متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
أبو ذر ، والتشيع في جبل عامل
الكتاب : أبو ذر الغفاري ، رمز اليقظة في الضمير الإنساني    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

 

أبـو ذرّ وَالتّـشيُّع في جَبـل عَامِـل

 وقبل الدخول في الموضوع ، لا بد لنا من الوقوف على موقع ( جبل عامل ) الجغرافي من بلاد الشام ، تأريخيا ، لكي تتثبت من إقامة ابي ذر فيه ، وتنجلي لنا حقيقة الامر في ذلك .

 حـدود الـشـام :

 قال ياقوت في معجم البلدان : وأما حدها ـ يعني الشام ـ فمن الفرات الى العريش المتاخم للديار المصرية .
 وأما عرضها : فمن جبلي طيىء من نحو القبلة ، الى بحر الروم ، وما بشأمة ذلك من البلاد . وبها من أمهات المدن : منبج ، وحلب ، وحماة ، وحمص ، ودمشق ، والبيت المقدس ، والمعرة . وفي الساحل : إنطاكية ، وطرابلس ، وعكا ، وصور ، وعسقلان ، وغير ذلك . . الخ (1) .
 هذه هي سعة الشام وسعة حدودها ـ في ذلك الوقت ـ ويتضح من ذلك ، ان منطقة جبل عامل داخلة في ضمنها ، لأن منها صور .
 وقال في متن اللغة . مادة : ع م ل .
 بنو عاملة ، حي يمان من ولد الحرث بن عدي . ينتهي الى كهلان بن سبأ ، نُسبوا الى أمهم عاملة بنت مالك القضاعية . وجبلهم بالشام ، فوق
____________
1 ـ معجم البلدان 3 / 312 مادة : شأم .


(73)

صور وصيدا ، يعرف بهم . واشتهر باسم : جبل عامل (1) .
 المهم : ان الشام لم تكن اسما لخصوص دمشق ( العاصمة ) ، بل كان لفظ الشام يطلق على المنطقة المشار اليها آنفا بأجمعها ، بما فيها جبل عامل .
 وقد أشرنا سابقا الى أن أبا ذر ( رض ) أقام في الشام بعد وفاة أبي بكر ـ كما يظهر من رواية الاستيعاب ـ حتى شكاه معاوية الى عثمان ، فأخرجه الى المدينة ، ثم نفاه الى الربذة . وأن الروايات الاخرى التي تشير الى اخراجه من المدينة الى الشام ، لا تعني اخراجه اليها منفيا ، بل كل ما هناك أن عثمان كان يأمره بالتعجيل في الخروج الى الشام ، كما في قوله له : « الحق بمكتبك » . راجع ص 67 .
 ثم ان اقامة أبي ذر فيها ، لا تعني في خصوص دمشق ـ كما يتوهم ـ بل في المنطقة عامة ، يؤيد ذلك قول أبي ذر مخاطبا عليا عليه السلام حين كان في وداعه : « اني ثقلت على عثمان بالحجاز ، كما ثقلت على معاوية بالشام ! » (2) .
 فكما أن كلمة « الحجاز » تشمل كل مدن الحجاز بما فيها المدينة ، كذلك كلمة « الشام » تشمل كل مدن الشام ، بما فيها دمشق ، وبما فيها « جبل عامل » .
 ومن الواضح : أنه ( رض ) ، كان في هذه المنطقة ، تحت قبضة معاوية وسلطانه . فصح أن يقال : كان عند معاوية .
____________
1 ـ متن اللغة 4 / مادة : ع م ل / 209 .
2 ـ شرح النهج 8 / 254 .


(74)

