ونشط الزعماء القرشيون في مقاومة النبوة بأنواع الإغراءات والتهديدات لأبي طالب وابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله.. ففشلوا!

ثم اتخذوا قراراً باضطهاد المسلمين الذين تطالهم أيديهم، فهرب أكثرهم الى الحبشة.. وفشل زعماء قريش!

ثم اتخذوا قراراً بالإجماع وضموا اليهم بني كنانة، بعزل كل بني هاشم ومقاطعتهم مقاطعة تامة شاملة، وحصروهم في شعبهم ثلاث سنوات أو أربع.. فأفشل الله محاصرتهم بمعجزة!

وما أن فقد بنو هاشم رئيسهم أبا طالب، حتى اتحد زعماء قريش قراراً بالإجماع بقتل محمد صلى الله عليه وآله، الذي بقي بزعمهم بلا حامٍ ولا ناصر.. فأفشل الله كيدهم ونقل رسوله الى المدينة التي أسلم أكثر أهلها!

وحاول القرشيون أن يضغطوا على أهل المدينة بالإغراء والوعيد، واليهود.. ولكنهم فشلوا، لأن المدينة صارت في يد النبي صلى الله عليه وآله وهي تقع على طريق شريانهم التجاري، وتهددهم بقطع تجارتهم مع الشام ومنطقتها!

فقرروا دخول الحرب مع ابن بني هاشم، وحاربوه في بدر، وأحد، والخندق.. ففشلوا!

وحاربوه باليهود، واستنصروا عليه بالفرس والروم.. ففشلوا!

وما هو إلا أن فاجأهم محمد صلى الله عليه وآله في السنة الثامنة من هجرته.. ودخل عليهم عاصمتهم مكة، بجيش من جنود الله لا قبل لهم به. فاضطروا أن يعلنوا إلقاء سلاحهم، والتسليم للنبي صلى الله عليه وآله !


الصفحة 147

وقام أهل مكة سماطين ينظرون الى دخول رسول الله صلى الله عليه وآله والى جيشه..

وتقدم براية الفتح بين يديه شابٌّ أنصاري من قبيلة الخزرج اليمانية، هو عبد الله بن رواحة، وهو يقول للفراعنة:

خلـُّـوا بني الكـفار عن سبيلِهِ

فاليـوم نضربْكم علـى تنزيلهِ

ضرباً يـزيـل الهام عن مَقِيلِهِ

ويـذهـلُ الـخليـلَ عن خليله

يا رب إنـي مـؤمـن بقيله

فقال عمر بن الخطاب: يابن رواحة، أفي حرم الله وبين يدي رسول الله، تقول الشعر!!

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: مهْ يا عمر، فو الذي نفسي بيده، لكلامه هذا أشد عليهم من وقع النبل) ! (البيهقي في سننه: 10|228، ونحوه الترمذي: 4|217، والذهبي في سير أعلام النبلاء: 1|235)

فعمر يريد أن يخفف على زعماء قريش وقع هزيمتهم، ولا يتحداهم في عاصمتهم.. ولا ننسى أن عمر من قبيلة عدي الصغيرة، وأنه نشأ على احترام زعماء قريش وإكبارهم.

ولكن الرؤية النبوية أن هؤلاء الفراعنة لا يفهمون إلا لغة السيوف والسهام، وأن عمل عبد الله بن رواحة عملٌ صحيحٌ، وقيمته عاليةٌ عند الله تعالى، لأنه أشد على أعداء الله من وقع النبل!!

***

وأعلن الرسول صلى الله عليه وآله الأمان لقريش، وجمع زعماءهم في المسجد الحرام وسيوف جنود الله فوق رؤوسهم.. وشرح لهم تكبرهم وتجبرهم وتكذيبهم لآيات الله ومعجزاته، وعداءهم لله ورسوله، واضطهادهم لبني هاشم والمسلمين، وحروبهم ومكائدهم ضد الإسلام ورسوله..


الصفحة 148

ـ قال الطبري في تاريخه: 2|337:

عن قتادة السدوسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائماً حين وقف على باب الكعبة ثم قال:

لا إله الا إلله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ألا كل مأثرةٍ أو دمٍ أو مالٍ يدَّعى، فهو تحت قدميَّ هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج...

يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم خلق من تراب. (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).. الآية.

يا معشر قريش ويا أهل مكة: ماترون أني فاعلٌ بكم؟ !

قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم.

ثم قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.

فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوةً، وكانوا له فَيْأً، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء. انتهى.

لقد خيرهم صلى الله عليه وآله بين إعلان إسلامهم أو القتل: فأعلنوا إسلامهم، فقال لهم: إذهبوا فأنتم الطلقاء، وذلك يعني أنه منَّ عليهم بحياتهم، مع أنهم يستحقون أن يتخذهم عبيداً، أو يقتلهم!!

ويعني أن إعلان إسلامهم الشكلي، لم يرفع جواز استرقاقهم أو قتلهم!

***

ومما صادفته في تصفحي، ما ارتكبه الشيخ ناصر الدين الألباني من تعصبٍ مفضوح للقرشيين، حيث ضعف هذا الحديث! فقال في سلسلة أحاديثه الضعيفة


الصفحة 149

3|307 برقم 1163: ضعيف. رواه ابن إسحاق في السيرة 4|31 ـ 32، وعنه الطبري في التاريخ 3|120، ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 4|300 ـ 301، ساكتاً عليه. وهذا سندٌ ضعيف مرسل، لأن شيخ ابن إسحاق فيه لم يسمَّ، فهو مجهول. ثم هو ليس صحابياً، لأن ابن إسحاق لم يدرك أحداً من الصحابة، بل هو يروي عن التابعين وأقرانه، فهو مرسل، أو معضل. انتهى.

