مكمن الخطر الماحق
يكمن وجود الخطر الماحق في وجود الأكثرية بجيشها ورعاياها وزعامتها وإعادة تنظيم العلاقة بين الأكثرية وزعامتها السابقة ، ويكمن هذا الخطر في طمع زعامة الأكثرية بملك النبوة ، وفي طبيعة نوايا تلك الأكثرية وأساليبها بالوصول إلى أهدافها .
لقد تيقنت الأكثرية وزعامتها بأن محمدا قد استطاع أن يبني ملكا عظيما بالفعل على حد تعبير أبي سفيان ، وأيقنت الأكثرية وزعامتها بأنه ليس بإمكان الأقلية المؤمنة أن تحمي هذا الملك العظيم ، أو أن توسعه دون الاستعانة بالأكثرية ، لقد تيقنت الأكثرية وزعامتها أن بإمكانها أن تستولي على ملك النبوة ذات يوم ، وأن تنتقم لقتلاها وهزائمها ، لذلك رأت أن من مصلحتها أن تعترف بالنبوة ، لا قناعة ولكن طمعا بالاستيلاء على الملك الذي تمخضت عنه النبوة ، فأخذت تعمل لتحقيق هذه الأهداف تحت مظلة الإسلام وخيمته ! ! !
العوائق التي كانت تعترض الأكثرية وزعامتها أول عائق كان يحول بين الأكثرية وبين تحقيق أهدافها ، وجود الرسول والتفاف القلة المؤمنة حول قيادته ، فقد كان من المستحيل على الأكثرية وزعامتها التمكن من الاستيلاء على ملك النبوة أثناء حياة النبي ، لذلك خططت هذه الأكثرية لقتل النبي أثناء عودته من غزوة تبوك ، لقد خرجت زعامة الأكثرية مع الرسول في غزوة تبوك تحت شعار الجهاد في سبيل الله ، ولكن الغاية الأصلية من خروجها مع النبي هي محاولة اغتنام الفرصة لقتل النبي ! ! لما فشلت محاولة قتلها للنبي قررت أن تنتظر بفارغ الصبر موته ! !
وثاني عائق كان يحول بين زعامة الأكثرية وبين تحقيق أهدافها السنة النبوية المتعلقة بمن يخلف النبي من بعده ، فقد ركز النبي بأمر من ربه
تركيزا خاصا على مكانة أهل بيت النبوة فجعلهم مركز الدائرة الإسلامية ، وركز النبي تركيزا خاصا على الإمام علي بن أبي طالب ، فقدمه بأمر ربه ليكون أول إمام يخلف النبي بعد موته ، وعلى أحد عشر إماما من ذريته ، لقد كانت السنة النبوية من الوضوح ، بحيث لا يمكن تأويلها ، وكانت من الحسم بحيث لا يمكن إعادة النظر فيها ولم تجد زعامة الأكثرية وسيلة لإبطال مفاعيل هذه السنة النبوية سوى التشكيك بالنبي نفسه ومقاومة كتابة وتدوين ما يقوله النبي ، وبالتالي تصوير السنة النبوية المتعلقة بنظام الحكم والخلافة من بعد النبي بصورة الآراء الشخصية لمحمد بن عبد الله غير الملزمة ! ! !
وثالث هذه العوائق التي كانت تحول بين زعامة الأكثرية وبين تحقيق أهدافها وحدة الأقلية المؤمنة ، فما دامت الأقلية المؤمنة متحدة ، فلن تتمكن زعامة الأكثرية من تحقيق أهدافها ، لذلك ركزت هذه الزعامة على اختراق الأقلية المؤمنة ، وتدمير وحدتها .
كان من المهاجرين من يتعصب لقريش ، ومن يكره الترتيبات التي أعلنها النبي لخلافته ، ومن يعارض جمع الهاشميين للنبوة والخلافة ، وكان من المهاجرين من يحقد على علي بن أبي طالب خاصة ، وعلى الهاشميين عامة لأنهم وتروهم بالأبناء أو الإخوة أو الآباء أو القرابة القريبة ، ولم تكن لهذا النفر المعارض القدرة على الجهر بما يضمر ، وعندما انضمت الأكثرية إلى المجتمع الإسلامي قوي هذا النفر بها ، ووجدتها زعامة الأكثرية الفرصة التاريخية لاختراق الفئة المؤمنة .