تحـديـد مـدة اقـامته في الشـام

 النصوص التأريخية ، لا تحدد مقدار إقامته فيها . إلا ما ورد عن كميل بن زياد رحمه الله ، قال : « كنت بالمدينة حين أمر عثمان أبا ذر باللحاق بالشام ، وكنت بها في العام المقبل حين سيَّره الى الربذة » (1) .
 هذه الرواية فقط ـ اذا صحت ـ تشير الى ان اقامته فيها استغرقت سنة . أما ما عداها ، فلا يستند إلا الى التخمين والاستنتاجات الخاصة . ومع ذلك ، فان رواية كميل هذه لا يستفاد منها مجموع إقامته في الشام ، بل يستفاد منها : أن المدة ما بين أمر عثمان أبا ذر باللحاق بالشام ، وبين نفيه الى الربذة ، استغرقت سنة .
 وعلى هذا ، فلا تنافي بين رواية ( الاستيعاب ) المتقدمة وهذه الرواية .
 وبوسعنا القول الآن : أن اقامة ابي ذر في بلاد الشام ، في مدنها وقراها ، كانت طويلة جدا ، ربما استغرقت أربعة عشر سنة ، وأهم الشواهد على ذلك ، ما يلي :
 اولا : رواية الاستيعاب المتقدمة ( ص 65 ) وهي صريحة فيما نرمي اليه ، حيث يقول فيها : « ثم خرج بعد وفاة ابي بكر الى الشام ، فلم يزل بها حتى ولي عثمان ، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية . . »
 والمعروف أن وفاة أبي بكر كانت في سنة 13 هـ . وفي هذه السنة ولي عمر بن الخطاب ، حتى توفي سنة 23 هـ ، وفيها بويع عثمان بن عفان (2) ، الى سنة 35 هـ ( على التقريب ) وقد نفى عثمان أبا ذر من الشام الى المدينة ، فالربذة ، في سنة 30 ـ على ما ذكره ابن الأثير ـ (3) .
____________
1 ـ الغدير 8 / 204 .
2 ـ مروج الذهب 2 / 297 / 304 .
3 ـ الكامل 3 / 113 .


(75)

 فعلى هذا تكون الفترة ما بين خروج أبي ذر الى الشام ونفيه الى المدينة سبعة عشر سنة . على رواية الاستيعاب !
 ثـانيـا : النصوص التي تتحدث عما أوجده أبو ذر ، ـ في اقامته تلك ـ من تغيير في ذهنية المجتمع الشامي ، وصرفه الناس اليه ، وأخذهم منه الحكم والفتيا واجتماعهم من حوله ، من جهة ، وميل المعسكر الذي كان فيه ، اليه من جهة أخرى . الى حدّ حرك في نفس معاوية الخوف من عواقب ذلك . فكتب الى عثمان يحمله اليه . واليك بعض هذه النصوص :
 أ ـ قول حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية : « إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام ، فتدارك أهله ، إن كان لك فيه حاجة . . »(1)
 ب ـ كتب معاوية الى عثمان : « إن أبا ذر تجتمع اليه الجموع ، ولا آمن أن يفسدهم عليك ، فان كانت لك في القوم حاجة ، فاحمله اليك . . »(2)
 ج ـ وكتب اليه : « إن أبا ذر قد حرف قلوب أهل الشام ، وبغضك اليهم فلا يستفتون غيره ! ولا يقضي بينهم إلا هو . . ! »(3)
 د ـ « قول عثمان لأبي ذر حين طلب الرجوع الى الشام : « انما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها ! أفأردّك اليها !؟ »(4)
 ويؤيد ذلك ، كلام ابن بطال المتقدم : « كان في جيش معاوية ميل الى أبي ذر ، فأقدمه عثمان خشية الفتنة » .
____________
1 ـ شرح النهج 8 / 257 .
2 ـ مروج الذهب 2 / 340 .
3 ـ رجال بحر العلوم 2 / 152 .
4 ـ شرح النهج 8 / 260 .


(76)

 إن هذه النصوص ، تزودنا بالكثير حول ( اقامته الطويلة في بلاد الشام ) . فقد كانت اقامته هذه تقضّ مضاجع الحكام آنذاك ، فقد استطاع هذا الصحابي الجليل ، أن يستقطب الاكثرية من الناس ، يعضهم ويرشدهم ، ويذكرهم بأيام الله . وينوّه بمقام أهل البيت عليهم السلام ، ومكانتهم وفضلهم ، وما ورد فيهم على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى غير ذلك مما جلب على معاوية المتاعب ، فكتب فيه الى عثمان .

 وهنا سؤال يفرض نفسه :
أترى ، كان باستطاعته أن يقوم بهذه الادوار الخطيرة ، خلال أشهر أو سنة !؟ كما يدعي أكثر الكتَّاب والمؤرخين .