وكأن هذا المحدث لم يطلع على وجود هذا الحديث ومؤيداته في المصادر الأخرى، ولم ير المحدثين والفقهاء وهم يرسلونه إرسال المسلمات..

وما أدري هل هو جهلٌ بالتاريخ والحديث الى هذا الحد.. أم حبٌّ للقرشيين ومحاولةٌ لتخليصهم من صفة الرق الشرعية للرسول وآله صلى الله عليه وآله؟! فإن مسألة الطلقاء ثابتة مشهورة عند جميع الفرق، واسم (الطلقاء) كالعلم لأكثر قريش، وهو كثيرٌ في مصادر الحديث، وقد دخلت أحكامه في فقه المذاهب.

ـ فقد روى البخارى في صحيحه: 5|105 ـ 106

قال لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء، فأدبروا...

ـ وفي مسلم: 3|106: ومعه الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده!!

ونحوه في: 5|196 ونحوه في مسند أحمد: 3|190 و 279

والصحيح أنه لم يثبت معه إلا بنو هاشم.

ـ وفي مسند أحمد: 4|363: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض، الى يوم القيامة.

وقد صححه الحاكم في المستدرك: 4|80، وقال عنه في مجمع الزوائد: 10|15:

رواه أحمد والطبراني بأسانيد، وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح، وقد جوده رضي الله عنه وعنا، فإنه رواه عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن هلال العبسي، عن جرير وموسى بن عبد الله بن هلال العبسي.


الصفحة 150

ـ وقال الشافعي في كتاب الأم: 7|382

قال الأوزاعي: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة، فخلى بين المهاجرين وأرضهم ودورهم بمكة، ولم يجعلها فيئاً.

قال أبو يوسف رحمه الله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن مكة وأهلها وقال:

من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ونهى عن القتل إلا نفراً قد سماهم، إلا أن يقاتل أحدٌ فيقتل، وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد: ما ترون أني صانعٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم.

قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء. ولم يجعل شيئاً قليلاً ولا كثيراً من متاعهم فيئاً. وقد أخبرتك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في هذا كغيره، فهذا من ذلك، وتفهَّم فيما أتاك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لذلك وجوهاً ومعاني. انتهى.

وراجع أيضاً مغني ابن قدامة: 7|321، ومبسوط السرخسي: 10|39، ومسند أحمد: 3 | 279، وسنن البيهقي: 6|306، و: 8|266 و: 9|118، وكنز العمال: 12|86.

ـ وفي كنز العمال: 5|735: قال لهم عمر: إن هذا الأمر لايصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء، فإن اختلفتم فلا تظنوا عبد الله بن أبي ربيعة عنكم غافلاً ـ ابن سعد. انتهى.

وكذلك الأمر في مصادرنا:

ـ ففي نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده: 3|30 في جواب علي عليه السلام لمعاوية:

وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلانٌ وفلانٌ، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم تلحقك ثلمته.

وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟ ! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم.

هيهات، لقد حنَّ قدحٌ ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها.

ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخر حيث أخرك


الصفحة 151

القدر، فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر.. وإنك لذهاب في التيه رواغ عن القصد.

ـ وفي الكافي: 3|512

من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده... وما أخذ بالسيف فذلك الى الإمام يقبِّله بالذي يرى كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر... وقال: إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر، وإن أهل مكة دخلها رسول الله صلى الله عليه وآله عنوةً فكانوا أسراء في يده، فأعتقهم وقال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.

قريش بعد فتح مكة

ماذا فعلت قريش بعد أن اضطر بقية فراعنتها وألوف الطلقاء من أتباعهم الى الدخول في الإسلام؟؟

من الطبيعي أن مشاعر الغيظ والكبرياء القرشي بقيت محتدمةً في قلوب أكثرهم إن لم نقل كلهم.. ولكن في المقابل ظهر فيهم منطقٌ يقول: إن دولة محمد دولتنا.. فمحمد أخٌ كريمٌ، وابن أخٍ كريم، ودولته دولة قريش، وعزه عزها وفخره فخرها، فهو مهما كان ابن قريش الرحيم، ودولته أوسعُ من دولة قريش وأقوى، والمجال أمام زعمائها مفتوحٌ من داخل هذه الدولة، فلماذا نحاربها، ولماذا نتركها بأيدي الغرباء من الأوس والخزرج اليمانيين!.

أما مسألة من يرث دولة محمد بعده، فهي مسألةٌ قابلةٌ للعلاج، وهي على كل حال مسألةٌ قرشيةٌ داخلية!!

من البديهي عند الباحث أن يفهم أن قريشاً وجهت جهودها لمرحلة ما بعد محمد صلى الله عليه وآله وأن الهدف الأهم عندها كان: منع محمد أن يرتب الأمر من بعده لبني هاشم، ويجمع لهم بين النبوة والخلافة على حد تعبير قريش!

فالنبوة لبني هاشم، ولكن خلافة محمد يجب أن تكون لقريش غير بني هاشم!


الصفحة 152

لكن رغم وجود هذا المنطق، فإن النصوص واعترافات بعض زعمائهم تدل على أنهم كانوا يعملون على كل الجبهات الممكنة! وأن أكثريتهم كانوا يائسين من أن يشركهم محمد في حكم دولته، لأنه يعمل بجدٍّ لتركيز حكم عترته من بعده..

لذلك اتجه تفكيرهم بعد فتح مكة الى اغتيال النبي صلى الله عليه وآله.. وسرعان ما حاولوا تنفيذ ذلك في حنين..!!

إن فراعنة قريش كفراعنة اليهود أبناء عمهم، فهم لا يعرفون الوفاء، بل كأنهم إذا لم يغدروا بمن عفا عنهم وأحسن اليهم، يصابون بالصداع!!

