متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
اقامته في بلاد الشام
الكتاب : أبو ذر الغفاري ، رمز اليقظة في الضمير الإنساني    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

 

إقـامتـهُ في بِلاَد الشَّـام


(64)


(65)

إقـامتـُه في بِلاَد الشَّـام

 حين نقرأ سيرة أبي ذر في الكتب التأريخية وغيرها ، نجد أنفسنا أمام صورة غير واضحة لهذا الصحابي العظيم ، فنجد شيئا من الغموض يكاد يكتنف حياته . ولعل مردّ ذلك يعود الى نوع من التعتيم الاعلامي ، فرض على مسار هذه الشخصية .
 فمثلا . نجد بعض المؤرخين ، كالطبري ، وابن الأثير ، قد أهملوا التفصيل في كيفية نفي أبي ذر الى المدينة ، فالربذة ، كما أهملوا ذكر النزاع الذي جرى بينه وبين عثمان .
 ونجد : البعض الآخر يحاول الدفاع عن عثمان ، فيذهب الى القول : بأن أبا ذر نزل الربذة بمحض اختياره .
 والبعض الآخر ، يؤكد نفي أبي ذر الى الشام أوّلا ، ثم الى المدينة ، ثم الى الربذة .
 ونحن بدورنا ، نريد التثبت من الحقائق حول هذا الامر ، عن طريق الاستعانة ببعض الروايات ، والنصوص التأريخية ، والابتعاد عمَّا تمليه العاطفة والحساسيات الخاصة .


(66)

 والذي وجدته ـ بعد التأمل والتدقيق ـ أن أبا ذر كان قد أقام في الشام مدة طويلة ، ربما نافت على العشرة سنوات . تسنى له من خلالها نشر مذهبه في التشيع لعلي وأهل البيت عليهم السلام .
 وعليّ الآن ، أن أعرض للقارئ كلمات بعض المؤرخين والباحثين ، الذين ذهبوا الى القول : بأن أبا ذر أُخرج الى الشام منفيَّاً ، ليتسنى له المقارنة بينها وبين النصوص الاخرى التي تؤكد خلاف ذلك .
 قال أبن أبي الحديد في شرح النهج :
 « واعلم : أن الذي عليه اكثر أرباب السيرة ، وعلماء الاخبار والنقل ، أن عثمان نفى أبا ذر أوّلا الى الشام ، ثم استقدمه الى المدينة لمَّا شكا منه معاوية ، ثم نفاه من المدينة الى الربذة ، لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام » (1) .
 وقال السيد المرتضى رحمه الله تعالى :
 « بل المعروف والظاهر ، أنه نفاه أوّلا الى الشام ، ثم استقدمه الى المدينة لما شكا منه معاوية ، ثم نفاه من المدينة الى الربذة . . » (2) .
 وقال السيد الامين رحمه الله :
 « وما كان أبو ذر ليترك المدينة ، مهاجر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ومسجده ، ومجاورة قبره ، اختيار ، ويذهب الى الشام ، فيجاور بني أميَّة ، وانما خرج الى الشام منفياً » (3) .
____________
1 ـ شرح النهج 8 / 255 ـ 256 .
2 ـ اعيان الشيعة 16 / 363 .
3 ـ نفس المصدر / 353 / 354 .


(67)

 الى غير ذلك من أقوال غيرهم ، التي تفيد الشهرة حول هذا الامر ، والشهرة في هذا المقام لا تغني من الحق شيئاً ، فرب مشهور لا أصل له ، سيما اذا قام الدليل على خلافه .
 والآن نعرض للقارئ بعض النصوص الاخرى ، نضعها بين يديه للتأكد مما نرمي اليه ، من القول : بأن إقامة أبي ذر في الشام كانت طويلة جدا ، وكانت بادئ الامر بمحض اختياره ورغبته ، وكامل حريته ، إلا أن حريته في الذهاب الى المدينة المنورة ، ومجاورة قبر الرسول ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) متى شاء ، أصبحت مقيدة آخر الامر بسبب ما جرى بينه وبين عثمان .
 قال في الاستيعاب :
 « بعد أن أسلم أبو ذر ، رجع الى بلاد قومه ، فأقام بها حتى مضت بدر ، وأحد ، والخندق ، ثم قدم على النبي ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) المدينة ، فصحبه الى أن مات صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
 ثم خرج بعد وفاة أبي بكر الى الشام ، فلم يزل بها حتى ولي عثمان ، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية ، فنفاه وأسكنه الربذة ، فمات بها . . » (1) .
 وهنا ، يحق لنا التساؤل :
 ما هو المبرر لرفض هذه الرواية . ؟ مع أن هناك الشواهد الكثيرة على صحة مضمونها !؟
 إن رفض هذه الرواية ، لا مبرر له ، فأي مانع من أن يكون أبو ذر ، قد أقام في الشام بمحض اختياره ، إن لم نقل بأنه كان يتعرض لمضايقات معينة
____________
1 ـ الاستيعاب ( حاشية على كتاب الاصابة ) م 1 ص 213 .