 فهل أن تغيير ذهنية مجتمع بكامله ، كان يتعاطف مع الامويين ، ولم يعرف غيرهم ، وتزويده بذهنية جديدة ذات طابع معيَّن ، من السهولة بمكان ؟؟ كما ربما يتصور البعض .
 إن تصور هذا من البعد بمكان .
 فان عملية إفساد المجتمع الشامي على معاوية ومن ولاَّه ، لا بد وأنها استغرقت سنين عديدة ، لأن تغيير المرتكزات الذهنية السائدة لدى أي مجتمع كان ، لا يمكن أن يتم في خلال أشهر معدودة .
 من هنا ، ومما ذكرنا آنفا ، يسهل علينا الوصول الى الحقيقة التاريخية الهامة التي أغفلها المؤرخون القدماء ، وتكتم فيها كثيرون .
 أغفلها المؤرخون ، إما إستخفافا بأهلها ، أو فرقا من الحكام الذين كانوا في زمانهم .
 وتكتم فيها كثيرون ، خوفا على دمائهم وأموالهم .


(77)

 هذه الحقيقة ، هي صلة التشيع في ( جبل عامل ) بأبي ذر ( رض ) . فان مما توارثه أهل هذا الجبل عن الاباء والاجداد ، أن تشيعهم لمذهب أهل البيت عليهم السلام كان على يد هذا الصحابي الجليل ، عندما كان مقيما في بلاد الشام .
 وهنا يجدر بنا أن نستعرض كلمات بعض كبار الباحثين حول هذا الموضوع .
 قال السيد الامين في أعيان الشيعة : « ومن المشهور ان تشيع جبل عامل كان على يد أبي ذر ، وأنه لما نفي الى الشام ، وكان يقول في دمشق ما يقول ، أخرجه معاوية الى قرى الشام ، فجعل ينشر فيها فضائل أهل البيت ( عليهم السلام ) فتشيع أهل تلك الجبال على يده . فلما علم معاوية ، أعاده الى دمشق ، ثم نفي الى المدينة . . »
 ثم قال : وهذا ، وان لم يرد به خبر مسند ، لكنه قريب غير مستبعد (1) .
 وذكر الشيخ الوالد مد ظله في كتابه ( جبل عامل في التأريخ ) ، كلمات لبعض كبار الباحثين حول هذا الموضوع ، وبدوري أقتطف بعضا من كلماتهم .
 قال الاستاذ الشيخ أحمد رضا : « إن التشيع في بلاد الشام هو أقدم منه في كل البلاد ، غير الحجاز . وهذا من العجيب ، أن يقوم أول ركن ، وتنتشر أول دعوة للشيعة في بلاد محكومة لأعدى الناس لهم .
 ثم استطرد في كلامه عن أبي ذر ، ونشره مذهب التشيع في بلاد الشام فقال : ثم كان يخرج الى الساحل ، فكان له مقام في قرية الصرفند
____________
1 ـ أعيان الشيعة 16 / 358 .


(78)

القريبة من صيدا ، ومقام آخر في قرية ميس ، المشرفة على غور الاردن ، وكلتاهما من قرى جبل عامل ، والمقامان الى الآن معروفان ، الى آخر ما قال .
 ولقد عقبه الامير شكيب ارسلان ، فقال :
 أما كون التشيع في جبل عامل هو أقدم منه في العجم ( ايران ) بل في كل قطر حاشا الحجاز ، فمن الحقائق التي لا خلاف فيها ، ثم استطرد عارضا ظهور التشيع في ايران ، ثم ذكر انه في العرب وبلاد الشام لم يكن ظاهرا ، وأن الشيعة كانت تستمسك بحبال التقية خوفا على أنفسهم ، ولذا تجد المؤرخين يتجانفون عن نسبة علماء الشيعة الى التشيع . . ثم ذكر حادثة جرت بين الشيخ البهائي وبعض علماء السنة في الشام ـ راجع .
 وقد ذكر الاستاذ الشيخ سليمان ظاهر ما يقرب من كلام صاحبيه ، قائلا : إن قدم التشيع في هذا القطر ، ( يعني جبل عامل ) يمتد الى خلافة عثمان ( رض ) والى عهد نفي أبي ذر .
 ثم عقب سماحة الشيخ مدظله ، فقال :
 هؤلاء أعلام ثلاثة من ثقات أهل الاستقراء والتدقيق ، يشهدون شهادة جازمة بقدم التشيع في بلاد عاملة ، وأنه من عهد نفي أبي ذر الغفاري ، كما يشهدون بسبق تشيع الحجاز .
 ثم ذكر كلمة الحر العاملي ( قدس سره ) وهو من أعظم الثقات ومن أجلاء أهل زمانه وهو أقدم من هؤلاء جميعا .
 كان يقول : إن تشيعهم ( يعني العامليين ) أقدم تشيع . فقد روي أنه لما مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن من شيعة علي ( عليه السلام ) إلا أربعة مخلصون : سلمان ، وأبو ذر ، والمقداد ، وعمَّار . ثم تبعهم جماعة قليلون إثنا عشر ،