لقد اعلنوا إسلامهم، وادعوا أنهم ذهبوا مع النبي صلى الله عليه وآله ليساعدوه في حربه مع قبيلتي هوازن وغطفان، وكان عددجيشهم ألفين، وعدد جيش النبي صلى الله عليه وآله الذي فتح مكة عشرة آلاف، وعندما التقوا بهوازن في حنين انهزموا من أول رشق سهام، وسببوا الهزيمة في صفوف المسلمين فانهزموا جميعاً، كما حدث في أحد!

وثبت النبي صلى الله عليه وآله ومعه بنو هاشم فقط، كالعادة، وقاتلوا بشدةٍ مع مئة رجعوا اليهم مئة من الفارين حتى ردوا الحملة، ثم رجع المسلمون الفارون.. وكتب الله النصر.

وفي أثناء هزيمة المسلمين، قامت قريش بعدة محاولاتٍ لقتل النبي صلى الله عليه وآله!

نكتفي منها بذكر ما نقله زعيم بني عبد الدار النضير بن الحارث، الذي سيأتي ذكره في تفسير الآية الثالثة! ونقله عنه محب له ولقريش ولبني أمية هو ابن كثير فقال في سيرته: 3|691:

كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس، فكان يقول: الحمد لله الذي من علينا بالإسلام، ومن علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الإخوة وبنو العم.

ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه خرج مع قومه من قريش الى حنين، وهم على دينهم بعد، قال: ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه، فلم يمكنا ذلك.


الصفحة 153

فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه، إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنضير؟

قلت: لبيك.

قال: هل لك الى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه؟

قال: فأقبلت إليه سريعاً.

فقال: قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع!

قلت: قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم زده ثباتاً.

قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجرٌ ثباتاً في الدين، وتبصرة بالحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداه. انتهى.

وأنت تلاحظ أن هذه الكلام يتضمن إقراراً من هذا الزعيم القرشي على نفسه، وإقرار الإنسان على نفسه حجة.. وأنه يتضمن ادعاء منه بإيمانه بالله تعالى، فقد ذكر أنه تشهده الشهادة الأولى فقط، ولم يذكر الثانية!

ولكن الدعوى لا تثبت بادعاء صاحبها بدون شهادة غيره!

ومهما يكن فقد اعترف زعيم بني عبد الدار أصحاب راية قريش التي يصدر حاملها الأوامر لألفي مسلح في حنين، بأن إعلان إسلامهم في مكة كان كاذباً، وبأنه كل زعماء قريش كانوا متفقين على قتل النبي صلى الله عليه وآله، وأنهم حاولوا محاولاتٍ في حنين ولم يتوفقوا.. فقد أحبط الله تعالى خططهم، وكشف لنبيه صلى الله عليه وآله نواياهم!!

بل تدل أحاديث السيرة، على أن زعماء قريش لم يملكوا أنفسهم عند انهزام المسلمين في حنين في أول الأمر، فأظهروا كفرهم الراسخ، وفضحوا أنفسهم!

ـ ففي سيرة ابن هشام: 4|46

قال ابن اسحاق: فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه


الصفحة 154

وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجالٌ منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لَمَعَهُ في كنانته! وصرخ جبلة بن الحنبل ـ قال ابن هشام كلدة بن الحنبل ـ وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشركٌ في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا بطل السحر اليوم!

قال ابن اسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار: قلت اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمداً، قال:

فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شىَ حتى تغشى فؤادي فلم أطلق ذاك، وعلمت أنه ممنوعٌ مني!! انتهى.

وهذا آخر من أصحاب راية جيش قريش المسلمة، يعترف بأنه في حنين عند الهزيمة أو بعدها (دار) مرة أو مراتٍ حول النبي صلى الله عليه وآله ليقتله!

إن الناظر في مقومات شخصيات زعماء قريش، وتفكيرهم واهتماماتهم، يصل الى أن قناعة بأن عنادهم بلغ حداً أنهم اتخذوا قراراً بأن يكذبوا بكل الآيات والمعجزات التي يأتيهم بها محمد صلى الله عليه وآله، ويكفروا بكل القيم والأعراف الإنسانية التي يدعو اليها ويعاملهم بها.. وأن لا يدخلوا في دينه إلا في حالتين لا ثالثة لهما:

إذا كان السيف فوق رؤوسهم!

أو صارت دولة محمد وسلطانه بأيديهم!

لقد حاربوا هذا الدين ونبيه صلى الله عليه وآله بكل الوسائل حتى عجزوا وانهزموا..

ثم واصلوا تآمرهم ومحاولاتهم اغتيال النبي صلى الله عليه وآله حتى عجزوا..

ثم جاؤوا يشترطون الشروط مع النبي صلى الله عليه وآله ليأخذوا سهماً من دولته فعجزوا..

ثم جاؤوا يدعون أنهم أصحاب الحق في دولة نبيهم صلى الله عليه وآله لأنه من قبائل قريش!!!

ـ قال في مناقب آل أبي طالب: 2|239

قال الشريف المرتضى في تنزيه الأنبياء: إن النبي صلى الله عليه وآله لما نص على أمير المؤمنين


الصفحة 155

بالإمامة في ابتداء الأمر، جاءه قوم من قريش وقالوا له: يا رسول الله إن الناس قريبوا عهد بالإسلام لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب.. فلو عدلت به الى غيره، لكان أولى!

فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله: ما فعلت ذلك لرأيي فأتخير فيه، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه عليَّ.

فقالوا له: فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس اليه، ليتم لك أمرك، ولا تخالف الناس عليك. فنزلت الآية: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين.