(68)

ـ نظرا لجرأته وصراحته ـ دفعت به الى الاقامة فيها أثناء خلافة عمر بن الخطاب .
 إن من يتتبع سيرة أبي ذر ، يجد أن هذه الشخصية الفريدة ، يكتنف مسارها الغموض والتعتيم من الفترة ما بين خلافة عمر الى خلافة عثمان ، فلا حديث ، ولا رواية ، ولا أي شيء يتعلق به في تلك الفترة ، ! مع كونه من المبرزين الأول في الاسلام ، دينا ، وفضلا ، وعلما ، فهو لم يكن مسلما عاديا يقرن بعامة المسلمين ، بل كان من خيرة خيرتهم ، ممن نوَّه رسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) بفضلهم ، وممن حازوا قصب السبق في مجالي الدين والعلم ، ويكفي قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيه : « ما تقل الغبراء ، ولا تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر ، شبيه عيسى بن مريم » (1) .
 وحديث علي عليه السلام فيه : « وعاء ملىء علما ، ثم أوكأ عليه » (2) .
 إن التعتيم الاعلامي على مسار أبي ذر ( رض ) في تلك الفترة ، ربما لم يكن مقصودا ، ولكنه يؤكد تأكيدا كاملا على أنه كان بعيدا عن مركز الخلافة ، أعني : المدينة المنورة ـ عاصمة العالم الاسلامي ـ آنذاك .
 كما أنه لم يكن في تلك الفترة في موطنه الاصلي ، أعني منازل قومه بني غفار ، لأن النصوص لا تشير الى ذلك البتة .
 اذن : أين كان أبو ذر في تلك الفترة ؟ .
 الشواهد التأريخية كلها ساكتة عن وجوده في أي بلد ، ما عدا الشام .
____________
1 ـ المستدرك مع التلخيص م 3 / 342 .
2 ـ الغدير 8 / 311 نقلا عن أسد الغابة 5 / 186 وشرح الجامع الصغير 5 / 423 وفي الاصابة / 4 ص 64 .
* الوكاء ـ ما يشد به الكيس ، والمقصود هنا ربما يكون هو أن علم أبي ذر مما لا يطيقه الناس ولا تتحمله عقولهم فلذلك أخفاه عنهم .


(69)

 نعم : كان أبو ذر رضي الله عنه في تلك الفترة ، قد اتخذ الشام وجوارها مقرا له ، وقد كان يقوم بدوره الرسالي فيها على أكمل وجه . هذا ما يستفاد من بقية النصوص والروايات في هذا الصدد .
 جاء في رواية البلاذري :
 « وقال عثمان يوما : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ؟ فاذا أيسر قضى ؟
 فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك .
 فقال أبو ذر : يابن اليهوديين ، أتعلمنا ديننا ! ؟
 فقال عثمان : ما أكثر أذاك لي ، وأولعك بأصحابي ! ؟ إلحق بمكتبك ! وكان مكتبه بالشام ، إلا أنه كان يقدم حاجا ، ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فيأذن له في ذلك . . » (1) .
 وكلمة « مكتب » هنا ، تعني : مركز تجمع كتائب الجيش الاسلامي ، والرواية صريحة في كون إقامته بالشام لم تكن قسرا .
 ويؤيدها ، ما جاء في تأريخ ابن الأثير ، قال في حوادث سنة 23 :
 « وفيها غزا معاوية الصائفة ( الروم ) ومعه عبَّادة بن الصامت ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبو ذر . . »
 وقال في حوادث سنة 28 :
 « كان فتح قبرس على يد معاوية . . الى أن قال : ولما غزا معاوية هذه السنة ، غزا معه جماعة من الصحابة ، فيهم أبو ذر . . » (2) الخ .
____________
1 ـ الغدير 8 / 293 نقلا عن الانساب 5 / 52 / 54 .
2 ـ الكامل 3 / 77 و 95 .