(79)

وكانوا يزيدون ويكثرون بالتدريج حتى بلغوا ألفا وأكثر . ثم في زمن عثمان ، لما أخرج أبا ذر الى الشام ، بقي أياما ، فتشيع جماعة كثيرة ، ثم أخرجه معاوية الى القرى ، فوقع في جبل عامل ، فتشيعوا من ذلك اليوم (1) الى آخر ما ذكره .
 بعد هذا العرض ، يتضح لنا أن هذا متفق عليه ، لا مكان للغموض فيه . ولكن يمكننا النقاش في عملية الطرح لهذا المضمون ، فنقول :
 مما لا شك فيه ، أن أبا ذر ( رض ) هو أول من بذر هذه البذرة الطيبة في جبل عامل ( قرى الشام ) بفضل إقامته فيها . ولكن إقامته الطويلة الأمد التي استغرقت من عمره سنوات ، والتي كان مرتاحا فيها ـ على الاقل ـ بادئ الامر ، كما قدمنا ، لا منفيا . هذا أولا .
 وثانيا : انه أقام أولا في قرى الشام خلال هذه المدة الطويلة . بدليل قوله « كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم . . » راجع ص 68 . والثغر لا يعني قلب العاصمة ، بل على العكس ، يعني حدود المنطقة التي يمكن للعدو أن ينفذ منها . ثم بعد ذلك ـ يمكننا القول ـ بأن معاوية حين خشي منه أن يفسد الناس عليه ، جلبه الى الشام ليكون تحت رقابته ، ورقابة جلاوزته . فلما رأى انه لايكف عن ذلك ، كتب فيه الى عثمان .
 أما القول بأن معاوية ، نفاه الى قرى الشام أولا ، ثم جلبه اليه ، فبعيد جدا ، ولا يتلائم مع دهاء معاوية وحذره . إذ كيف يعقل أن ينفيه معاوية من الشام بسبب اثارته الناس عليه ، وهو فيها تحت قبضته وسلطانه ، الى قرى
____________
1 ـ جبل عامل في التاريخ ج 1 / 49 الى 54 .


(80)

الشام ، النائية عن العاصمة ، والتي يجد فيها أبو ذر حرية أكبر ـ بطبيعة الحال ـ ومجالا أوسع لنشر أفكاره ، بعيدا عن الرقباء والجلاوزة ؟؟
ومجمل القول :
 فان نسبة التشيع في جبل عامل لأبي ذر الغفاري ( رضي الله عنه ) مما توارثه أبناء هذه المنطقة ، أباً عن جد ، وحبهم لآل البيت ( عليهم السلام ) ، واعتناقهم مذهبهم ، هما الصفة المميزة لأهل هذا الجبل . وعلى مر العصور والاعوام ، وجدنا جبل عامل ، منبتاً لفحول علماء المسلمين من أتباع مذهب أهل البيت ، عليهم السلام ، وستبقى هذه السلسلة الذهبية ، مستمرة لامعة في دنيا الاسلام ، مهما حاول المغرضون ، بترها .
 وسيبقى طهر أبي ذر ( رضي الله عنه ) وشفافية نفسه الزكية ، يطيفان على أهل هذا الجبل ، بركة وخيرا ، وايمانا مستمدا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهل بيته الميامين .
 رحم الله أبا ذر حامل مشعل الهداية والكرامة .
 رحم الله تلك الروح الزاكية التي تشبعت بحب النبي وآل النبي ، حتى فاضت ، وفاضت ، فشملت أهل هذا الجبل ( جبل عامل ) بالبركات .


(81)


(82)


(83)


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net