عبد العظيم الحسني عن الصادق عليه السلام في خبر: قال رجل من بني عدي اجتمعت اليَّ قريش، فأتينا النبي فقالوا: يارسول الله إنا تركنا عبادة الأوثان واتبعناك، فأشركنا في ولاية علي فنكون شركاء، فهبط جبرئيل على النبي فقال: يا محمد لئن أشركت ليحبطن عملك.. الآية. انتهى. (والحديث الأول في تنزيه الأنبياء|167)

***

قريش تتمحور حول زعامة سهيل بن عمرو

رغم خيانات زعماء قريش بعد فتح مكة وتآمرهم، فقد حاول الرسول صلى الله عليه وآله أن يستقطبهم، فأكرمهم وتألفهم وأعطاهم أكثر غنائم المعركة، وأطمعهم بالمستقبل إن هم أسلموا وحسن إسلامهم.. الخ.

لقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله أن يقاوم عُقَدهم بنور الحلم، وظلماتهم بنور الإحسان..!!

وفي هذه الفترة تراجعت زعامة أبي سفيان، ولم يبق منها إلا (أمجاد) حربه مع محمد صلى الله عليه وآله، فشخصية أبي سفيان تصلح للزعامة في الحرب فقط وفي التجارة، ولا تصلح في السلم للزعامة والعمل السياسي، لذلك تراه بعد أن انكسر في فتح مكة ذهب الى المدينة وطلب منصباً من محمد صلى الله عليه وآله فعينه جابياً للزكاة من بعض القبائل!!


الصفحة 156

أما الزعيم الذي يجيد العمل لمصلحة قريش المنكسرة عسكرياً.. فقد وجدته قريش في سهيل بن عمرو، العقل السياسي المفكر والمخطط..

وسرعان ما صار سهيل محوراً لقريش، ووارثاً لقيادة زعمائها الذين قتلهم محمد أو أماتهم رب محمد صلى الله عليه وآله.

وسهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، هو في نظر قريش: قرشي أصيل. ولئن كان من بني عامر بن لؤي، الذين هم أقل درجة من بني كعب بن لؤي (سيرة ابن هشام: 2|489)، ولكنه صاحب تاريخ مع محمد، فهو من الزعماء الذين فاوضوا أبا طالب بشأنه.

وهو من أعضاء دار الندوة الذين قرروا مقاطعة بني هاشم.

وهو من الذين ائتمروا على قتله عندما ذهب الى الطائف، وقرروا نفيه من مكة، وهددوه بالقتل إن هو دخلها، ورفضوا أن يجيروه حتى يستطيع الدخول الى مكة وتبليغ رسالة ربه.. ففي تاريخ الطبري: 2|82: أن النبي صلى الله عليه وآله قال للأخنس بن شريق: ائت سهيل بن عمرو فقل له إن محمداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟ فأتاه فقال له ذلك، قال فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب! انتهى.

وهو من الزعماء الذين واصلوا العمل لقتل محمد بعد وفاة أبي طالب، حتى أنجاه الله منهم بالهجرة.

وهو أحد الذين حبسوا المسلمين وعذبوهم على إسلامهم، ومن المعذبين على يده ولده أبو جندل.

وهو أحد قادة المشركين في بدر، وأحد أثريائهم الذين كانوا يطعمون الجيش.

وهو أحد الذين كانوا يؤلمون قلب رسول الله صلى الله عليه وآله بفعالياتهم الخبيثة، فلعنهم الله تعالى وطردهم من رحمته، وأمر رسوله أن يلعنهم، ويدعو عليهم في صلاته.

وهو أحد المنفقين أموالهم على تجهيز الناس لحرب النبي صلى الله عليه وآله في أحد والخندق وغيرهما.


الصفحة 157

ـ قال في سير أعلام النبلاء: 1|194

يكنى أبا يزيد، وكان خطيب قريش وفصيحهم ومن أشرافهم... وكان قد أسر يوم بدر وتخلص. قام بمكة وحض على النفير، وقال: يال غالب أتاركون أنتم محمداً والصباة يأخذون عيركم! من أراد مالاً فهذا مال، ومن أراد قوة فهذه قوة.

وكان سمحاً جواداً مفوهاً.

وقد قام بمكة خطيباً عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحو من خطبة الصديق بالمدينة فسكنهم!! وعظم الإسلام. انتهى.

وهو الذي انتدبته قريش لمفاوضة محمد صلى الله عليه وآله في الحديبية، وقد أجاد المفاوضة وشدد عليه بالشروط، ولم يقبل أن يكتب في المعاهدة (رسول الله) ووقع الصلح معه نيابة عن كل قريش.

وهو المعروف عند قريش بأنه سياسي حكيم، أكثر من غيره من فراعنتها.

وهو أخيراً من أئمة الكفر الذين أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله بقتالهم! وإعلانه الإسلام تحت السيف لا يغير من آيات الله شيئاً! ففي تفسير الصنعاني: 1|242: عن قتادة في قوله (وقاتلوا أئمة الكفر...) هو أبو سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، وعتبه بن ربيعة، وأبو جهل، وسهيل بن عمرو. انتهى.

وقد اختار سهيل بن عمرو البقاء في مكة بعد فتحها ودخولها تحت حكم النبي صلى الله عليه وآله ولم يهاجر الى المدينة كبعض الطلقاء، ولم يطلب من محمد منصباً، لأن كبرباءه القرشي وتاريخه في الصراع مع النبي صلى الله عليه وآله يأبيان عليه ذلك!!

ولكنه قبل هدية النبي صلى الله عليه وآله في حنين وكانت مئة بعير، بينما كان رفضها في أيام القحط والسنوات العجاف التي حدثت على قريش بدعاء النبي صلى الله عليه وآله ثم أشفق عليهم وأرسل اليهم مساعدة، وكانت أحمالاً من المواد الغذائية، فقبلها أكثرهم وكان سهيل ممن رفضوها!