(70)

 وجاء في كلام ابن بطال :
 « وكان في جيشة ـ يعني معاوية ـ ميل الى أبي ذر ، فأقدمه عثمان حشية الفتنة » (1) .
 وجاء في رواية الواقدي :
 « إن أبا الأسود الدؤلي قال : كنت أحب لقاء أبي ذر ، لأسأله عن سبب خروجه الى الربذة ، فجئته ، فقلت له :
 ألا تخبرني ، أخرجت من المدينة طائعا ؟ أم أخرجت كرها ؟
 فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين ، أغني عنهم ، فأخرجت الى المدينة ، فقلت دار هجرتي وأصحابي ، فأخرجت من المدينة الى ما ترى ! » (2)
 والثغر الذي عناه ، هو بلاد الشام بالطبع . ويلاحظ هنا ، أنه لم يقل أخرجت الى ثغر من ثغور المسلمين ، أو اخرجت الى الشام . بينما قال : أخرجت الى المدينة ، ثم قال : فأخرجت الى ما ترى ـ يعني البرذة ـ مما يدل على أنه كان مختارا ، أو مرتاحا ـ على الأقل ـ في اقامته بالشام .
 وجاء في رواية ثانية للواقدي :
 « فقال عثمان : أخرج عنا من بلادنا !
 فقال أبو ذر : ما أبغض الي جوارك ، فالى أين أخرج ؟
 قال : حيث شئت !
 قال : أخرج الى الشام ، أرض الجهاد ؟ !
____________
1 ـ الغدير 8 / 325 عن عمدة القارئ للعيني 4 / 291 .
2 ـ شرح النهج 80 / 360 .


(71)

 قال : انما جلبتك من الشام ، لما قد أفسدتها ، أفأردك اليها !؟ » (1)
 إن هذه الروايات ، تعطينا الدليل الكافي ، بل القاطع ، على أن اقامة أبي ذر في الشام لم تكن جبرية ، ولم يكن مكرها فيها ، كما لم تكن قصيرة تقاس بالأشهر .
 ولا يعني هذا ، أنه في خلال اقامته تلك ، كان قد انقطع عن زيارة مدينة الرسول ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) فمما لا شك فيه أن أبي ذر لا يفوته الحج الى بيت الله الحرام في كل عام ، كما لا تفوته زيارة قبر الرسول ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) ومجاورته ، ومن ثمَّ اللقاء بالصحابة ، وزيارة دار الخلافة ، والنظر في شئون المسلمين .
 من هنا ، يمكننا الركون ـ بكل بساطة ـ الى القول بأن ما جرى بينه وبين عثمان بادئ الامر ، من النقاشات الكلامية الحادة ، لم يكن سببا في نفيه الى الشام ـ كما يتصور ـ بل كان في أغلب الاحيان ، سببا في تعجيل رجوعه الى الشام ، وتقييدا لحريته في الاقامة بالمدينة متى شاء ، وكيف أراد .
 وبهذا يتضح وهن الرأي القائل بأن عثمان نفاه الى الشام ، هذا الرأي الذي يهدف ـ غالبا ـ الى إضفاء صبغة مأساوية ، تضاف الى مأساة أبي ذر الحقيقية ، وهي نفيه ( الى المدينة ، ومن ثم الى الربذة ) .
 بعد هذا العرض ، ننتقل الى حقيقة تأريخية هامة ، تتصل بسيرة هذا الصحابي العظيم ، ومكوثه في بلاد الشام هذه المدة الطويلة ، وقيامه بدوره الرسالي على أكمل وجه . تلك هي : صلته بنشأة التشيع في جبل عامل ، وهذا ما سنعرضه في الفصل التالي :
____________
1 ـ المصدر السابق .


(72)


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net