كان عمر بن الخطاب مثلا من المهاجرين ومن المعارضين لجمع الهاشميين بين النبوة والملك ( 1 ) وكان من المتعصبين لقريش ، ومن الطامعين بمرضاة زعامتها الجاهلية وما يدلنا على تعصبه لقريش قوله لرسول الله في
|
( 1 ) راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3 ص 24 آخر سيرة عمر من حوادث سنة 23 ، وشرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ج 3 ص 107 وص 97 وقد نقلها عن تاريخ بغداد . ( * ) |
| |
بدر يوم بلغ الرسول أن قريشا قد أقبلت حيث استشار الرسول أصحابه فوقف عمر وقال : ( إنها والله قريش وعزها ، ما ذلت منذ عزت والله ما آمنت منذ كفرت ، والله لا تسلم عزها أبدا ولتقاتلنك ، فاتهب لذلك أهبته وأعد لذلك عدته . . ) ( 1 ) فالرجل يثبط همة الرسول ، ويمتدح خصمه أمام الأنصار ، لقد أدرك بعض أولياء دولة الخلافة خطورة ما قاله عمر !
فقال ابن هشام في سيرته : ( فقام أبو بكر فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن . . ثم قام المقداد . . . ) ( 2 ) فكتما ما قاله عمر وأبو بكر خشية أن يكتشف المسلمون ما قالاه فتهتز مكانتهما المقدسة ! وما يعنينا في هذا المقام أن عمر وأمثاله كانوا من الكارهين لرئاسة آل محمد ومن المعارضين لجمعهم النبوة والخلافة معا ، ومن المتعصبين لقريش ولزعامتها الجاهلية ، ولم يكن عمر الوحيد الذي يحمل هذه القناعات ، فقد شاركه في حملها الكثير من المهاجرين ، لكن عمر لعب دور المنسق والمنظر والقوة المحركة لأنه لم يصدف أن قتل عمر أو أسر أو سلب أحدا من المشركين ، ولأن عمر كان يمدح قريشا وزعامتها ، ولأن مشاكساته ومزاوداته على الرسول قد انتشرت ، فأحبه المشركون وأحبه المنافقون ، لأنهم قد تصوروا أنه عدو لرسول الله بل وقد أحبه اليهود لأنه كان يتردد عليهم ويحضر دروسهم .
قال عمر بن الخطاب نفسه : إني كنت أغشى اليهود يوم دراستهم فقالوا لي : ( ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك لأنك تأتينا . . . ) ( 3 )
وفي أسباب النزول للسيوطي قال : ( إن عمر كان يأتي اليهود فيسمع منهم التوراة . . . ) ( 4 ) .
ثم إن عمر بن الخطاب كانت له علاقة وطيدة مع المرتزقة من الأعراب ، روى
|
( 1 ) مغازي الواقدي - ط أكسفورد ج 1 ص 48 - 49 ، وامتناع الأسماع للمقريزي . ( 2 ) سيرة ابن هشام ج 2 ص 253 ، وصحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب غزوة بدر ج 3 ص 1403 . ( 3 ) راجع كنز العمال ج 2 ص 353 ، وتدوين القرآن ص 413 . ( 4 ) أسباب النزول للسيوطي ج 1 ص 21 ، وتدوين القرآن ص 414 . ( * ) |
| |
الطبري في تاريخه ( أن أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فكان عمر يقول : ( ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر ) ( 1 ) فلو لم تكن علاقته وطيدة بهم ، أو على اتفاق معهم فكيف عرف أنهم معه ؟ بمجرد رؤيته لهم ؟
هذه الشبكة الهائلة من العلاقات والمعتقدات ، مكنت زعامة الأكثرية من اختراق وحدة القلة المؤمنة ، ومن إيجاد شرخ فيها ، ومكنت عمر بن الخطاب من تكوين جبهة عريضة ، تتكون من الأكثرية التي كانت مشركة ثم أسلمت ، ومن المرتزقة من الأعراب ، بل واقتطع معه فريقا من القلة المؤمنة ، هذه الجبهة العريضة كانت متفقة على الحيلولة بين آل محمد وبين رئاسة الأمة ، وبين سنة الرسول المتعلقة بنظام الحكم وبين التطبيق ، لقد تمكنت زعامة بطون قريش والأكثرية الساحقة بفضل عمر بن الخطاب من تكوين حكومة ظل تنتظر موت النبي بفارغ الصبر لتنقض على السلطة وتستولي على ملك النبوة ، ولم تر زعامة بطون قريش بأسا من أن يتولى الخلافة بعد موت النبي عمر بن الخطاب أو غيره من المهاجرين ، الذين لعبوا دورا مميزا بتسهيل مهمة زعامة بطون قريش والأكثرية التي تؤيدها على اعتبار أن الجميع فريق واحد ، وأن من الأنسب أن يتناوب أصهار الرسول على الرئاسة خلال فترة انتقالية ، ثم تعود رئاسة الأمة الجديدة ، لزعامة بطون قريش الجاهلية المتسترة بثوب الإسلام وهكذا كان .
|
( 1 ) تاريخ الطبري ج 2 ص 458 ، وتاريخ ابن الأثير ج 2 ص 224 وفيه ( فجاءت أسلم فبايعت ) ، ومعالم المدرستين ج 1 ص 119 . ( * ) | |
|