الصفحة 158

إنه تاريخٌ طويلٌ مشرقٌ عند القرشييين، وإن كان أسود عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله!! ومن أجل هذا النسب وهذا التاريخ والصفات، اجتمعت حوله قريش بعد فتح مكة، وانضوت تحت زعامته!

***

وكان النبي صلى الله عليه وآله قد عين حاكماً لمكة بعد فتحها، هو عتاب بن أسيد الأموي وحعل معه أنصارياً، ولكن قريشاً كانت تفضل عليه سهيلاً، وتسمع كلامه أكثر منه!

والدليل على ذلك أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ارتدت قريش عن الإسلام، وخاف حاكمها عتاب أن يقتلوه فاختبأ مع أنه قرشي أموي.. وبعد أيام وصلهم خبر يطمئنهم ببيعة أبي بكر التيمي، وأن أحداً من بني هاشم لن يحكم بعد محمد صلى الله عليه وآله فاطمأن سهيل بن عمرو، وخطب في قريش بنفس خطبة أبي بكر في المدينة، والتي مفادها أنه من كان يعبد محمداً فإن إلَهه قد مات، ونحن لا نعبد محمداً، بل هو رسولٌ بلغ رسالته ومات، وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش، وقد اختارت قريش حاكماً لنفسها بعده وهو أبو بكر، فاسمعوا له وأطيعوا.

لقد طمأنهم سهيل بأن الأمر بيد قريش، وليس بيد بني هاشم والأنصار اليمانية الذين (يعبدون) محمداً، فلماذا الرجوع عن الإسلام!

فأطاعته قريش وانتهى مشروع الردة!

وأصدر سهيل أمره لعتاب الحاكم من قبل النبي صلى الله عليه وآله: أخرج من مخبئك، واحكم مكة باسم الزعيم القرشي غير الهاشمي أبي بكر بن أبي قحافة التيمي!

(راجع سيرة ابن هشام: 4|1079، وفيها: فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، وظهر عتاب بن أسيد).

سهيل بن عمرو يحاول الإستقلال!

اقتنعت قريش بعد فتح مكة أن العمل العلني ضد محمد صلى الله عليه وآله محكوم بالفشل..


الصفحة 159

فركزت جهودها على العمل السياسي المتقن، والعمل السري الصامت، لإبعاد عترته عن الحكم، وجعله في قريش..

ولكن المشكلة عندها أن النبي صلى الله عليه وآله يسير قدماً في ترتيب الأمر من بعده لعلي.. ومن بعده للحسن والحسين، أولاد بنته فاطمة.. وقريش لا تطيق علياً ولا أحداً من بني هاشم.. لذلك قرر قادتها وفي مقدمتهم سهيل بن عمرو أن يقوموا بأنشطة متعددة، منها محاولة جريئة مع النبي صلى الله عليه وآله.. فقد كتبوا اليه ثم جاؤوه وفداً برئاسة سهيل بن عمرو، طالبين اليه أن يرد (اليهم) عدداً من أبنائهم وعبيدهم، الذين تركوا مكة أو مزارعهم في الطائف، وهاجروا الى النبي صلى الله عليه وآله ليتفقهوا في الدين، كما تنص الآية القرآنية!

قال سهيل للنبي صلى الله عليه وآله نحن اليوم حلفاؤك، وقد انتهت الحرب بيننا وتصالحنا، وأنا الذي وقعت الصلح السابق معك في الحديبية!

وهؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك، ولم يأتوك ليتفقهوا في الدين كما زعموا، ثم إن كانت هذه حجتهم فنحن نفقههم في الدين، فأرجعهم الينا!!

ومعنى هذا الطلب البسيط من زعيم قريش الجديد: أن قريشاً حتى بعد فتح مكة واضطرارها الى خلع سلاحها وإسلامها تحت السيف.. تريد من النبي صلى الله عليه وآله الإعتراف بأنها وجودٌ سياسيٌّ مستقل، في مقابل النبي صلى الله عليه وآله ودينه ودولته!!

ـ روى الترمذي في: 5|298

عن ربعي بن حراش قال: أخبرنا علي بن أبي طالب بالرحبة فقال: لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين، فقالوا يارسول الله: خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا، فارددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم.


الصفحة 160

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يامعشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلوبهم على الإيمان! قالوا من هو يارسول الله؟

فقال له أبو بكر: من هو يارسول الله؟

وقال عمر: من هو يارسول الله؟

قال هو خاصف النعل، وكان أعطى علياً نعله يخصفها. هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ربعي عن علي.

ـ وروى أبو داود: 1|611

عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب قال: خرج عبدانٌ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني يوم الحديبية قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرق!

فقال ناسٌ: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم!

فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا!

وأبى أن يردهم وقال: هم عتقاء الله عز وجل. انتهى.

ولا يغرك ذكر الحديبية في الحديث، فهذا من أساليب الرواة القرشيين في التزوير فالحادثة وقعت بعد فتح مكة، ولو كانت قبله لطالب سهيلٌ النبي صلى الله عليه وآله بالوفاء لهم بشرطهم، لأنهم شرطوا على النبي صلى الله عليه وآله في صلح الحديبية أن يرد اليهم من يأتيه منهم، ولا يردون اليه من يأتيهم من المسلمين!

ولو كانت قبل فتح مكة، لكانت مطالبةً بشرطهم، وما استحقت هذا الغضب النبوي الشديد، وهو لا يغضب إلا بحق، ولا يغضب إلا لغضب الله تعالى، ولا يرضى إلا بما يرضي الله تعالى!


الصفحة 161

ولو كانت قبل فتح مكة وقبل (دخول) قريش في الإسلام لما قالوا في مطالبتهم بأولادهم وعبيدهم المهاجرين (سنفقههم) فهذا لا يقوله إلا الطلقاء الذين يدعون الاسلام وفقه الإسلام!

كما أن بعض الروايات قد صرحت بأن الحادثة كانت بعد فتح مكة!

ـ قال الحاكم في المستدرك: 2|138

عن ربعي بن حراش عن علي رضي الله عنه قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة، أتاه ناس من قريش فقالوا: يا محمد إنا حلفاؤك وقومك، وإنه لحق بك أرقاؤنا ليس لهم رغبة في الإسلام، وإنما فروا من العمل فارددهم علينا!

فشاور أبا بكر في أمرهم فقال: صدقوا يا رسول الله!

فقال لعمر ما ترى؟ فقال مثل قول أبي بكر.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يامعشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للايمان، فيضرب رقابكم على الدين!

فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟

قال: لا.

قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟

قال: لا، ولكنه خاصف النعل في المسجد، وقد كان ألقى نعله الى علي يخصفها.. هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وروى نحوه في 4|298، وصححه على شرط مسلم وفيه (لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة أتاه ناس من قريش... يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلاً فيضرب أعناقكم على الدين، ثم قال: أنا، أو خاصف النعل، قال علي: وأنا أخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله) انتهى. ورواه في كنز العمال: 13|174، وقال: (ش وابن جرير، ك، ويحيى بن سعيد في إيضاح الإشكال).

في هذه الحادثة الخطيرة حقائق مهمة وكبيرة:

الأولى:

أنهم جاؤوا الى النبي صلى الله عليه وآله الى المدينة.. وهذا يعني أنهم بعد فتح مكة وخضوعهم وإعلانهم الإسلام تحت السيف، وعتق النبي صلى الله عليه وآله لرقابهم، وما فعلوه في حرب حنين.. جاؤوا الى (محمد) في عاصمته يطالبونه بالإعتراف العملي باستقلالهم السياسي.. وهي وقاحةٌ ما فوقها وقاحة! !

صلى الله عليه وآله وقالوا له صلى الله عليه وآله (يا محمد) كما رأيت في صحيح الحاكم على شرط مسلم! وكما في سنن أبي داود: 1|611 ولكن رواية الترمذي جعلتها (يارسول الله)!

وقد مر مايدل على أن الحادثة كانت في المدينة ففي مسند أحمد: 3|82

عن أبي سعيد الخدري قال: كنا جلوساً ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج علينا من بعض بيوت نسائه، قال: فقمنا معه فانقطعت نعله، فتخلف عليها علي يخصفها، فمضى رسول صلى الله عليه وسلم ثمتَ ومضينا معه، ثم قام ينتظره وقمنا معه، فقال: إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله! ! فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر فقال: لا، ولكنه خاصف النعل! قال فجئنا نبشره قال: وكأنه قد سمعه. انتهى. وقال عنه في مجمع الزوائد: 9|133 (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة، وهو ثقة). انتهى.

الثانية:

أنهم اعتبروا أن فتح مكة (ودخولهم) في الإسلام لا يعني خضوعهم للنبي صلى الله عليه وآله وذوبانهم في الأمة الإسلامية، بل هو تحالف مع النبي صلى الله عليه وآله ضد أعداء دولته من القبائل التي لم تدخل تحت سيطرتها، والى حد ما ضد الروم والفرس. فهو تحالف الند للند، وإن كان تم بفتح مكة بقوة السيف! !

وقد عملوا بزعمهم بهذا التحالف، فحاربوا معه صلى الله عليه وآله في حنين، فعليه الآن أن يعترف بكيانهم القرشي المستقل! وقد اختاروا أول مطلب لهم أو علامة على ذلك: أن يعيد هؤلاء الفارين اليه من أبنائهم وعبيدهم! يعيدهم من دولته الى دولتهم! !


الصفحة 163

الثالثة:

أن القرشيين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وآله ـ ماعدا بني هاشم ـ وافقوهم على ذلك! فهذا أبو بكر بن أبي قحافة التيمي، وعمر بن الخطاب العدوي يؤيدان مطلب قريش مئة بالمئة! !

وتتفاوت الروايات هنا في التصريح في موافقة أبي بكر وعمر على مطلب قريش فبعضها كما رأيت في رواية الحاكم الصحيحة ينص على أن أبا بكر قال (صدقوا يا رسول الله!) وقال عمر مثل قوله: صدقوا يارسول الله ردهم اليهم! !

وبعضها لا تذكر تصديقهما لمطلب قريش وشهادتهما بأنه حق، بل تقتصر على سؤالهما إن كانا هما الذين سيبعثهما الله ورسوله لتأديب قريش! كما في رواية الترمذي المتقدمة، وكما في مستدرك الحاكم: 3|122، وكما في مجمع الزوائد: 9|134 و: 5|186، وقال (رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح).

وقد غير بعض الرواة القرشيين (الأذكياء) اسم الشيخين الى (ناس) رسول الله صلى الله عليه وسلم!! وكذا في كنز العمال: 10|473 وقال الهندي عن مصادره: أبو داود وابن جرير وصححه، ق ض).

وبعضهم حذفوا اسم أبي بكر وعمر كلياً من الحادثة! كما رأيت في سنن أبي داود، وكما في كنز العمال: 11|613، حيث رواه بعدة روايات عن أحمد، وعن مصادر متعددة، وليس فيه ذكر لأبي بكر وعمر!

الرابعة:

يتساءل الباحث ما هي العلاقة التي كانت تربط أبا بكر وعمر بسهيل بن عمرو، ولماذا أيدا مطلب قريش المفضوح؟!

ويتساءل: مادام النبي صلى الله عليه وآله فهم خطة القرشيين وغضب ورفض مطلبهم وهددهم بالحرب ثانية، بل وعدهم بها.. فلماذا استشار أبا بكر وعمر في الموضوع؟!

على أي حال، إن أقل ما تدل عليه النصوص: أن زعامة قريش كانت متمثلةً في ذلك الوقت بهؤلاء الأربعة، الذين جمعتهم هذه الحادثة وهم:


الصفحة 164

رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله عليه وآله.

وسهيل بن عمرو العامري، زعيم المشركين بالأمس وزعيم قريش اليوم.

وأبو بكر التيمي وعمر العدوي، الممثلان لقبيلتين صغيرتين لا وزن لهما في قريش، ولكن لشخصيتيهما وزناً مهماً لصحبتهما للنبي صلى الله عليه وآله وقد أيدا مطلب سهيل!

ولا بد للباحث أن يفترض علاقةً واتفاقاً مسبقاً بين وفد قريش وبين الشيخين، بل يفهم من بعض الروايات أن سهيلاً ووفد قريش نزلوا في المدينة في ضيافة عمر، ثم جاء وأبو بكر معهم الى النبي صلى الله عليه وآله لمساعدتهم على مطلبهم.

الخامسة:

تضمن الموقف النبوي من الحادثة أربعة عناصر:

الأول، الغضب النبوي من تفكير قريش الكافر ووقاحتها، وقد ذكرته الروايات ولم تصفه بالتفصيل.

الثاني، يأس النبي صلى الله عليه وآله من أن تصلح قريش ويحسن إسلامها، بل يأسه من أن تترك قريش تعقيد بني عمها إسحاق وفرعنتهم، وتخضع للحق، إلا بقوة السيف!!

ففي عدد من روايات الحادثة كما في الحاكم: 2|125 (فقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا) أي على الإسلام! وكذا رواه أبو داود : 1|611، والبيهقي في سننه: 9|229، وكنز العمال: 10|473! وهو تصريح بأنهم لم يسلموا ، ولن يسلموا إلا تحت السيف!!

الثالث، تهديدهم بسيف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب عليه السلام الذي ترتعد منه فرائصهم، لأنهم ذاقوا منه الأمرين، فقد قتل مجموع المسلمين في حروبهم مع قريش نصف أبطالها، وقتل علي وحده نصفهم أو أكثر!

ونلاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وآله كنَّى عن ذلك الشخص الذي سيبعثه الله على قريش فيضرب أعناقهم على الدين، بأنه أنا أو رجل مني (مجمع الزوائد: 9|133) ثم سماه عندما سأله أبو بكر وعمر عنه فقال (أنا أو خاصف النعل ـ كنز العمال: 7|326 وغرضه من التكنية ثم التسمية، أن لا تتصور قريش أن المسألة بعيدة فتطمع في مشروعها!


الصفحة 165

بل ينبغي أن تحتمل أن الأمر قد يصدر غداً الى علي بغزو مكة وقتل فراعنة قريش!

وغرضه صلى الله عليه وآله من تعبير (مني) أن يبين مكانة علي عليه السلام، وأن تعلم قريش أنه مؤمنٌ وأنه هاشمي من ذلك الفرع الذي ما زالت تحسده، وتموت منه غيضاً! !

فلو أنه صلى الله عليه وآله قال لهم: إن علياً سيقاتل قريشاً على تأويل القرآن بعد ربع قرن، كما قاتلتها أنا على تنزيله بالأمس، لطمعت قريش وقالت: إذن عندنا فرصة ربع قرن من الزمان، ولكل حادثٍ حديث!

بل روى في مجمع الزوائد حديثاً قال عنه: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح: أن علياً عليه السلام كان يعلن في زمان النبي صلى الله عليه وآله تهديده لقريش، ولكل من يفكر بالردة، بأنه سوف يقاتلهم الى آخر نفس، وهو عملٌ وقائي بتوجيه النبي صلى الله عليه وآله لمنع قريش أن تفكر بالردة! قال في مجمع الزوائد: 9|134

وعن ابن عباس أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقول: أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى. والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت. لا والله.. إني لأخوه، ووليه، وابن عمه، ووارثه، فمن أحق به مني ؟!

ـ وروى في نفس المكان حديثاً آخر ينص على أن النبي صلى الله عليه وآله هدد قريشاً بعلي عليه السلام بعد فتح مكة مباشرةً، قال: وعن عبد الرحمن بن عوف قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انصرف الى الطائف فحاصرها سبع عشرة أو ثمان عشرة لم يفتتحها، ثم أوغل روحةً أو غدوةً، ثم نزل ثم هجَّرَ فقال:

يا أيها الناس إني فرطٌ لكم وأوصيكم بعترتى خيراً، وإن موعدكم الحوض. والذي نفسي بيده ليقيموا الصلاة، وليؤتوا الزكاة، أو لأبعثن اليهم رجلاً مني، أو لنفسي، فليضربن أعناق مقاتليهم، وليسبين ذراريهم.

قال فرأى الناس أنه أبو بكر أو عمر، وأخذ بيد علي فقال: هذا هو. رواه أبو يعلى وفيه طلحة بن جبر، وثقه ابن معين في رواية، وضعفه الجوزجاني، وبقية رجاله ثقات.


الصفحة 166

الرابع:

أن النبي صلى الله عليه وآله حكم بكفر أصحاب هذا الطلب، ولعمري إن مجرد طلبهم كافٍ لإثبات ذلك. ويؤكده الغضب النبوي وقوله صلى الله عليه وآله (ما أراكم تنتهون يا معشر قريش) وقوله بأن الله سيبعث عليهم رجلاً يضرب أعناقهم على الدين، مما يدل على أنهم ليسوا عليه. بل لا يسكتون عنه إلا تحت السيف! !

ولكن الفقهاء يريدون دليلاً أكثر لمساً، وقد أعطاهم إياه النبي صلى الله عليه وآله فأبى أن يرد عليهم عبيدهم المملوكين، وأخبرهم أنه أعتقهم فصاروا عتقاء الله تعالى!

فلو كان هؤلاء الطلقاء مسلمين، وكانت ملكيتهم محترمة، فكيف يجوز للنبي صلى الله عليه وآله أن يعتدي على ملكيتهم، وهو أتقى الأتقياء، وهو القائل: لايحل مال امرىَ مسلم إلا بطيب نفسه.. والقائل: إن أموالكم ودماءكم عليكم حرام.. الخ.

أثر هذه الحادثة على قريش

الظاهر أن هذه الحادثة كانت آخر محاولات قريش لانتزاع اعتراف النبي صلى الله عليه وآله باستقلالها السياسي، ولو بصيغة التحالف معه صلى الله عليه وآله، أو بصيغة الحكم الذاتي تحت لواء دولته! فهل سكتت قريش بعد هذه الحادثة؟

الذين يقرؤون التاريخ المكتوب بحبر الخلافة القرشية، والإسلام المفصل بمقصات رواتها.. يقولون: من المؤكد أن قريشاً تابت بعد هذه الحادثة، وأسلم زعماؤها وأتباعهم وحسن إسلامهم، وتصدقوا وأعتقوا وحجوا، وأكثروا من الصوم والحج والصلاة!

ولكن النبي صلى الله عليه وآله قال (ما أراكم تنتهون يا معشر قريش)! ! وطبيعة قريش، وطينة زعامتها تؤكد أنهم واصلوا العمل على كل الجبهات الممكنة! !

نعم.. لقد رأت قريش أن حديدة النبي صلى الله عليه وآله حامية، وأن التفكير بالإستقلال السياسي عنه صلى الله عليه وآله تفكيرٌ خاطىَ، وأن محمداً لا يقعقع له بالشنان، فهو من علياء هاشم وذروة شجعانها، ومعه ابن عمه قَتَّال قريشٍ ومجندل أبطالها، ومعه الأوس والخزرج، الذين تجرؤوا لأول مرة في تاريخهم على حرب قريش..


الصفحة 167

لقد تراجع عند قريش منطق الإستقلال السياسي عن محمد صلى الله عليه وآله، وتأكد عندها المنطق القائل إن دولة محمد شملت كل المنطقة، وهي تتحفز لمقارعة الروم والفرس، وقد وعد محمد المسلمين بذلك وتطلعوا اليه.. فلا معنى لأن تطالبه قريش بحكم مكة ومن أطاعها من قبائل العرب!

إنه لا بد من التأقلم مع الوضع الجديد، والعمل الجاد بالسياسة وبالعنف المنظم، لكي ترث قريش كل دولة محمد! صلى الله عليه وآله

فمحمد من قريش، وقريش أولى بسلطان ابنها، ولا كلام للأنصار اليمانية، ولا لغيرهم من القبائل.

أما مسألة بني هاشم الذين يسميهم محمد صلى الله عليه وآله العترة والقربى، وتنزل عليه فيهم آيات القرآن، ويصدر فيهم الأحاديث، ويجعل لهم خمس ميزانية الدولة.. فلا بد من معالجة أمرهم بأي طريقة ممكنة!

نعم.. هذا ما وصلت اليه قريش التي أعتقها النبي صلى الله عليه وآله من القتل والرق!

وهذا ماجازته به في حياته صلى الله عليه وآله !

وقد ساعدها عليه من ساعدها من أصحابه! !

الخليفة عمر يشهد بفساد قريش!

ـ قال الطبري في تاريخه: 3|426:

عن الحسن البصري قال: كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان، إلا بإذنٍ وأجل، فشكوه، فبلغه، فقام فقال: ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير، يبدأ فيكون جذعاً، ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديساً، ثم بازلاً، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان.

ألا فإن الإسلام قد بزل، ألا وإن قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله مغوياتٍ دون عباده ألا فأما وابن الخطاب حيٌّ فلا، إني قائمٌ دون شعب الحرة، آخذٌ بحلاقيم قريش


الصفحة 168

وحجزها أن يتهافتوا في النار! ! انتهى. ورواه في كنز العمال: 13|75، وفي تاريخ المدينة لابن شبة: 2|779، وفيه (ألا وإني آخذٌ بحلاقيم قريش عند باب الحرة أن يخرجوا على أمة محمد فيكفروهم). انتهى. ونحوه في: 2|401 .

وهذا الموقف من الخليفة عمر يتضمن عدة أمور، نكتفي بالإشارة اليها:

فهو أولاً، كلام زعيمٍ لا يشك أحدٌ في ولائه لقريش، لأنه حمل راية قريش وأحقيتها بخلافة النبي صلى الله عليه وآله في مقابل الأنصار وبني هاشم، وخاض صراعاتٍ شديدة، حتى خلَّص الخلافة من عترة النبي صلى الله عليه وآله وقدمها على طبقٍ الى قبائل قريش!

وهو ثانياً، شهادةٌ منه بحق المهاجرين القرشيين بأنهم أناسٌ مضلون، يجب أن يحبسوا في المدينة حتى لا يضلوا المسلمين ويخرجوهم من الإسلام! !

وإذا كان حال القرشيين المسلمين المهاجرين هذا، فما هو حال الطلقاء ؟!

وهو ثالثاً، يتضمن تصوراً لانتهاء الإسلام في مدةٍ قليلة، وكأن الإسلام دورةٌ سياسية تمر على الجزيرة والمناطق التي امتد اليها، ثم تنتهي!

وقد ثبت عن الخليفة عمر أنه كان يرى أنه سوف لا تمر سنين طويلة حتى تأخذ الأمم الأخرى مناطق المسلمين بما فيها مكة، ويهجرها أهلها وتخرب! !

ولعله اقتنع بهذا الرأي من كعب الأحبار.. وهو بحثٌ خارجٌ عن موضوعنا.

***


الصفحة 169


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net